}
عروض

"الطريق إلى عين حارود": القيامة تواصل الانتظار

محمد جميل خضر

17 ديسمبر 2022


وجهًا لوجه، على امتداد عمري الذي يغذّ السير، بعنادٍ، نحو أبواب الستين، أقف، لأول مرّة، أمام أدبٍ عبريّ.
ظهيرة الثالث عشر من هذا الشهر، جلست إلى رواية تعبّر عن وجهة نظر روائيٍّ إسرائيليّ، ثم بعد ذلك، لم أبرح مكاني إلا وقد فرغت، قبل موعد مباراة الأرجنتين وكرواتيا، منها.
رفعت رأسي الذي كان مقبلًا مع وجهي ومختلف جوارحي نحو حاسوبي، لأكتشف أنني انفتحت، بعد قراءتها، من دون مقدمات، على عالمٍ جديد، كان مرعبًا بالنسبة لي، ولكنه لم يعد، منذ ذلك اليوم، كذلك.
أما الرواية فهي "الطريق إلى عين حارود"، من تأليف عاموس كينان (1927-2009)، وترجمة الزميل أنطوان شلحت، والتي صدرت طبعتها الجديدة، المتجددة، قبل أيام عن دار "العائدون" للنشر والتوزيع في عمّان.
وقبل الخوض في آفاق قراءتي لها، فإن أهمية ترجمتها إلى العربية، وأهمية اطّلاعنا، نحن العرب والفلسطينيين، عليها، وعلى شبيهاتها من روايات تحمل قبسًا من اختلافٍ مع السردية الصهيونية، تكمن، بادئ ذي بدء، من وجهة نظري، بمدى ما تكشفه لنا من خواء فكرة وجود معارضة حقيقية من داخل الصهيونية ضد الصهيونية. وباستحالة التعويل، لحظة انطلاق قافلة تحرير فلسطين، على أولئك (التطهريين المُلتبسين) من أحفاد هرتزل، المتنعّمين بمنجزه الاستعماريّ الكولونياليّ، المتمثل بإحلال تشرذمات بشرية مكان شعب، واحتلال أرض (الغير)، وسرقة حقوقهم وتاريخهم وموروثهم.
ولعلّي أقتبس هنا من الكلام الوارد على غلاف الرواية الخلفي بلسان دار "العائدون" ناشرة الطبعة  الجديدة من الرواية: "لا تتبنى "العائدون" وجهة نظر الروائيّ، لكنها تنشر الرواية من باب (اعرف عدوّك)". في هذا السياق، فإن إتاحة الرواية لنا عبر ترجمتها، والحق يقال، تشكّل تعريفًا ساطعًا بعدوّنا، طالما أن الصالح منه (وَجْهَ بُكْسَتِه) من منوال عاموس كينان وأمثاله.

 
الأدب القياميّ
تشكّل مقدمة أنطوان شلحت للطبعة الجديدة من الرواية (2022)، مدخلًا حيويًّا، لا بل ضروريًا قبل الولوج في المتاهة السردية التي تتبناها الرواية جامعةً العالم التخييلي مع الواقع الموضوعي: الحقيقيّ والمفترض، داخل متنٍ واحد، وناسجة من الكوابيس والمؤمّلات خيوط قماشتها الروائية العابرة للأزمان.
فالمقدمة التي حملت عنوان "رواية "الطريق إلى عين حارود" وإرهاصاتُ أدب النِّهايات العبريّ"، تتجلى بوصفها رؤية نقدية عميقة الغوص لجلِّ الأدب العبري المكتوب بعد احتلال فلسطين، وحتى قبله (روايات هرتزل على سبيل المثال)، وليس فقط للرواية نفسها. يحاول شلحت في مقدمته فك طلاسم ما أطلق عليه "أدب النهايات"، أو "الأدب القياميّ" (الأبوكاليبتيّ) العبريّ، ويقوم بمسح استقصائي صبور لرموز هذا النوع من الكتابة الروائية العبرية/ الإسرائيلية.
يقول المترجم في مستهل مقدمته: "بدأ الأدب العبري في إسرائيل ينحو منحى رؤيا القيامة، أو النهاية، بصورة يمكن اعتبارها واضحة كفايتها، في أوائل ثمانينيات القرن العشرين الفائت. ويجوز لنا، في هذا الصدد، أن نعتبر رواية "الطريق إلى عين حارود" للأديب عاموس كينان (1927 ـ 2009) من النماذج الأولى التي في مقدورنا تأطيرها ضمن خانة هذا "الجانر" من الأدب، بل وشكّلت إرهاصًا به [للإشارة: قمت بترجمة هذه الرواية إلى العربية وصدرت في العام نفسه لصدورها باللغة العبرية (1984) في مجلة "الكرمل" الفصلية الثقافية الفلسطينية، وعادت وصدرت في كتاب عن "دار الكلمة للنشر" في بيروت في عام 1987، وقدّمها إلى القراء العرب الشاعر سميح القاسم]".
ويشير شلحت في مقدمته إلى تناقض تأسيسيّ يقع فيه أعلام "الأدب القياميّ" العبريين؛ فهم يعتمدون في الروايات التي صدّروها في سياق هذا التوجّه، على فكرة صدمتهم بين ما بُشّروا به، وبين الواقع المُعاش على الأرض، رائيًا أن تلك الصدمة تحتوي على قدر كبير من السطحية والسذاجة (استخدم شلحت عبارة "خفّة في التفكير")، إن كانوا فعلًا لم يفهموا منذ البداية ماهية الصهيونية، ولم يلتقطوا أركان قيامها من الأساس. يقول حول هذه التفصيلة إن الحقائق على الأرض تشير، صراحة، إلى أن الصهيونية لا تعني، فكرًا وممارسة، في واقع الأمر، سوى "ضمّ الأراضي المحتلة منذ 1967 والاستيطان فيها"، بعد أقل من عشرين عامًا على إنشاء الدولة العبرية، وسوى "تكريس الكراهية للإنسان العربي لمجرّد كونه كذلك". وتوضح الحقائق نفسها كذلك أن الصهيونية قد خططت ونفذت عمليات تشريد الشعب الآخر لبناء "الوطن القومي العبري" على أنقاض خرائبه القومية، حتى من قبل أن ترتكب "إثم" ذلك الضم لأراضي 1967.

في مكان آخر من المقدمة، يقول شلحت: "إن العودة إلى اليوتوبيات الصهيونية الأولى تتيح للقارئ الموضوعي إمكان ملامسة الجذور الحقيقية للأدب القياميّ دونما حاجة حتى إلى عناء التنقيب. إن واحدًا من هذه الجذور يبقى شديد الأهمية، إنه ذلك الجذر الذي يحيل إلى أن "التفكير بفلسطين" كعنوان مُشتهى لإنشاء "الوطن القومي" لليهود لم ينصبّ، ضمن الأشياء التي انصبّ فيها، على النتيجة شبه الحتمية لتحقيق تلك الغاية، وهي سلب البلاد من أهلها الأصلانيّين وتشريدهم عنها".
هو، بالتالي، أدب قياميّ من جهة، وإقصائي من جهة أخرى، يتعذب من فداحة المشهد، وينذر بسيطرة العسكر الانقلابيين على مقاليد الحكم في "أرض الميعاد"، ولكنه لا يريد أن يعترف أن هذه الوعد المدّعى، قُطِع على أرض لم تكن خاوية تنتظر (أصحابها الغائبين) و(ملّاكها الأصليين)، كما أسست الصهيونية خطابها، وقامت بالاستناد إليه.
يذهب شلحت في مقدمته إلى أن نقد المشروع الصهيونيّ المستتر بين سطور رواية عاموس وروايات "قياميّة" أخرى، ما هو سوى نقد "تجميليّ". وأولئك، أي نقّاد السردية الصهيونية ومن حبّروا روايات تكشف بعض عوراتها، لم يكونوا، بحسب شلحت، "راديكاليين أو ثوريين"، وبدلًا من أن "ينأوا بأنفسهم عن الاتجاه الصهيوني، ويحاربونه على طول الخط، كانوا مجرّد إصلاحيين". وهم، بحسب الباحث والأستاذ الجامعي الإسرائيلي حاييم بريشيت الذي يقتبس شلحت من دراسة له ترجمها الباحث الفلسطينيّ حسن خضر عام 1995، لا يملكون "أي قوة أو نفوذ"، ولا يملكون، حتى، أي مصداقية، وإلا لكانوا نأوا بأنفسهم، واختاروا، بشجاعة وحزم، أن يصبحوا خارج مختلف مخرجات المشروع الاستعماريّ الكولونياليّ الصهيونيّ.
يخلُص شلحت في مقدمته الغنيّة إلى أن الأدب الديستوبيّ (المعبّر عن تفسّخ المجتمع العبريّ وفساده وتحلّله)، تحوّل، مع انتهاء العقد الأول من الألفية الثالثة، إلى "ما يشبه الظاهرة في الكتابة الأدبية الإسرائيلية. والأمر الأكيد أن التوقف عند هذه الظاهرة، وأمام تأويلاتها، يحتاج إلى ما هو أوسع من هذا المقام. مع ذلك، فليس من المبالغة رؤية أن لهذه الظاهرة تعبيرها الاجتماعي والثقافي، ولها شهادتها المخصوصة على المجتمع، وهذا ما سعينا إلى استجلائه".


أبيض أسود
تحكي رواية "الطريق إلى عين حارود" قصة شخص إسرائيلي يُفترض أنه الكاتب ذاته، ومحاولته العسيرة المُشبعة بالعثرات والمغامرات، للهروب من تل أبيب والوصول إلى عين حارود (لعلّه يقصد عين جالوت) في شمال فلسطين التاريخية، وهي، بحسب أحداث الرواية، البقعة الوحيدة الباقية المحرّرة من نير حكم الجنرالات الذين انقلبوا على نظام الحكم في إسرائيل، وأخذوا يرتكبون موبقات مماثلة لما يرتكبه جنرالات "العالم الثالث"، من تعطيل للبرلمان، وإغلاق للصحف، وعزل للدولة عن العالم الخارجي، ناهيك عن فرض نظام حظر التجوال على السكان.
يستخدم الكاتب حيلة هرب رافي (بطل روايته) مدخلًا يلج عبره دهاليز رؤية سوداوية تلاحقه وتكشف لنا أن الهارب، يُفترض، لم يعد يؤمن بدولة إسرائيل، وأنه يبحث عن مدينة فاضلة تحضن الجميع، وتحدب على الجميع. وأنه سيقيم هو ومن معه ممن تمردوا على واقعهم هناك في "عين حارود" جمهورية العدل والمساواة والحرية والديمقراطية.
مدخل (عال العال) لا بأس به، ولكن الرواية (المشوّقة على صعيد الأسلوب)، ومنذ صفحاتها الأولى، تصدمنا بحجم الدماء والقتل الذي يتقنه الهارب، ويضطر له، كي يبلغ غايته. كما تصوّر لنا حجم المهارات العسكرية والقتالية والتمويهية والخداعية والذهنية الاستثنائية التي يملكها من يُفترض أنه (داعية سلام) يبحث عن المحبة والوداعة. هو ضفدع بشري حين يشاء، وأفضل من يفك الشيفرة حين يحتاج، وبطل المسير الليلي حين لا بد من هذا المسير. حتى لتكاد تنحدر الرواية بنا إلى فيلم (أكشن) هوليووديّ معروف الخواتيم المقصورة دائمًا على انتصار البطل (السوبرمان) وقتله كل من عاداه، وتخلّصه من كل عقده، واجتيازه كل صعب مهما تفاقمت تفاصيل هذه الصعوبة. تفشل كل الفرق العسكرية التي طاردته بإلقاء القبض عليه، وتخطئه آلاف الرصاصات، ويدوّخ الطائرات والرادارات.
اللغة السهلة الممتنعة التي استخدمها الكاتب وحظيت بترجمة نبيهة جزيلة الإحاطة، تشد القارئ حتى ليكاد يصل منتصف الرواية قبل أن يكتشف أن الأمر يحتوي على قدر لا بأس به من المبالغة. قد لا تكون المبالغة هنا سيئة، فمما يتبيّن لاحقًا، أيضًا، أن أحداث الرواية كابوسية تعتمد منهجية الخيال، وتغوص في مرافئ الحلم، وتجدف في روافد اللاواقع.





خلال دروب الهروب يلتقي رافي بعدد من الشخصيات، في المقدمة منهم محمود الفلسطيني، وتدور بينه وبين محمود، وبينه وبين عقيد إسرائيلي، ثم بينه وبين جنرال، وبينه وبين امرأة حالمة، حوارات، تشكّل هذه الحوارات بمجملها، العمود الفقري لرسائل الرواية، ووجهاتها السياسية والمعرفية والتاريخية والوجودية. ولا شك في أن كثيرًا منها لم يعدم الموضوعية، ما يعني أن جزءًا خطيرًا منها، في المقابل، افتقد لأي موضوعية.
في تلك الحوارات، وفي (مونولوجات) رافي الداخلية، يكشف لنا عاموس كينان عن عدد مهول من جرائم إبادة مدن بأكملها، شُطبت من الجغرافيا والذاكرة. وتلك جرائم، كما يُقر، لا ترتبط بزمن احتلال فلسطين فقط، بل تمتد على مساحة الزمن العبري الدموي. كما تكشف عن عنصرية القادمين من كل بقاع الأرض، وهي العنصرية التي لا يبرأ منها رافي (الراوي) نفسه. هذه العنصرية لا تكشفها الحوارات فقط، بل أيضًا سياقات الأحداث وطرائق سردها، والأمثلة لمن يرغب بقراءة الرواية كثيرة. ولو أردنا أن نستعرض سلبيات الرواية وإيجابياتها، على طريقة (أسود أبيض) كما فعل الشاعر الفلسطيني الراحل سميح القاسم في سياق مقدمته لطبعة "دار الكلمة" في عام 1987، فإن من (أفقع) سلبياتها، إصرار عاموس كينان على لسان رافي عشرات المرّات، أن فلسطين التاريخية أرضه "أرضنا، تاريخنا، أرض إسرائيل"، يقول في الصفحة 13 من الرواية: "وهأنذا أهرب من بلادي إليها". لا يتورع أن يقول بلادي، رغم أن جدته، كما يخبرنا في مكان آخر، أوكرانية، وزوجته شقراء بعينين زرقاوين. وكل ما يمنحه، في اعتقاده، حق ادعاء انتسابه لوطن ليس وطنه، أن والده يعقوب ليفين الذي يهدي الرواية لذكراه، كان في عام 1922، أحد (رجال) العصابات الصهيونية، وتحديدًا "كتيبة العمل" (لعله يقصد فرق العمّال بوعيها الاشتراكي التي أسسها مطالع عام 1920، اليهودي الروسي جوزيف ترومبلدور).
من السلبيات، إلى ذلك، جلّ ما يتعلق بشخصية محمود الفلسطيني (العربي بحسب عاموس)؛ فهو من جهة يقبل، بسرعة، أن يكون تابعًا لرافي، يطيع أوامره، وينفذ خططه. وهو غير فطن، ولا حذر، وأكثر ما يسعى إليه الهروب خارج كل الجغرافيا التي يدّعي رافي حفظ أدق تفاصيلها، وهو يحتاج، فقط، إلى فطرة محمود، التي قد تسعفهما خلال التنقّل بسرعة حركة في الليل، وتجعل ملامحه (ملامح محمود) جواز عبور مناطق ذات أغلبية فلسطينية. محمود، إلى ذلك، يتبجح أمام رافي بممارسته الجنس بطريقة غير لائقة مع اليهوديات، في مسعى من الراوي، ربما، لتشويه صورته وإظهار عدم سويته، واضطرابه القيمي والأخلاقي، وهو الاضطراب نفسه الذي جعله يقول لرافي "إنني مسلم" عندما عرض عليه كأس ويسكي، ثم ما لبث أن تراجع، في إشارة، على ما يبدو، إلى عدم ثباته على قراراته، ووهن مبادئه، وعدم تصالحه الوجدانيّ:
"ـ اشرب، قلت لمحمود.
ـ إنني مسلم.
ـ إذن، اشرب مثل واحد لا يشرب.
شرب محمود مثل واحد لا يشرب" (ص 109).
وللموضوعية، فإننا لا نستطيع أن نجزم من خلال هذا الحوار إن كان محمود قد شرب فعلًا، أم اكتفى بإيماءة الشرب.
وأسوأ ما في الأمر حول محمود، هو إصرار عاموس على أن معركة رافي مع أعدائه (داخل الوطن) هي ليست معركة محمود الذي يُعدم في نهاية الرواية رغم (هامشيته) بحسب الراوي، ولن يقتص له أحد سوى رافي نفسه الذي يجعل إعدامه (المجّاني) ثأره وحده، ويقتل من أجله الأعداء الكثر المدججين بالأسلحة، كيف لا وهو المقاتل المخضرم الذي في رقبته عشرات الضحايا (المجّانيين) من (ماركة) محمود الذي تحركه الغرائز، المعلن غير مرّة هزيمته ولا جدوى بقائه في (أرضهم).
من السلبيات تردُّد عاموس بإعلان موقف صريح نهائي ضد المشروع الاستعماري الذي قاده لكل ما آلت إليه مصائره، وهو التردد الذي توسّع الزميل أنطوان شلحت، كما أشرنا، باستبصار أسبابه في مقدمته للطبعة الجديدة. لا شك في أن هنالك ما يبقيه متمسكًا بسردية مضللة ومضللة (بفتح اللام الأولى مرّة، وكسرها في أخرى).
ومن إيجابيات الرواية على كل حال، هذا الارتداد الذاتي (المراجعة الذاتية) أمام فداحة الجريمة التي ارتكبت بحق فلسطين وأهل فلسطين. وكذلك اللغة التهكمية الساخرة التي تناول عاموس عبرها بعض خطوط الدولة العبرية الحمراء. ومن الإيجابيات عمق النبش في الشروخ التي تتسع باضطراد داخل بنية دولة الاحتلال. ومن إيجابيات الرواية إقرارها بعدم توخي السردية اليهودية الدقة التاريخية الحفرية: "مثل الكثير من الإسرائيليين فأنا أيضًا عالم آثار هاوٍ. ولقد تعلمت على مدى العمر، أنا ابن المدينة، أن أقرأ لغة الأرض، وأن أفهم الذي تحكيه. وفَهْمُ الأرض لا يعني أن تعرف بالتحديد متى يكون النمر وراءك، كما ورد في قصص كيبلينغ، أو جيم كوربات. فَهْم الأرض يعني أن تعرف أين كان بشر، وكيف عاشوا، وماذا عملوا، وكيف حلّوا مشكلاتهم" (ص 56). وكذلك إقرارها أن العنصرية قد تطالهم هم أنفسهم، فكما يطلقون على العربي لقب "عربوش" التحقيريّ مدفوعين بعنصريتهم، فإنهم يطلقون على من يختلف مع سرديتهم من أبناء جلدتهم لقب "يهودون" التحقيريّ أيضًا. ويضاف إلى إيجابياتها كشفها وهم ما يسمّى اليسار الصهيونيّ ولا جدواه.
تقتبس الرواية بشكلٍ لافتٍ يسجّل لصاحبها كثيرًا من أنفاس الواقعية السحرية اللاتينية، هذا ما نلحظه في تداخل الجنس مع الحرب في غير مشهدٍ وموقفٍ وإحْداثية (جدليّات التضاد). وهذا ما نلتقطه من تصوير الأمكنة، وغرائبية الحياة تحت الأرض، وتبدّلات الدلالات، واستحضار المعجزات (ظهور الامبراطور الروماني تيتوس، أو طيطوس، على شاشة تلفاز يحتل جدارًا في قاعة منحوتة بمهارة تحت الأرض):
"أعرف أن أحدًا لن يصدقني، لكن على شاشة الجهاز الثالث يظهر الآن طيطوس. لا يمكن الخطأ في تمييزه. إنه هو. أعرفه من تماثيله النصفية والكلية. متسربل بالحرير والأرجوان. ويتجرّع نبيذًا أحمر من كأس زجاجية. إلى جانبه تقف امرأة حسناء. ربما هي برنيكي" (ص 145).




على صعيد الشكل، تزدهي لغة الرواية في مواضع كثيرة بشعرية مؤثرة: "هنا وهناك أحراش البلوط. أخدود أخضر. المرج بساط أخضر جميل. لوز منوّر، بقع من شقائق النعمان، وأزهار الربيع الأولى" (ص 150). أو كما في: "عين حارود هي المكان الذي يبدأ منه كل شيء، وأعرف كيف أصل إلى البداية. لكن لا شيء هنا" (ص 151)، والأمثلة في هذا السياق كثيرة وغزيرة.
ولولا أن الرواية (تُلغوِص) في قضيتنا المركزية، لقلت إن من إيجابياتها أيضًا، هذه اللغة التشويقية الحيوية المفعمة، بين الفينة والأخرى، بروح النكتة والطرافة.


عين جالوت
تكرار أسماء مدن ومناطق فلسطينية وعربية تاريخية ومعاصرة بعينها، سواء بتسميتها الفلسطينية، أو باستبدالاتها العبرية، مثل "مجدو"، أو "أرمجيدون"، و"وادي عارة"، وطبريا، ومكّة، وبابل، ونينوى، وطبعًا "عين جالوت"، أو "عين حارود"، وغيرها، تكشف، بما لا لبس فيه، أن اليهودي/ الصهيوني لا يغفر ولا ينسى، ولا يريد أن يغفر، ولا يريد أن ينسى. وهو ما يشكل استحقاقًا قسريًا أمامنا حول كيفية التعامل مع هذا المكوّن البشريّ المدجج بالخرافة والروايات المتناقلة من جيل إلى جيل حول العماليق، ونبوخذ نصر، وإرميا، وعناثوث، وراحاب، ويشوع بن نون، وأخيمعص بن صادوق، ويوسف بن متتياهو، وإلى آخره من قائمة لا تنتهي في صراع وجوديّ يبدو أنه لن ينتهي سلميًّا كما يحلم (رافي عين حارود).


بين ناريْن
تاريخ فلسطين، وتاريخ الشرق الحزين على وجه العموم، تتدافعه قوّتان جامحتان: قوة العلم وما تخبرنا به الآثار والحفريات واللقى التاريخية والنقوش المعثور عليها هنا، أو هناك، وقوّة الكتب (السّماوية) المقدّسة. تدافعٌ مثقلٌ بالحساسيات والحسابات والتخوّفات وتناقض السرديات وتباين الروايات، ما دفع كثيرًا من علماء الآثار إلى إطلاق مصطلحٍ شرسٍ لا لبس فيه، مفاده أن الشخصيات الواردة في الكتب المقدسة ليس شرطًا أن تكون شخصيات تاريخية حقيقية (بل هي شخصيات دينية)، إمّا أن نؤمن بها مهما تفككت موجبات وجودها، وظهر التخبّط في تبيين زمانها ومكانها، أو ندير، في سياق التوثيق الدقيق، ظهورنا لها، ونبقي عليها، فقط، وفقط، داخل دُور العبادة. يكتوي تاريخنا الملغوم بِنار من هنا، وأخرى من هناك. وبالعودة إلى الرواية، فصاحبها يغرف، من دون هوادة، من التاريخ الدينيّ، ويستشهد بشخصيات وأنبياء دينيين لم يثبت العلم وجود معظمهم، حتى إن عاموس يوهمنا باكتشاف رافي وحده، كنيسا يهوديا تحت الأرض، ها هو ينتظر عودة (أصحابه الأصليين) ألفيْن من السنين!!


في الانتظار...

لم يحِن، بعد، كما تخبرنا رواية "الطريق إلى عين حارود"، موعد قيامة الوعي العبريّ الجدليّ العازم والقادر على دحض الادّعاء الصهيونيّ المقيم. فهي، بالتالي، أي تلك القيامة الكبرى، لا تزال في غرف الانتظار المحاطة جدرانها بعوازل الصوت والصورة والرؤية الثاقبة. وعليه، حتى اللحظة على الأقل، لا يسمعُ الأدب العبريّ إلا نفسَه، ولا يقتاتُ إلا على سرديّتِه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.