}
عروض

"سوداد": الفلسطيني الجميل ومتاهة المنفى

فيصل درّاج

3 ديسمبر 2022


لازمت كتابة فاروق وادي، الذي فارقنا قبل أسابيع، نزعة شعرية تتكشّف في اللغة ومتابعة الجمال في تفاصيله الصغيرة، ومنظور رومانسي يرى الجمال في زمن مضى ولن يعود. وسواء أكثر من الكتابة، أو اكتفى بالقليل، وكان مُقّلًا، فقد تميّز من غيره وبدا صوتًا أدبيًا فلسطينيًا لا يعوزه الاختلاف.
ربما يكون في عناوين أعماله ما يشهد على عزوف عن الخطاب الأيديولوجي ـ السياسي المباشر، وميل صريح إلى الإنساني الشفيف ومواجع الروح. أعطى مجموعته القصصية الأولى عنوانًا يومئ إلى تصوّراته: "المنفى يا حبيبتي"، إذ الحب مظلّل بأطياف الوطن المسلوب، وأخذت الثانية: "طريق إلى البحر"، إذ البحر يختار للمنفى المرفأ الذي يشاء. وحين عالج الرواية، أخلصت عناوينه لما يراه: "عصفور الشمس"، حيث العصفور البالغ الصغر يستدفئ بالشمس ويجاورها، و"سيرة الظل" التي رأت وراء المهموس صوتًا فلسطينيًا واضح النبرة.
ربما يكون في روايته الأخيرة: "سوداد" ـ هاوية الغزالة" (منشورات المتوسط ـ 2022)، التي زامن صدورها رحيله، ما يكشف عن نظره الشعري ـ الرومانسي المشبع بصور تخاطب القلب، وتحاور الروح المتَعَبة. و"سوداد" تعبير برتغالي لم تألفه اللغات الأخرى، ولا ما يترجمه إلى العربية ترجمة راضية، فهو أقرب إلى الحنين والشوق والوَجْد، من دون أن يعادل ذلك تمامًا. إنه الحنين الملتبس إلى جمال تألفه الروح، ولا يعبّر عنه اللسان. أضاء فاروق ما قصد بصور ومجازات لغوية: هاوية الغزالة، لغة الريح التي تلامس الإنسان وتمضي، المجاز الحكائي الموّحد بين الجمال والموت، الحكايات التي تسرد الحكايات والعناوين الصادمة: جرف الدم، قضبان العاشق، نذر العاصفة... ليس في المنافي ما يريح القدمين إلا بعد مشقة...
أقام فاروق وادي منظور روايته: "سوداد" على وحدة الجمال والموت، تضاد القبيح والجميل، تناقض الوطن والمنفى، وتبدّد الفلسطيني الجميل في عوالم الرمل والبريق المستعار. مارس في نصه قاعدته: "حكايات تسرد حكايات"، حكايات تتبادل الإضاءة، تتكامل، تبدأ بفلسطيني جميل الشكل عاثر النهاية. ففي "المُفتَـتَح" حكاية مجاز عن أمير يطارد غزالة شاردة تسقط في جرف هائل لا رجوع منه. يفضي المفتتح إلى آخر يسرد نهاية الفلسطينيْين: ياسمين ووسيم، وروحيْهما من اسميْهما، جارت عليهما "المنافي" والتقيا في أرض فارس عربي، بلا فروسية، يحتز رأسيهما بحجة "الزنا" والعبث بأصول الضيافة. ينتقل المجاز الحكائي عن الغزالة والصياد إلى أرض واقعية، الفتاة من رام الله، والشاب لجأ من حيفا إلى لبنان، وقذفت بهما الأقدار إلى أرض الرمل والنفوس الجافة المتغطرسة. تكلّل المصيران بالدم، رُميا زورًا بتهمة الزنا، التي تحرّض عليها الرغبة بالدم والتديّن الكاذب وانتقام الأرواح القبيحة من فلسطينيين، عوقبا بالمنفى وبحاجات الحياة. رسم وادي المصيريْن بتفاصيل تحتشد بالرعب والغضب، بألم حارق يشكو عذاب المتألم إلى السماء، ويتهم السماء بصمت تكفرّه الأرض والسماء معًا.
اتكأ على مبدأ التوليد الحكائي، إذ كل حكاية تتجدّد في غيرها، توالدت الحكاية ـ المجاز عن الغزالة والصياد في حكاية ثالثة عنوانها: "عطر الياسمين"، حيث العطر يخنقه الغبار، والياسمين يجفّ وتذروه الرياح. استولد الروائي ـ الحكّاء في حكايته الثالثة فلسطينيًا جديدًا، وسيمًا بدوره، انفتح على امرأة فلسطينية: "الست زهور"، لها شيء من اسمها، تحب الحياة، عفوية السلوك، دارت طويلًا في شوارع القدس، تمدّ جسرًا إلى أخيها "نعيم" الذي هاجر مع الأهل إلى مصر، فلم يعثر على "النعيم"، واندثرت آثاره، مثلما سينهش المرض جسد "زهور"، ويدعها على أبواب فقدان الذاكرة.




على عكس: "زهور" التي التحفت بفلسطينيّتها العارية ورحلت، فإن "ياسين" محور الحكاية الثالثة، يمتد في أماكن كثيرة تبدأ من رام الله، وتمر على الخليج وليبيا ولبنان وسورية، إلى أن يتكوّم على ذاته مخفقًا بعد عودة إلى رام الله لا تضيف إلى مصير البائس شيئًا. وكما امتد الفلسطيني المخفق في أراض عربية زادته إخفاقًا، يمتدّ فلسطينيًا في أخ وأب وأم، وفي ابنة ـ لا يعرف عنها شيئًا ـ برتغالية الأم فرنسية الإقامة، جار عليها العبث وتداعي المسؤولية، وفي صحافية فلسطينية من قرية "بيت صفافا"... لكل فلسطيني حكاية رماه بها المنفى، ولكل مكان فلسطيني حكايات، حيفا التي نزفت ما تعرفه، وأجهدها ما لا تعرفه، اكتفت "بوادي النسناس"، و"رام الله" التي تبدل سكانها وبقيت لغتها فلاحية النبرة، والقدس التي خلع الاحتلال جدرانها غير مرة، و"صفافا" التي قسمها الاحتلال عام النكبة إلى قسمين، تفصل بينهما أسلاك شائكة يتجمع حولها شطر من القرية ليشارك الطرف الآخر أفراحه!!
أخذ وادي بدائرية الشجن، إذ في كل حكاية حزن يتابع حزنًا سبق، وبدائرية السرد الحكائي، فلكل حكاية بداية ونهاية قرّرها المنفى، وتركت للفلسطيني مرارة الانتظار والخيبة. فالملكة البيضاء التي اقترنت بأمير ماسخ بالغ البذخ انتهت إلى متاع من أمتعته الأخرى، وعاشق رام الله الشهير لم يظفر بما رغب فيه، والسيدة زهور لن تلتقي بأخيها، ـ وأخوها خاب في ما سعى إليه، والقدس تخفّفت، غصبًا، من شوارعها العربية، وبقيت "صفافا" كما كانت، أرضًا مقسومة محوّطة بالأسلاك الشائكة واللقاءات المؤجلة.
عهد وادي إلى نصه الروائي المليء بالتفاصيل "بتمويه الشجن الفلسطيني"، فابتعد عن السرد المستقيم، واختار سردًا متقطّعًا، يُستهل بالشعر المتأملّ، ويخترقه شعر الكتابة بصوره الملوّنة، وبنثره المتدفق الذي ينافس العناصر الحكائية ويبنيها، يحرف النظر عن عنف المنفى ويقوده إلى جمال متدفق تصنعه اللغة. لذا لا تتضح بدايات السرد إلا في نهايته، ولا ننتقل من رام الله إلى تولوز في فرنسا إلا بعد المرور على بيروت والخليج وفلسطين والبرتغال... جمع وادي في السرد المتقطع بين جمالية الحكاية القائمة على السرد المشبع بالإشارات وتمزق الفلسطيني في المنفى: الذي بلا وطن ليس له إقامة سعيدة ولا قبر مستريح.
أدرج وادي في نصه الروائي مفارقة تثير الفضول، إن لم تكن مرجع الرواية الأساسي: فالشخصيات الفلسطينية جميعها فَرِحة الاسم (ياسمين، زهور، نعيم، وسيم، ناهد)، حزينة المآل. لماذا ينتهي الجميل إلى مصير بائس؟ مايز الروائي بين الأصل الفلسطيني الذي سبق المنفى، وساوى بين الأصل والجمال، وفلسطينيّ المنفى الذي ابتعد عن أصله وكساه المنفى قبحًا وضياعًا وبؤسًا كما لو كان تحرّره من السلب لا يتحقق إلا بعودته إلى وطنه، أو كما لو كان المنفى انتزع من الفلسطيني أصله البعيد الجميل، ورمى عليه قبحًا وإخفاقًا وضياعًا. الوطن نور وخارجه متاهة.




ما هو منظور العالم الذي قامت عليه رواية "سوداد"؟ قامت على ثنائية الموت والجمال، وهي من الموروث الرومانسي القديم. ابتلع الموت الشخصيات الفلسطينية الجميلة جميعًا، ووضع على لسان العالم تشاؤمًا صريحًا. لكن الشرط الفلسطيني القائل، لزومًا، بالعودة واستعادة الأصل القديم، "أجبر" الروائي على ترك حكاية وحيدة مفتوحة النهاية، مجلاها شابة فلسطينية الأصل (الإبنة المنسيّة) تبحث في المنفى عن أبيها بإرادة لا رجوع عنها، أبيها الذي شغلته عنها مكاسب ورغبات فارغة.
الواجب ذكره أن الشاعر البرتغالي الشهير فرناندو بيسوا صاحَبَ نصَ فاروق الروائي من البداية إلى النهاية، محققًا أمرين: توطيد الوعي الأسيان الذي لا يحتاج إلى برهان، والإعلان عن جمالية النثر القادر وحده على تصوير الأرواح المغتربة. ذلك ان بيسوا اشتهر بعبارته: "لا شي يبكيه سوى النثر". ولعل وجوه النثر المتعددة هي التي وضعت في الرواية أشكالًا متنوعة: الأمثولة، المأساة، القصيدة، وملحمة ناطقة ـ صامتة حايثت أحوال الروح الفلسطينية المقاتلة من أجل البقاء.
بنى وادي روايته بجهد ذاتي عالي الصوت، بمواد معرفية مستمدة من الواقع والمتخيّل، تمتد من بوح الروح الجريحة إلى "الأرشيف"، ومن التاريخ المعلن إلى احتمالات الزمن المتكاثرة. أنجز فاروق وادي في روايته الأخيرة، بالمعنى الحرفي والمجازي، عملًا فنيًا متكاملًا يستحق مكانًا متميّزًا في النتاج الروائي الفلسطيني، والنثري بعامة، الأكثر إبداعًا وتجديدًا، والأوسع كثافة وابتكارًا.
في رحيل فاروق وادي يخسر الأدب الفلسطيني علامة مضيئة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.