}
عروض

محمود شريح يتذكر أهله وصحبه وأساتذته ببيروت: ذاكرة متوهجة

صقر أبو فخر

26 ديسمبر 2022


محمود شريح هو، بلا ريب، مختار منطقة رأس بيروت (وبرج البراجنة وضاحية الرويس أيضًا)، و"عميد الطلبة" القدماء والمحدثين في الجامعة الأميركية في بيروت؛ فهو يعرف كل تفصيل عن تلك المنطقة وسكانها وأزقتها وما جرى فيها منذ ما لا يقل عن خمسين سنة أو أكثر، بما في ذلك أعمار معظم النساء، وأسماء أزواجهن وأبنائهن، فضلًا عن آبائهن وأمهاتهن ومصائرهن الغرامية والشخصية والعملية. وهو راوية حياة الناس story Teller في تلك المنطقة الفريدة، وحكواتي حاذق من المحال أن يروي غيره حكاياتها بطريقته الممتعة بمن فيهم السكان الأصليون لهذه الفسحة العمرانية المشهورة، أمثال آل العيتاني، وربيز، وبخعازي، وثابت، ويموت، والداعوق، وشاتيلا، وجريديني، وشماعة، وبدر، ومرهج، وسلامة، ودبغي، ومحيو، وفاخوري، وقدورة، وحداد، والأنسي، وطبارة، وأرقش، وسعادة، وبوري، والبارودي، وقشوع، وقرطاس، وماميش، وخياط، وجحا، وقيقانو، والمقدسي، وكنيعو، وجبور، وضومط، وخوري، وكركبي، وبشور، والغلاييني. وهؤلاء في معظمهم من أصول سورية وفلسطينية، وقد تناثروا في مساكنهم فوق أحياء وزواريب أشهرها زاروب الحرامية، وزاروب التمليص، وزاروب أم زكور، والزاروب المبروم، وغيرها. ومنطقة رأس بيروت، وبالتحديد شارع الحمراء، كان اسمها "جرن الدب"، وصارت جراء تأسيس الكلية الإنجيلية السورية فيها (الجامعة الأميركية في ما بعد)، وجراء هجرة السوريين والفلسطينيين إليها في أعوام 1860 و1940 على التوالي، واحة للاندماج الاجتماعي والعلمانية والتفاعل الإنساني المديني المخالف لعداوات أهالي الجرود والجبال وعصبياتهم. وحكايات محمود شريح عن رأس بيروت وقصص طلاب الجامعة الأميركية تكاد تتلاشى من ذاكرة أصحابها، ومن رؤوس مَن عاش فترة التحفز السياسي والازدهار العمراني والثقافي التي كان للفلسطينيين والسوريين، فضلًا عن اللبنانيين بالطبع، الشأن البارز في منح مدينة بيروت تلك المكانة المشهودة. أما ذاكرة محمود شريح فما برحت متوهجة ومحتفظة بجميع تفصيلات الحياة اليومية في شوارع بلس، والحمراء، وجان دارك، ومدام كوري، وعبد العزيز، والمكحول، والمقدسي، والكومودور، والسادات، واللبّان، ونزلة أبو طالب، وسانت ريتا، وجوار مخفر حبيش، ومحطة غراهام، وعين المريسة، ومن حاووز الساعاتية شرقًا إلى كراكاس، ومحيط بناية يعقوبيان، ونزلة المنارة غربًا. لكن تذكراته (ومنها ستة مقالات في موقع "ضفة ثالثة"؛ بعضها متشابه، وبعضها متوارد، وبعضها مُعاد البث) نثرها في غير جريدة، أو كتاب، وبعثرها هنا وهناك مثل شعبه المبعثر في كل مكان، فكتب "سنواتي العشر الأولى" (1996)، و"معلمتي ماري حلاب" (1996)، و"يوميات مهاجر" (2003)، و"كمال الصليبي: ذكريات" (2013)، و"الفردوس المفقود: بيروت كما عرفتها" (2018)، وها هو اليوم يصدر جانبًا من ذكرياته في كتاب عنوانه "عن أهلي وصحبي وأساتذتي في بيروت" (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2023، 143 صفحة). ولو أنه جمع نثار ذكرياته هذه في كتاب واحد لجاء آية في الكمال، وفريدًا في الحسن والاعتدال. ومهما يكن الأمر فقد أهدى هذا الكتاب إلى أخته أحلام، التي هي الأولى على رأس شقيقاته الخمس، ولم يُغفل بالطبع ذكرياته عن والده مصطفى، ووالدته منيبة، اللذين لهما حضور حارق في هذا الكتاب الذي ألحق به، من خارج سياقه، أربعة مقالات كان نشرها بين 1992 و2022، وحملت العناوين التالية: "جدلية الغربة والإقامة في الشعر العربي الحديث"؛ "الرسالة إلى أديب فرحة"؛ "الرحلة إلى أميركا"؛ "[أنطون] سعادة في المسألة الفلسطينية".


لا أسرار ولا أستار
هذا الكتاب تكثيف لطيف لشوط مديد من حياة محمود شريح بين أهله وأصدقائه، وهو في مبناه ومعناه قطوف من الذاكرة، وفيه شذرات من طفولته ويفاعته ومن لوعة الحب الأول في زمن المذياع القديم الذي أورثه الشغف بفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ. غير أن محمود شريح في هذا الكتاب الجديد لم يفضح سترًا، ولم يكشف سرًا، مع أنه ألمح، بلغة الإشارة، إلى اقتراب الحب منه مرتين: مرة في فيينا، ومرة في لويڨيل الأميركية. لكن هذا الحب الجديد الذي أشعل جمار قلبه لم يُطل الإقامة، بل عبر في داخله عبور سويعات وربما أيام قليلة. لكنه، خلافًا لحيائه حيال لحظات الهناء غير المتوقعة، باح بغرام وقع فيه بعد أن تخطى الستين، وكانت "المحبوبة" في عشرينياتها؛ رآها مرتين فقط، ولم يفصح عن اللواعج المستجدة إلى أي صديق، بل انتظر سنوات قبل أن يعلن عن ذلك الحب في ذكرياته هذه. وبين الحب الأول، حين كان في الرابعة عشرة (ص 29)، والحب الذي دهمه بعد الستين (ص 98)، جرت مياه كثيرة، وتغير العالم كله، واستقر فريد الأطرش في ركن قصي من زوايا الذاكرة.




سار محمود شريح في هذا الكتاب على نهج صديقه وصديقنا شوقي أبي شقرا حين أصدر سجلًا حافلًا عن حياته وأصدقائه بعنوان "شوقي أبي شقرا يتذكر" (بيروت: دار نلسن، 2017، بالتعاون مع مجلة الحركة الشعرية في المكسيك التي يصدرها الصديق قيصر عفيف). لكن شوقي أبي شقرا تذكر نحو 300 شخص من أصدقائه، وأنا بينهم، وحشرهم في 815 صفحة من القطع الكبير، بينما اختار محمود شريح نحو أربعين من أصدقائه فقط، و"زركهم" في 143 صفحة من القطع الصغير، علمًا أن أصدقاءه يبلغون فيلقًا في عداد الجيوش، أي ما لا يقل عن ثلاثة جحافل، وهو ما يجعلني أستنتج أن للكتاب أكثر من بقية. أما أصدقاؤه وأساتذته الذين قبعوا بين صفحات الكتاب، فهم: رلى الزين، أنيس صايغ، أديب فرحة، مي حريق، جبرائيل جبور، ميّا ثابت، فيليب نجار، كمال الصليبي، صقر أبو فخر، صالح جعفر آغا، خالدة سعيد، الطيب صالح، ندى أديب، سعيد الحسن، ندى حداد، عبود شماس، يوسف الصلح، مريم قاسم السعد، لمى جراح، سهيل بشروئي، مروان عبادو وفيولا الراهب، هشام شرابي، عوض العتيبة، حازم الحسيني، عادل أندراوس، محمد الدجاني، بسام النعماني، هدى النعماني، محمود درويش، نديم قائد بيه، جورجيت مبارك، محرز سمعان، فؤاد رفقة، طوني عساف، فيليب سفر، نافذ قبلان، علي رضا.


الذكريات والخوف من المحو
يفرّق كمال الصليبي السيرة الذاتية عن المذكرات. فالسيرة لديه مصدر من مصادر التأريخ، بينما المذكرات هي ما يتذكره الشخص بالتحديد. والوقائع التاريخية ليست بالضرورة هي ما وقع بالفعل، بل ما يتذكره صاحبها بعد زمن طويل. وما يتذكره الإنسان، خصوصًا بعد وهن الذاكرة، ووطأة العمر، أمر، وما حدث بالفعل أمر آخر ربما يتطابق مع الوقائع، وربما يدانيها، وربما يحيد عنها (أنظر: صقر أبو فخر، "الهرطوقي الحكيم: حوار مع كمال الصليبي"، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2012، ص 65). ومحمود شريح متضلع من كتابة التراجم، وكتابه عن توفيق صايغ كافٍ ووافٍ (أنظر: "توفيق صايغ: سيرة شاعر ومنفى"، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 1989).




وما التراجم بالتعريف إلا أن يكتب مَن هو فوق التراب عمن هو تحت التراب. لكن دوافع التذكر لدى الفلسطينيين، والانهماك في كتابة سيرهم، يختلفان عن دوافع التذكر المعتادة لدى الآخرين؛ فالتذكر يقيهم رعب الاندثار والمحو والذوبان وفقدان الهوية. وفي هذا الميدان، نفهم لماذا يلتفت الفلسطينيون إلى كتابة سيرهم أكثر من غيرهم. فالمكان عنصر تأسيسي في تكوين الهوية الفلسطينية، والهوية نفسها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمكان. لكن المكان عند الفلسطيني ليس هو الوطن الملموس، كما هو عند جميع شعوب العالم، بل الوطن المفقود. وهذا المكان المفقود لا يمكن استرجاعه إلا بالتذكر.

* * *

اللافت في ذكريات محمود شريح التي نحن في صددها الآن، أن العنوان الفرعي ـ subtitle ـ لها هو "صور ومناظر ومشاهد". لكن لا صورَ بصرية إطلاقًا في هذا الكتاب، بل تخيلية، على غير عادة محمود شريح، وخلافًا لغرامه بالتصوير واعتنائه بالصور. ولهذا أتنبأ بأن للكتاب بقية آتية لا ريب فيها، وسيتضمن الكتاب المقبل بالتأكيد فيضًا من الصور الصامتة والناطقة في آن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.