}
عروض

"لا يُذكَرون في مجاز": رواية الهامشيّين إذ يتمردون

عمر شبانة

24 ديسمبر 2022


بقدر كبير من التخييل، وبقدرة عالية في "الحكي"، وتداخل بين الروايات والحكايات، وعبر زمانين ومكانين مجهولَين، تتنقّل الروائيّة العُمانية هدى حمد بقارئ روايتها "لا يُذكَرون في مجاز" (منشورات الآداب 2022)، بين عوالم عدة، فهي تكتب رواية قرية "عزلاء" لا نعرف إن كانت تشير إلى بلد ما، هل هي عُمان؟ تحكي الكوابيس والأحلام الغرائبية، وتكتب حجم القبح والبشاعة في سلوك "سيد الحصن" ومستشاره "ألماس"، وخنوع الناس لخرافاتهما السّاعية إلى إخماد أيّة أسئلة/ تمرّد على السّائد، في قريةٍ تُدعى "مجاز"، ممنوعٌ فيها التعليم وتداول الكتاب، وكلّ من يقرأ كتابًا فمصيره "جبل الغائب"، جبل لا حضور فيه للطعام والشراب والشهوة. جبل لكلّ من يرتكب المعصية، وإثمَ الخروج على تعاليم "سيد الحصن". ولعلّ "مجاز" اسم القرية هنا هو استعارة لعالم يحيل إليه عالم الرواية المجازيّ.
تبدأ "البطلة"/ الراوية من حياتها الزوجية المملّة، ومن رغبتها في زيارة جدّتها التي انقطعت عنها سنوات طويلة، فتروي حكاية جدّتها التي تحيلها على جدّة الجدة وحكاياتها السبع، الجدّة بثنة أو (الثائبة) منذ آلاف السنوات، لتحكي حكاياتها عبر شخصية "الضحّاك"، حكايات تروي عن كلّ من حاول قراءة شيء ما، مهما كانت وسيلة القراءة، فمصيره الجحيم المتمثّل في "جبل الغائب"، ما يحيل إلى "جحيم دانتي" من جهة، وربّما "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعرّي من جهة ثانية، لكنّها في الأساس تحيل على مقولة مجهولة القائل "أمواتًا كنّا ونحن لا شيء، لقد ذُكرنا في العدم".
تتسلّم الراوية/ البطلة طردًا من جدّتها، وفي الطرد كتاب من جدّة لها تُدعى بثنة (الثائبة)، أي الراجعة من قرون، وهي في استرجاعها لهذه القرون تسترجع تاريخ بلادها وإنسانها، تاريخ إنسان يخضع للخرافة، فيعيش في بؤس وقهر تتداوله شخصيات خُرافية، في رواية تطلق سبع شخصيّات على لسان الجدّة "بثنة" (الثائبة) عبر التاريخ، التي تقدّم لنا شخصيّة الضحّاك، فيقدّم بدوره، وعلى طريقة "ألف ليلة وليلة" شخصيّات من المغامرين والمغامرات "المنسيّين" الذين ينتهون إلى "جبل الغائب" الذي ينتهي إليه الثائرون على التقاليد والعادات... وذلك كلّه بلغة الموروث الشعبي العُماني، بمفرداته الصعبة على الفهم غالبًا.


الحكايات المُدهشة
الرواية تنقسم إلى عناوين، ولكلّ عنوان حكاية مثيرة، حكايات من خيال بلا نهاية، خيال في اختلاق الشخصيّات، وفي اختلاق حكاية لكل شخصية، أنهار لا تنضب، والحكايات كلّها تصبّ في كأس واحدة، كأس الحرمان من الحرية والحياة، كأس يشربها "سيّد الحصن" ومساعده ومستشاره بلا أيّ اهتمام بمن حوله من البشر، فهم عبيدٌ لا حول لهم في نظام يمنع التنفّس.




فمنذ الفصل الأوّل "الرمّة وكتاب الجدّة وكنبة صفراء" تبدأ معاناة "البطلة" (وهي بلا اسم)، لكنّها تبدأ حياة جديدة مع زوجها، بوجود حشرة سامّة هي "الرمّة"، وننتقل معها بعلاقتها مع كتاب الجدّة "بثنة/ الثائبة" الراجعة من آلاف السنين لتروي تاريخ قرية "مجاز" وحكاياتها.
تروي الراوية أوّلًا قصة "الرمّة وكتاب الجدّة وكنبة صفراء" التي تحكي جانبًا من علاقتها بزوجها، وإصرارها على اقتناء كنبة صفراء ترتاح لها نفسُها، ثمّ اكتشافها كتابًا أرسلته لها جدّتها، ومغامرتها بزيارة الجدّة في قرية "مجاز"، والحادث الذي تعرضت له بكسر في الدماغ وأدخلت المستشفى، لتبدأ تقديم حكاياتها، حكايات الجدّة "بثنة/ الثائبة"، متنقلة بين الحلم والكوابيس والهذيانات والتأمّلات.
ومنذ "الأعين الجافلة وقصص الضحّاك"، ثمّ "معلّم السحر الذي لا يُبتلى"، تبدأ الرواية تتنقل بين واقع الراوية وكوابيسها، بين المستشفى الذي تتلقّى فيه العلاج، وبين بيت جدّتها المتّهمة بالتخريف، ثم جدّتها "بثنة" التي تحمل آلاف السنوات والحكايات عن قريتها "مجاز" التي لا يذكر أهلها البسطاء أحد.
وما بين الرسم والتصوير المشهديّ، وبين التأمّلات في هذا المشهد وذاك، نرى الرأس المفتوح وتلافيف الدماغ والجسد البارد، ونرى الرمّة (الأرَضة) تشقّ الدماغ وتشرب من سوائلها، وسط ظلمة حالكة. نشهد المنام/ الكابوس، ونقابل الزوج (18 سنة زواج وبلا أطفال، بل مكتبة مشتركة فقط)، الزوج الذي يفسر كابوس زوجته وحالتها: لا عمل لديها، مع "حبسة الكتابة"، تقطيع الخضار مقابل مكتبة مفتوحة يولّد الشعور بالأمان؟! الزوج محلل سياسي واقتصادي في الصحف والتلفاز، ونقرأ عن "نزوة الكتابة" لديها، وعلاقتها بالكنبة الصفراء، ووصف زوجها لها بـ"امرأة كسولة ويائسة تنتظر قصّة لا تحدث، ويعذّبها عقلها اللاواعي بالأحلام"، و"تتحدّث عن الكتابة والأفلام وليس لديها حياة واقعيّة"، وتتذكر الأم والأب دائم المرض ويشعر أنه طفل، الجدّة وممارسة "الخرافة المحرّمة... والأعمال المُشينة التي تلوّث السّمعة"، الزوج يغسل أطباق الغداء ويجفّفها! الرمّة تأكل دواليب الكتب مثل حريق، والزوجة لا تسمح للضوء والهواء بدخول البيت فتنمو الرمّة في العتمة والرطوبة، النوم ألدّ أعدائها، أسراب من الرمّة... واقع أم وهم؟ وهي تقتلها بالكتاب؟ أجواء شديدة الغرائبية.
رحلة الكاتبة إلى جدّتها في قرية مجاز النائية (300 كم عن مسقط) حاملة الكتاب الذي يحوي حكايات الجدّة بثنة (الثائبة)، هي رحلة الجزء الأكبر من الرواية. "كتاب خرج من الغيب"، قرية الجدّة/ الطفولة- قرية "جوجل ماب سيساعدني"، الاستعداد للسفر إلى الجدة، لمعان العينين والتوهّج... ولادة قطط جديدة تسبب ارتعاشات لجسدها/ في موازاة ولادتها هي، ولا تنسى أن توصي الزوج برعاية القطط "زوجي الذي يفضّل إشعاره دائمًا بأنه المنقذ، وأنه سبب أصيل لبقاء الأشياء في نصابها الحقيقيّ، كي يعطي أفضل ما لديه...". وفي الطريق تستمع لصوت فايا يونان، وتسرد مخاطر طريق القرية الوعرة، وتخشى الانقطاع من الوقود والهاتف، ويستمر الصراع مع الرمّة "تخرج من الكتاب القديم"، ثم يحدث لقاء الجدة: حلم أم واقع؟! الجدّة تعالج جروحها بالأعشاب والحليب والعسل، السيارة احترقت؟! الجدة بثنة الثائبة من مئات السنين للحفيدة "المختارة"، فهي تختار قارئة واحدة كل مائة عام، لكن لغة الكتاب لغة بائدة، ويحتشد بالخرافات التي تنطوي على مفردات من اللهجة العاميّة القديمة، غير أنّه مكتوب بلغ فصيحة مفعمة بالشعرية أيضًا.




ولأنّ من الصعب عرض سبع حكايات، فإن الاكتفاء ببعضها يُغني عن ذلك، رغم أن لكلّ حكاية عالمها وطقوسها وشخوصها وأسماءها المميّزة، لكنّ ما يميزها ويجمعها هو أن ساردها "الضحّاك"، وجامعتها في الكتاب "الأسطوري" هي "الثائبة". والحكاية الأولى والأساسية التي تستحقّ أن تُروى، هي حكاية الضحّاك نفسه، حكاية تمرّده ونفيه إلى الوادي، وليس إلى "جبل الغائب" المخصّص "للمنسيّين من رحمة الله"، بينما الوادي لمن هم أقلّ إثمًا.
تقول العجوز بثنة الثائبة: و"لدى الناس رغبة جامحة في الحكي، لكنهم يقبضون على حكاياتهم، كمن يقبض على ألم ينهش أعمق نقطة في روحه"؟؟ و"اعتادوا أن يستمعوا وأن يهزّوا رؤوسهم..."، و "لم يُفصحوا لي عن أسماء الذين لا يُذكرون في مجاز، لم يقولوا لي قصة كاملة"، و"هناك من أمكنه أن يروي الحكايا كاملة... إنّه الضحّاك... يضحك في السرّاء والضرّاء"، وبثنة "تريد أن يروي أحد ما قصتها، إن في ذلك حياة جديدة لها كل مرة"، و"تعرف عذاب الناس الذين لا تروى حكايتهم". وتكمل بثنة "حكت لي السيدة العجوز، هامسة متلفّتة، عن أمر المنسيّين الذين لا يُذكرون في مجاز، وعن الطبقة الهلاميّة الشفّافة التي تقع كحاجز بين عالَمين".
يمكن اختصار حكاية الضحّاك بكونه يسخر من حكايات وقصص ألماس مستشار سيّد الحصن بشأن الآثمين، فاعتبره مختلًّا ومخبولًا، لذا أبعده إلى الوادي؟
بثنة تزور الضحّاك في "منفاه" لتسمع حكايات المنسيّين الذين يتمّ نفيهم إلى جبل الغائب. فتبدأ الحكايات تتوالى من الساردة بأسلوبها المتدفّق الذي تتعدّد فيه أشكال السرد، ويتلقّى القارئ الحكايات بمتعة لا يريد معها أن تنتهي.
أما حكاية "المُعلّق قلبُه بصفحة السماء" فنتابع فيها الضحّاك يروي للثائبة حكاية "نُجيم"، وهذه حكاية تستحق أيضًا أن تُروى للتمثيل عمّا تقدّم الروائيّة من حكايات مدهشة. يخرج "نُجَيم" من رحم والدته بعد مخاض قصير، يولد وهو يتطلع نحو السماء ونجومها ويبتسم، ومن هنا اسمه "نُجيم"، ينام في النهار ويسهر طوال الليل. والده يجلب له الكتب، بضغط من زوجته "أم نجيم"، لكن نجيم يريد أكثر من القراءة، يريد السفر لدراسة الفلك والنجوم. يلتقي في "جبل الممكن" مع الفتاة/ النجمة "الثريّا" التي تعرف كثيرًا عن النجوم، ويقع العشق بينهما. وفجأةً تغيب الثريا في ما بين الواقع والحلم. يستشير نُجيم حكيمة القرية المعتكفة "الخبّابة" في أمر غياب حبيبته الثريّا، فتكشف له إنّ "الثريّا ليست امرأة، ليست من بني جنسنا الآدميّ، الثريا نجم في السماء، كانت تراك من علٍ... أوقعتْ نفسها من السماء لأجلك..."، وجاهرت لأخواتها بحبها قائلة "أريد أن ألمسه وأن يلمسني علّني أشفى منه"، وحين يعلن رغبته في الزواج منها تنزل له، فيتزوجها، وهو الإثم الذي يستحقّ النفي إلى جبل الغائب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.