}
عروض

"الأخضر الذي ليس شجرة": شعريّة التهكّم

عماد الدين موسى

10 ديسمبر 2022



هي صورةٌ، صورٌ، لقطات بصرية ليست سينمائية؛ القصيدة التي يكتبها الشاعر السوري عماد أحمد في مجموعته الشعرية الأحدث "الأخضر الذي ليس شجرة"، الصادرة عن دار موزاييك في إسطنبول (2022)، مليئة بالصور؛ صور تضعنا في مشهدياتٍ تبرق، بارقة وإن لم تحقِّق الصدمة. فالبرقة هي ومضة فيها تكثيف شديد لمعنى يدل على حالة نفسية من منشأ عاطفي، أو عصبي: أريدُ أن أتعلَّمَ منك كيف أقودُ اللوعةَ إلى ألَقِها، كيف أتقاسمُ نفسي، مع الوسائد والستائر والهواء، كيف أتقاسمُها معك، أريد أن أتعلَّم، كيف يغرقُ الماءُ في الماءْ.
الشاعر عماد أحمد يغرق، أو يُغرقنا، في برقاته، في تهكماته، هو شاعرٌ متهكِّم. يغني ويروي، يمسك بالكلمات، يشدُّها، يتعلَّق بها، يستهلكها، وهو من دونها؛ من دون الكلمة، والكلمة التي من هذيان، ما من شاعرٍ يشعر ويكتب الشعر إلاَّ وهو يهذيّ. مِنْ قبل هذى امرؤ القيس، وعنترة بن شداد، والسليك بن السلكة، وتأبَّط شرًّا، والمتنبي، وديك الجن الحمصي، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج. الشاعر وهو يقول الشعر لا يعي ما يقول، لأنَّه في (الجواني) يحترق في الحرائق التي أشعلها عقله الذي يضيق بالشرِّ الذي يطبق على الحياة بحثًا عن العدالة: أنا ابن ذلك التراب، أنمو تحت إبط الوقت ببطء، وأبدو حزينًا جدًا عندما أضحكُ، أنا ابن تلك التفاصيل الرخوة، ابن دمعتها التي لا تجف، وأرقها الذي لا يمذرُ، أنا ابن بطنها التي أنجبت ستة عشر رجلًا، لم يفكِّروا بالصندوق، ولكنَّهم ماتوا...




الشاعر عماد أحمد (من مواليد القامشلي، 1982) في صوره؛ ومضاته؛ كمن يصرخُ بالهذيان، يصرخ، يسكر بالأخضر، يهذي بالأخضر من دون كلِّ الألوان، فالأخضر حين يتيبَّس: الأخضرُ الذي ليسَ شجرة يمكنُ أن يكون حطبًا لنارٍ ما، أو كعبين أنيقين لصبيَّةٍ في أوَّل فتنتها، أو سقفًا مؤقَّتًا على الأقل، يمكنُ أن يكون إطارًا كلاسيكيًا، لصورة العائلة التي انشطرت إلى أربع قارات، أو عكازًا لعجوزٍ وحيدةٍ منذ سبعة وأربعين عامًا، أو قبضة سكِّينٍ صالحةٍ لتقطيع البصل والأصابع والذكريات، يمكنُ أن يكون سلَّمًا يصعدُ عليه القادةُ المنتصرون، ويتدحرجُ على درجاته ممثِّلٌ موهوبٌ في نهاية العرض، يمكنُ أن يرنَّ مثل خشخيشة في يد طفلٍ مدلَّل، أو مثل جرسٍ في عنق مرياع، أن يتصاعدَ كغبار أليف، أن يلمعَ كغيمة، أو يذبلَ مثل قلبي الذي أحبَّك...
شاعرنا يغامر برؤياه، يعيش لحظة الشعر لحظةً بلحظة وهو يدوِّر فيرى ما لا نراه، يجوب الشوارع في قصائده: اثنان قليلا حيلة، يدي وقلبي، يتجادلان على طفولةٍّ عالقةٍّ بين أسنانك، فأرخِ لنا الرَّسَنَ قليلًا أيُّها الوطن، إنَّنا نشيخُ بسرعة. رؤية غاضبة؛ برقٌ، لمعٌ، صورٌ من توتُّر، الشاعر متوتِّرٌ ومشدودٌ إلى الفجائع الكبيرة التي كانت صغيرة، وهي تشقُّ وتنسِّق دلالاتها. فجائع؛ فلا طمأنينة ولا تكامل ولا استقرار، فالكلمات التي يشتغل بها قصيدته النثرية على بساطتها، وأحيانًا إخباريتها تخزنا، تصفعنا، تثيرنا: أيُّ قيامة في راحتَيك، ثم أيُّ جنَّةٍ كيْ يعبر الآخرون صراطك؟ ما الذي يمكن أن يفعله الأطباء والمنجمون والفلاسفة وشرطة المرور والمنتصرون والخاسرون والمؤمنون والكفّار والمشردون والعشاق والحمقى.
يدفعنا مثل هذا الكلام إلى التأمل، نتأمَّل لنكون. فهواجس الوجود، وهناك قوى تريد أن تزيحك من الوجود ـ تسحلك؛ هي ما يهجس به الشاعر للخروج من حالة اليأس والعجز، وهو بذلك يعي ما يقول، لكنه الوعي المتيقظ، فيحذِّرُنا ليكون الوعي أشدَّ إيلامًا: الآن؛ أحبُّ كلَّ الأشياء التي أحبُّها بلا حرج، وأكره كلَّ الأشياء التي أكرهها بلا حرج أيضًا، الآن أغيبُ كاملًا ومطمئنًا، مثل أيِّ كلمةٍ خارجة عن السياق، لا ألتفتُ إلى وراءٍ، ولا أطمحُ إلى أكثرِ من هذا الوجع، لا أراهنُ على حقيقةٍ، ولا أعوِّلُ على قيامتها، الآن أندمُ، كما يليقُ بولد مشاغب ووحيدٍ، وسيِّء الحظ.
الشاعر مرعوبٌ، مرتعبٌ من الجسد ـ جسدنا الذي يُقضى عليه في الحروب المُفتعَلة دفاعًا عن كرسي الطاغية، لِتَخرُجَ منه الروح التي هي سجنه وقبره. إلى أين تذهب الروح، وهذه الوحوش الكاسرة بغياب العدالة تقومُ بفعل التدمير والإبادة للكون؛ كوننا. الرعبُ من الجسد؟! سجن، عزل، إقصاء، وحدة: ما الذي يمكن أن تفعله أيّها الأعزلُ، بربع ابتسامةٍ، وثلث قبلة، ونصف حياة؟
لكن على الشعر، وعلى الشاعر، رغم كل هذا الخراب الذي حلَّ بالبشر، أن يُثير ويُنهِض الروح لتعود إلى حريتها، إلى طبيعتها، فالكون لنا. إنه صراعٌ يقيمه الشاعرُ عماد أحمد لنكون أو لا نكون، فالشعر ليس أوزانا وعروضا وأعدادا، الشعر معاناةٌ وتضحية: أؤمنُ بالشعر يحاصرُ عزلةً ويحرِّرُ أخرى، أؤمن بك طريقًا وحيدةً ومختصرةً إلى ما تبقى منِّي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.