}
عروض

عباس بيضون: الشِعر عوضًا عن الجميع

دارين حوماني

2 ديسمبر 2022


كيف يمكن مقاربة قصيدة عباس بيضون التي تبدأ من الجسد ومن الداخل ولا تنتهي عابرةً أزمنة وأماكن وأصواتًا ومختلف التجارب الخافتة من مكان واحد هو بيت الشاعر نفسه في مجموعته الشعرية الصادرة مؤخرًا "كلمة أكبر من بيت" (دار نوفل، 2022، 94 صفحة) والتي نسمع فيها حنجرة بيضون الهادئة من وجهة نظر الوداع والانتظار والندم والصمت والحائط والانفجار والهاربين وسبعين سنة إلى الوراء. كتاب حقيقي ينطلق من القلب، ليس من قلب عباس بيضون وحده، بل منا جميعًا كأننا نتوحد معه وهو يعمل على إيصال تاريخه الذاتي فيعمل في أكثر من مكان على إيصال وجهنا الشخصي أيضًا معه الذي تفكّك مع الزمن فتحوّل إلى تواريخ ضائعة على روزنامة الخسارات والوداعات المتتالية.

و"كلمة أكبر من بيت" تحيل للوهلة الأولى إلى الوعد وربما تحيل إلى الانتماء للكلمات، تلك التي كأنها تتدحرج من أعلى السقف صامتة وبسهولة فإذا بها أبواب ومفاتيح لمعانٍ كثيرة، وهذا التأويل المتعدد ينطبق على قصائد الكتاب التي تخلق ممرها النثري الوحيد، وكما هي كل قصائد عباس بيضون الحساسة والحية التي تسير في وجهة لا غنائية واحدة. ففي طريقه ليكتب شعرًا لا يزخرف الشاعر لغته بل تخرج تلك اللغة كما هي بصوتها الداخلي الصافي، وبحميميتها وحزنها، وبرغم واقعيتها إلا أنها في حالة إصغاء للصور القلقة المتلاحقة من القصيدة الأولى معنونة "لنقل إنه المطر"، يقول فيها: ".. صمت أحادي يسقف العالم/ وأسماء كثيرة لوداعات بدون صوت، لنقل مع ذلك إنهم الأطفال/ لنقل إنه المطر"... وحتى آخر قصيدة معنونة "ثرثرة" يقول: "... الأول وهو يتراجع إلى صفر/ صفر لا يتوقف عن الثرثرة/ لأن هذا الجسد وحيد مع نفسه وبدون حكاية/ لقد نسي تاريخه يتساءل إن كان له تاريخ أصلًا/ إن كانت الحياة التي يجرّها حدثت فعلًا"...

وما نلاحظه في الكتاب خلوّ القصائد من علامات الوقف، فالقصائد كلها تنتهي من دون أن نرى نقاطًا في آخرها، وهذا ينطبق على الديوان السابق للشاعر "الحياة تحت الصفر" وربما يقصد عباس بيضون بذلك استمرار الألم ذاته الذي لا يغادره وذلك "الانتظار من أجل قصائد قليلة/ الخوف لما بعد/ أو هو في الصفحة المقابلة". ثمة حزن ورؤية للعالم من مكان خارج العالم يمتد من آخر مجموعتين للشاعر "الحداد لا يحمل تاجًا" و"الحياة تحت الصفر" إلى هذا الكتاب. وهنا 44 قصيدة مكثفة بسلسلة من بيوتات الشاعر الدفينة وجزئيات جسده المقاومة للموت، معنونة بمزاج الخوف نفسه والبرد والألم والسأم ولكنها مستعدة للحياة باستمرار أيضًا وبدون توقف "قادرة أن تحيي الموتى/ أن يكون الوحي لا يزال يعمل كقاطع طريق/ ويحتاج إلى كهف ليتكلم"؛ في ذلك الكهف يتحول ألم الشاعر إلى بيت شعر ومن ذلك الكهف يكلم الشاعر قصيدته والنسيان والشتاء والحقيقة والفقد المتواصل "أيتها الحقيقة ابقي مكاني لدقيقة واحدة/ كوني أنا قبل أن أختفي"

ثمة حزن ورؤية للعالم من مكان خارج العالم يمتد من آخر مجموعتين للشاعر "الحداد لا يحمل تاجًا" و"الحياة تحت الصفر" إلى هذا الكتاب


ننتقل مع صاحب "الموت يأخذ مقاساتنا" من الفراغ المتروك له، والخلاء الذي كان تعذيبًا، والصمت المضاعف و"الكلمات (التي) ليست عصافير/ ثمة أحجار كبيرة فيها"، "وهذا الخارج، اللا أحد، وحده يهمد متظاهرًا بالنوم في سريري"، لنعود معه إلى عام ولادته وقصيدته "1945"، "كنت مجرد توقيع كَبُر في العتمة.. لم يكن لي أصحاب/ لكن الذين لحقوني زادوني وحشة/ كفتني نفسي/ في الواقع، كانت كثيرة عليّ/ لكن الوحشة كانت بيتي.."، إنه الاغتراب نفسه الذي يصاحب بيضون منذ "أعيش محاطًا بكل أولئك الذين جعلوني وحيدًا"، يحمل شاعرنا رفشًا وينبش في ترابه، وفي وحدته... لا أعوام مستعارة، ولا أسماء مستعارة، كل ما في عباس بيضون حقيقي وصادق وهكذا هو شعره الذي يشبهه تمامًا، التراب مليء بالأحجار وهذه الأحجار بنفاذها على العالم هي حياة بيضون، بوحدته ووحشتها، بذلك الصمت بينه وبين العالم، يرتبها كطريق بين ذاته والآخرين البعيدين عنه فيصير لها أصوات.. "مستعد لأن أكون شجرة/ وأن أكون أخضر على الأغصان/.. لم أعد أبًا أو ابنًا"، هنا تمامًا "وقت الألم يسبق الصورة" كما يقول إيف بونفوا في قصيدته "في سراب العتبة"، كأن بيضون يريد تحرير هذا الوجع المتأتي من علاقته مع نفسه، ومن علاقته مع عمره المتسارع، ومع الموت المقيم في الزمن الراهن بكثرة، وهنا انشغال بلغة تدرك كل ما يفوتنا أن ننتبه له، تسمح لحزن الشاعر نفسه أن يتسرب إلينا، أن يفتح وجوهنا المتفككة ويطل برؤوس من ضوء على ما نريد أن نخفيه عن أنفسنا.

ثمة استرجاع لأصوات من الماضي، النظر أيضًا إلى حياة الشاعر نفسه من مكان منفصل عنها، كأنه يخلع جلده وجسده في الليل فيكتب ثم ينهض بهما صباحًا، يكتب كل شيء بعيدًا جدًا عن الحياة نفسها. هكذا يفعل تمامًا عباس بيضون، يصغي إلى آثار الأقدام خلف النوافذ، إلى حياته وقد أصبحت خلفه كما يراها، إلى الفالانتاين المسروق منذ ثلاثين عامًا، والحقائب التي تتكاثر في النسيان، الماضي السريع والأفكار بعمر الثواني هي ما تشتبك مع خوف الشاعر، "حياة لم يعد هناك ما تفعله/ ما يستحق أن تصحو لأجله"، "لم أعد أعرف أين أنا في الليل/ كيف يجري العمر وبدون روحٍ لا يزال يتنفس/ بدون روح وليس موتًا"، يفحص صاحب "ألبوم الخسارة" الوقت بنفس الحساسية الذي يستدعي إنصاتنا له وهو يحكي عن الموت على طريقته في الاستعداد له، حتى وهو يكلم الراحل برهان علوية بالحزن ذاته المختوم على كل ورقة من الكتاب "أشخاص يصلون نسخًا/ ثمة رسالة من بلجيكا/ ليست حلمًا/ لقد انتهى الاختفاء/ توقيع واحد، رجل يصل ككلمة ليموت في سريري"..

بيضون في هذه القصائد يعيدنا إلى الاغتراب الذي يعدّه مكانه في هذا العالم، فالجملة الشعرية المهيمنة هي تلك المسافة بينه وبين الحياة، وذلك الاغتراب المتنقل من كلمة إلى كلمة والذي أصبح وحده بديلًا عن كل ما ضاع ينفذ بين القصائد ليصير دليلًا له وفهرسًا لتواريخنا نحن من نفس المكان الذي يكلمنا فيه غاستون باشلار وهو يقول: "إن حساسية الشاعر الميتافيزيقية تساعدنا على التقرّب من أوديتنا السحيقة الليلية". وحيث يعيدنا الشاعر إلى حوار سابق لنا معه: "أظن أننا لا نفعل شيئًا سوى الاستعداد للموت بشكل أو بآخر، وكأننا لسنا في مكاننا ولا في وطننا ولا نكون أنفسنا.. كلما عبرنا صرنا أكثر غربة لا عن العالم فقط بل عن أنفسنا. في النهاية نحن نصل إلى درجة لا نعرف فيها أنفسنا بشكل كامل ولا نتعرّف فيها على أنفسنا، أي أننا ننفصل عن أنفسنا، ننقسم في داخلنا أو نكتشف أو نعرف أن ما نسميه داخلًا هو في الواقع ليس سوى هربنا وبعدنا عن أنفسنا وعن الحياة نفسه"، ومن هذه الحافة بين الحياة والموت نقف مع بيضون غير منفصلين عنه مطلين معه على العالم كله، يحكي بأسمائنا وهو يقول: "أجد القصيدة عند يقظتي كتبها ثالث/ وثمة كثيرون يقرؤونها/ لا بأس أن أعطيها اسمي/ عوضًا عن الجميع".  

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.