}
عروض

"البلاد" لعقل العويط: لعنة تلعن من يُضرّج لبنان

دارين حوماني

22 ديسمبر 2022



بين لازمتين معنونتين بحجم الشقاء، "هذه ليست بلادي" و"هذه هي البلاد"، يكتب الشاعر عقل العويط سبع عشرة رؤيا شعرية في كتابه "البلاد-Le Pays" (نوفل/ هاشيت أنطوان) الذي صدر مؤخرًا بالعربيّة والفرنسيّة (ترجمة رينيه أسمر هربوز) في الذكرى الثانية لانفجار مرفأ بيروت، فيقرأها أحد ما ينتمي لهذه البلاد لكنه يقيم خارجها فيشعر بإنصات عميق إلى الألم، وبرغبة في تصديره خارج العالم وخارج الفضاء مع كل رؤيا شعرية نجد جذورًا لها منذ آلاف السنين في كتب مقدّسة موصولة بحبر هذا الكتاب، الذي هو الجزء الأخير من ثلاثيّة التراجيديا اللبنانيّة "الرابع من آب" (دار شرق الكتاب، 2020) و"آب أقسى الشهور يُشعِل الليلكَ في الأرض الخراب" (دار نلسن، 2021) التي كتبها الشاعر عقل العويط بعد تفجير مرفأ بيروت والتنكيل بالمدينة بكل أنواع الصدمات.

هنا، في هذا الكتاب، الألم ليس فكرة، والحزن لا إيقاع موحّدًا له، ووجع بيروت ليس مجرد تصوّر عابر لجسد امرأة مغتصب ومشوّه، هنا "تابوت ومقبرة لتابوت"، وهنا قصائد كاملة من مفردات وأحرف وكلمات تتكدّس فوق صفيح من الجحيم، دماء مهجورة وأخرى طرية وأخرى متخثرة، وهنا إعادة تمثيل الجريمة كطريقة لأرشفة الألم، جريمة 4 آب/ أغسطس 2020، وحيث تحتاج بيروت لإنقاذ روحها وقتلاها فقط إلى "مشانق، مشانق، ما أطيب المشانق..."، بهذه اللغة الحادّة يريد عقل العويط أن يحارب الفسّاق والغادرين، كما يسميهم، الذين لا يتراجعون عن القصور وعن السرايات.
تجري أحداث الكتاب في بيروت، في زمنها الواقعي الواقع ابتداءً من ذلك اليوم والمكثّف فوق زمن لا يهدأ، يذكّرنا بتقديم إليوت لكتابه "الأرض الخراب" وهو يقول "بأم عيني رأيت العرافة سيبل في كوماي، معلقة في جرة، وعندما كان الفتيان يسألونها: سيبل ماذا تريدين؟، تجيب: أريد أن أموت"... سيبل هي بيروت عقل العويط كما يراها بأم عينه، يراها ترغب بالحياة رغبتها بالموت، يقول مستدعيًا إرميا وأيوب من "أسفارهما": "اكتب، اكتب يا إرميا يا أيوب، لامرئ أن يسهر في تابوته على البلاد... اكتب، اكتب، أنا أم حزينة، تخاطب المدينة الكثيرة الشعب جاحديها كأرملة... هاتوا ثورة، هاتوا خروجًا، هاتوا قيامة... هذه بلاد تُطرد من بيوتها، هذه بيوت تُطرد من بلادها، ها جنينٌ في بطن بلادي يصرخ من بطن أمه: لا تأخذيني يا أماه إلى مقبرة أخرى لئلا تقتلني وحشة البلاد..."، ويقول أيضًا "في هذه الساعة الأخيرة من الليل تمشي امرأة حرة في العاصفة تصرخ في العاصفة أشجار تمشي معها وحدائق وأطفال وكتب وسعف نخيل تهتف هللويا لأعواد المشانق...".

ليس وحدهما إرميا وأيوب في كتاب العويط اللذين يخاطبهما، ثمة رؤى توراتية وإنجيلية مستقاة من زمن نوح وزكريا وأشعيا وقديسين آخرين أيضًا... يعود العويط إلى نبوءات أشعيا وزكريا، فحيث نقرأ في سفر أشعيا "مجد لبنان إليك يأتي السرو والسنديان والشربين لزينة مكان مقدسي وأمجّد موضع رجليّ" (سفر إشعيا 13:60)، وفي سفر زكريا "افتح أبوابك يا لبنان، فتأكل النار أرزك" (زك 1:11)، أما العويط فيقول ردًا على نبوءاتهم "أخطأ السفر يا لبنان، أخطأ المنجمون، أخطأت الكلمة القديمة حين قالت افتح أبوابك يا لبنان، ألم أقل لك لا تفتحها فتأكلك النيران، وإذا قال زكريا افتح أبوابك نبهتُك أن السرو سيولول لأن الأرز سقط ولأن الأعزاء قد خربوا...".

الراوي هو الشاعر، والمخاطَب هو لبنان تارة وهو بيروت تارة أخرى، يكلّمها وهو يحكي سيرتها، سيرة مضرّجة بمحرقة وجثث وعش قتيل وحيث لا تخلو قصيدة من الدم أو الدمار أو الدموع... كلمات العويط قاتلة كطلقات في الرأس، وهي أحجار ثقيلة موقّعة بدماء شهداء انفجار المرفأ ووجع عمره مئة عام وعامين منذ أن تقرّر بناء دولة طائفية، بدأت جذور الوجع تنبت منذ ذلك الإعلان "الكبير"- الجحيم... هكذا احتفل المخطّطون بمئوية لبنان، بانفجار يلخّص سيرة المقتولين. كتاب العويط هو الصيغة النهائية لبيروت بعد المئوية وبعد الانفجار وبعد الانهيار "تذهبين بنا إلى جهنم القديمة"، لنكون أمام نصوص صادمة قلقة تشير بيدها إلى مستويات بصرية سوداوية راسمًا جداريات حادّة كأن يقول "على بساط الريح ديدان وعيدانُ ثقاب وهشيم، ومراعٍ خصيبةُ الجماجم، وحجار تعوي آلامًا وحيطان تكاد تنتحر وسعال أحمق ولعاب خانق، وبصاق أصفر الاصفرار، ولمبة دامية في سحاقِ الضوء، وتخرصات وأحقاد وجبال تتدحرج، وكنوز العمى بلهاء، وحشود هي رايات تخفق للذباب للبعوض للأفاعي للعقارب...".

ويتقصى صاحب "إنجيل شخصي" كل ثغرة في جوف بيروت ويملؤها بلغة رافعة للسقطات "مرتّبة بمنطق البحر"، بل يحفر بيديه لتخزين الحرية والأمل والفرح، رغم الأفاعي والعقارب والأحقاد ورغم الغد الذي لن يجد فيه سببًا لانتظار الغد، فنقع على رؤيتين للشاعر يحقّق بهما أحلامه عن بيروت الشعر وعن بيروت الثورة. لا يزال يؤمن العويط بقدرة الشعراء على التحدي وعلاج كسور بيروت. ما الذي سيحدثه الشعراء "ها هي الساعة/ للرد للردع للهجوم/ سيكون عذاب هؤلاء أليمًا/ موتهم أليمًا/ وسيكون ثأر الشعراء/ شعراء اللعنة/ سيكون كيدهم عظيمًا". أما رؤياه الثانية المنعتقة من سلطة الموت فتنفذ إلى خارج الجحيم بحيث لا يقدّم فقط فيها شعرًا بالصورة بل يقدّم شريطًا مصوّرًا عن الثوار القادمين من مساحة لبنان العشرة آلاف وأربعمائة وخمسين مترًا مربعًا نشاهده مدفوعين بحماسة الرغبة لأن تكون هي الحقيقة "يُودعون الخونة وتمتلئ السجون... ما أطيب اللحظة... يصادرون السكاكين/ يفتحون الخزائن/ ينبشون الجوارير... عناوين البنوك دفاتر الشيكات الأرقام والصفقات والأموال المهربة... هوذا الأوان... أن ينفضوا الموت عن المقابر عن التوابيت/ أن يستعيدوا الحياة المفقودة/ البلاد المفقودة".  

 "البلاد" أربعون صفحة كافكاوية كتبها معذّب يعيش في وسط مدينة ممتلئة بالمعذبين، مدينة تريد فقط أن تتخلص من جسدها وسط الجحيم. نصوص ليست وليدة السأم أو وجع عابر، بل هي دخول في أوعية المدينة بجرعات مكثفة بالألوان، بالدم وبقوة اللعنة وبقوة الأمل "كحبر يندلق يصير كتابًا، كلعنة تلعن... من يضرّج لبنان".


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.