}
عروض

"طبل من ورق": معجزة الروائي الألباني مصطفاي بسنيك

نبيل سليمان

30 ديسمبر 2022


مصطفاي بسنيك 

يفيدنا تاريخ الموسيقى أن هذه الآلة الإيقاعية العالمية (الطبل) قد ظهرت قبل الميلاد بستة آلاف سنة، وبأن منزلتها عند السومريين والبابليين كانت عليا، في بيوت الحكمة. وكان الطبل السوري في جرابلس (كركميش) يُصنع من جلد الثور، وعلى جهة واحدة فقط. وقد تعددت أنواع الطبول/ الأطبال، فمن طبل العيد أو المسحراتي أو الحجيج إلى طبل الجمال والمسند والكاسر. كما تعددت أنواع جلود الطبول (الماعز، الغنم، الإبل، والبقر). وثمة من يتحدث عن (الطبلونامي) تيمنًا بالتسونامي، تعبيرًا عن طغيان صوت الطبل المدوي المزلزل في زماننا على ما عداه.

بالمقابل يطلع علينا الروائي الألباني مصطفاي بسنيك بطبل من ورق، فما الأمر؟

الطبل عنوانًا للرواية والديكتاتورية؟

فيما عُرِفَ بربيع ألبانيا، كان مصطفاي (مصطفى) بسنيك ممن قادوا المظاهرات عام 1989 ضد الديكتاتورية التي تعنونت في ألبانيا باسم أنور خوجة الذي حكم البلاد منذ عام 1944 حتى مماته عام 1985، متطوّحًا بين الأحضان السوفياتية والصينية.

مضت السياسة بالشاعر مصطفاي بسنيك من نائب في البرلمان إلى سفير ووزير، قبل أن تأخذه الرواية إليها. وها هو في رواية "طبل من ورق" (ترجمة عدنان محمد، دار الحوار 2023) يشيد عمارة – هل أقول: قصرًا مسحورًا؟ - من الحكايات ومن الحفر في التاريخ الألباني الحديث، وعبر تنويعات متناقضة ومنسجمة في آن، للطبل الورقي. وأول ذلك في بداية الرواية، فيما يسميه بالقصة الأولى أو الحكاية الأولى، هو اللحظة الحاسمة التي ينتظرها يعقوب سينا، بسعادة شيطانية، يقلب فيها بطبله الورقي في حياة العاصمة تيرانا عاليها سافلها حين ينفذ المهمة التي أوكلها إليه الديكتاتور أنور خوجة: رئاسة لجنة إعادة تسمية شوارع العاصمة بينما الحرب (العالمية الثانية) تضع أوزارها.

يتساءل يعقوب سينا: "لماذا طبل؟ كيف تكون الطبول الورقية؟" وهو يستعيد ما قال أنور خوجة من أن مسألة تسمية الشارع لن تكون طبلًا من ورق "فنحن الآن دولة". وقد شكّل يعقوب لجنة من أجل المهمة الكأداء، لكن أعضاءها لا يطرحون سؤالًا، ولا يقدمون نصيحة، وليس لهم فضول لشيء، بل ينفذون بصمت وحماسة. وبينما كانت الديكتاتورية ترخي ظلالها، إذ بدأ سجن المثقفين بعد قليل من دخول الحكومة إلى العاصمة المحررة (تيرانا)، وقع يعقوب سينا في خطأ استبدال أسماء الشوارع والساحات جميعًا، فالأصدقاء الشيوعيون حوله يريدون رمي الماضي العريق للأمة – ورمزه قائم في الأسماء القديمة – في نهر النسيان، لتغذي الذاكرة الجديدة – الأسماء الجديدة للأمة الأجيالَ القادمة. أما يعقوب فلم يجرؤ على أن يسأل عن كيفية التمييز بين الأجزاء السليمة والمريضة في الماضي، وهو الذي كان يحتقر خصلتي الشجاعة والإخلاص اللتين يهدر بهما أنور خوجة في الإذاعة معلنًا أنهما أحسن فضيلتين في نظر الشعب الألباني. لكن يعقوب سينا يرى هذا الشعب مخلصًا ومتحمسًا كما يراه مخبولًا. وهو يعرف أنه ليس شجاعًا شجاعة عمياء، لكنه لن يجرؤ على إعلان ذلك. وبالسخرية الكاوية التي ستسم الرواية كلها، مثل الكافكاوية أحيانًا كثيرة، تتدافع الحشود، وكلٌّ يطلب اسم شارع أو ساحة باسم قريب الشهيد، بينما يحكم يعقوب سينا بخطأ من اختاروه، وأيقن أنه لن يخرج منها، وأنه أصيب بالجنون. وتنتهي حكايته بضحكه من الطبل الورقي.

في الفصل التالي/ الحكاية التالية/ القصة التالية من الرواية تحتفل بعيد الميلاد السبعين لستالين عام 1949، قريةُ سليم الذي ليس شيوعيًا، ولا يريد أن يحصل له ما حصل في قصة الطبل المصنوع من الورق، فما هي هذ القصة؟

يفكر (الحزب) في القرية بإهداء ستالين في عيد ميلاده سجادة. لكن سليم يرد بأن لدى ستالين من السجاد ما يغطي أوروبا وآسيا وأميركا وحتى أفريقيا. فكر آخرون بالمسدس، فرد سليم متسائلًا: هل يريد الألبانيون أن يحموا الشيوعية بمسدس لأحد سلاطينهم؟ ويقترح سليم أن تكون الهدية هي الرفيقة أمينة الشبيبة الشيوعية، فمعها سوف يصغر (أبونا) ستالين عشرين سنة، والرفيقة سوف تنجز معجزة إعادة الشباب إلى ستالين بما يكفيه لدفن معارضيه العالميين جميعًا. وإذْ حسب الآخرون أن سليم يسخر منهم، تتردد قصة الطبل المصنوع من الورق بين سليم وبين الأمين الشيوعي الأول لتنتهي بأن القرية لم ترسل هديتها كسائر البلاد، بسبب خطأ عدو الشعب: سليم الذي حشر نفسه في مسألة معقدة لطبل من ورق.



فيما يشبه الحكاية، كما ينص السارد بصدد الحكاية الثالثة، تمضي الرواية إلى قرية أخرى في جبال تروبوجا، حيث يحكم الأستاذ م. ب على التلاميذ بأن من يُسقِط لطخة حبر من قلمه على دفتره يكون خان الحزب والوطن، فصار التلاميذ يتفحصون أقلامهم لكي يكتشفوا مؤامرة العدو، وصارت الأقلام الصدئة الملتوية التي يهرّب رأسها الحبر تتكوم على مكتب الأستاذ. وبينما يصارح تلاميذه بأنه يمزح، صارت المزحة مزحة القرن التي تزامنت مع تطهير كبير في رأس هرم الحزب والدولة. وألقى أنور خوجة خطابًا أشاد فيه بالأستاذ م. ب، فثارت مخاوف الرجل وشكوكه في إعلانه بطلًا في قريته، وما عاد يجرؤ على تسمية المزحة مزحة. وتتأسطر المزحة، فصاحبها كان على رأس شبكة تنشط في جمع المعلومات في يوغسلافيا، واسمها الحركي (طبل من ورق).

يُكرم م. ب فيكتب له أنور خوجة رسالة، ويقضي شهرًا في استراحة العمال على الشاطئ. لكن شكوكه فيمن شاركه الغرفة (مرسان) تنغص عليه، ويسمّي الشريك (طبل من ورق). وحين يعود إلى القرية يبدو زملاؤه يخشونه، فلا يتحمل هواجسه، ويذهب إلى السيغوريمي (المخابرات) عازمًا على أن يشي بنفسه، لكنه قوبل بما جعله يخرج سعيدًا، لأنه اكتشف أنه غير مذنب، وفكرّ: "ستتابع دورك كدلاّل لطبلك الذي من ورق"

تتكرر كتابة الديكتاتور رسالة إلى نكرة ما، أو يتكرر لقاؤه بنكرة ما، فتجعل الرسالة مثل اللقاء من النكرة بطلًا لقصة وعَلَمًا في قرية أو مؤسسة أو.. وقد اجتمعت للقروي لوكا النُّعميان، إثر وفاة ابنته لوليا ذات السبعة عشر ربيعًا، وذلك في حادث أثناء العمل الطوعي. ولم يكن لوكا مؤمنًا بأن ألبانيا سوف تزدهر بفضل العمل الطوعي. ولما تلقى رسالة أنور خوجة، وهو الأمي، ضاق بيته بالمسؤولين، وبدأت المقابلات الصحافية معه، واستدعي معززًا مكرمًا إلى لقاء أنور خوجة الذي قال له: "لقد صنعت منك لوليا والد جيلنا الشاب كله".

وشيدت مجموعة من الشباب لوالد البطلة بيتًا جديدًا، ومن أجل ذلك هُدمت الكنيسة واستخدمت حجارتها في هذا البيت وفي توسعة دار الثقافة. وفي الاحتفال بالبطولة أُسدلت على دار الثقافة لوحة عليها رجل يقرع طبلًا، وكُتِبَ تحتها: رسول الفرح. ومن شخصيات هذه القصة الشاعر فريدريك شتيباني الفاقد للبوصلة، ولكنه ليس مجنونًا، ولسانه لسان أفعى. وقد أقلق لوكا أن رئيس الوزراء شيخو وحده لم يرسل برقية عزاء، فصار يمدحه، فتلقى اللوم – بحنان – على ذلك، وقيل له: "لألبانيا قائد واحد هو الرفيق أنور". وعندما انتحر رئيس الوزراء شيخو قال لوكا لجاره إن شيخو كان عدوًا للحزب، فنصحه جاره بالسكوت، فرد أنه متأكد، فاقتيد بعد مدة ولم يعد هذا المتورط في مؤامرة شيخو: لماذا لم تُطلع الحزب على ما أنت متأكد منه؟

ما من شخصية في رواية مصطفاي بسنيك (طبل من ورق) له فاعلية وأفضل بناءً من الأخرى. وإذا كان شرّ البلية ما يضحك، فشخصيات الرواية جميعًا مجبولة من السخرية المأساوية. فهذا نيكي بالوشي مفتش الحبوب المعروف بالجنرال ذرة، وفي الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين لتحرير الوطن وانتصار سلطة الشعب، وبحضور الوزير، يتباهى بجيشه المكون من الذرة، فلا هو يهدد بانقلاب، و: جيشنا جيش ثوري، يقوده الحزب مباشرة، وليس لديه إلا مثل أعلى واحد: الدفاع عن الوطن وعن سلطة الشعب، فهو ليس عصابة لا تفكر إلا بالانقلابات لكن كلماته جرّت عليه الطرد من الاحتفال، وأخذ الناس يتهربون منه، وحلمت زوجته بأنه يعلق برقبته طبلًا غريبًا من الورق، فخافت، لكنه طمأنها بأنه قد أحضر الطبل الورقي الكبير من الاتحاد السوفياتي، واحتفظ به من أجل هذه الأيام السوداء.

اعتقل نيكي بالوشي، واعترف بمشيئة التحقيق، بتآمره على الرفيق أنور خوجة، وبالمهمة الوحيدة التي نفذها بتكليف من مشغّليه في موسكو، حيث خرج إلى حقول التعاونية صيفًا، حاملًا طبلًا من ورق، مدعيًا أنه يفيد في استنزال المطر، لكن غاية بالوشي كانت تخريب المادية التي يطورها الحزب على الفلاحين الثوريين!

في فصل آخر/ حكاية أخرى/ قصة أخرى يأتي صديق السجين نيكي بالوشي، الغجري هيكوران روماليني، الذي سمّى ابنه (ماو تسي تونغ)، وكتب إلى السفير الصيني عن رفض تسجيل اسم ابنه، فزار السفير القرية، ومُنح الغجري شقة، وصار يُنَظَّم احتفالٌ سنوي بعيد ميلاد الطفل، وصار الغجري الماكر يبيع أثاث الشقة سنويًا، ويقيم في بيته الأليف. كما أُرسل في وفد عمالي ألباني للمشاركة في احتفالات الصين بالأول من أيار، حتى إذا مات ماو، ما عاد الغجري يريد مناداة طفله باسم ماو تسي تونغ.

تكاد تكون حكاية الغجري لسانًا ساخرًا مشرعًا وضحكًا متواصلًا، وشماتة بالبيروقراطية الحزبية. ومثلها تأتي الحكاية التي حكى في بدايتها الجد لحفيده أن رجلًا يتجوّل في الشوارع حاملًا طبلًا من ورق، فيسأله إمامٌ عن فائدة الطبل، فيأتيه الجواب: أقرعه كلما رأيت إمامًا يؤدي حسنة. وحين تابع الإمام أن الطبل من ورق، وسيثقبه القرع، رد الرجل بأنه لم تتح له فرصة تجريب الطبل.

كما في الديدن الكافكاوي، يتكرر في هذه الرواية أن يُكتفى من اسم الشخصية بالحرف. هوذا ش. ك في هذه الحكاية يتوسط لابن جيرانه المجنون المعتقل، فيأتيه الرد من رئيس الوزراء أن الجنون بات غطاء للهرب من القانون، وأنّ: "الديكتاتوريات اليمينية ملأت بلادها بمشافي الأمراض العقلية، وسجنت فيها معارضين كثرًا". كما سيشدد على أنه ليس من حق الناس أن يفقدوا عقولهم في مجتمع كمجتمعنا. وتتدافر أسئلة ش. ك عما إذا كان ضارب الطبل الورقي في الشوارع مجنونًا؟ ولماذا لا يتحدث (المجانين) إلا عن السياسة، ويشتموننا؟ لماذا لا يدفعهم جنونهم إلى مديحنا؟ لماذا يجب على من يعبرون الشوارع حاملين طبلًا من ورق حول أعناقهم ويشتمون السلطة، أن يكون عقلهم منتظمًا؟ ويختم ش. ك هذه الحكاية بقوله لابنه إن المجانين الحقيقيين هم من لا يشتمون، بل من يمتدحون النظام طوال الوقت "ولكن سيكون خطأ جسيمًا أن يُعدّ الذين لا يشتمون مجانين".  

لقد جعل مصطفاي بسنيك من الحكاية الاستراتيجيا الفنية لروايته، مذكّرًا بألف ليلة وليلة، حيث بدت الرواية أحيانًا فصولًا متجاورة، وغالبًا حكايات متواشجة أو متناسلة. كما جعل بسنيك من الطبل الورقي ناظمًا للرواية وعنوانًا للديكتاتورية، لكنهما – الناظم والعنوان – هتكٌ وتعرية للحزبية العمياء والبيروقراطية الصماء، ولكل ما يشوّه بهاء الإنسانية.     

       

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.