}
عروض

"فلسطين في السينما": كتاب مرجعيّ للفنّ الملتزم والقضيّة

جورج كعدي

7 ديسمبر 2022


أصدرت "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، حديثًا، كتابًا مرجعيًّا قيّمًا عن السينما الفلسطينيّة وعن فلسطين في السينما العربيّة والعالميّة، بالتعاون مع مؤسّسة "Filmlab palestine"، للناقد اللبناني وليد شميط والناقد الفرنسي غي هينبلّ ̸ Hennebell  اللذين تعاونا لإصدار هذا الكتاب إعدادًا وتوثيقًا وتبويبًا ومشاركةً بنصوص نقدية لهما ومشاركة في ندوات حواريّة مع آخرين في بعض المحاور. وكتابهما مرجعيّ ومفيد جدًا لسائر فئات القرّاء، من أهل القضيّة إلى المتخصّصين والباحثين والمهتمّين بالشأن السينمائيّ عامّةً وبالسينما الملتزمة والمناضلة خاصةً.

وحتّى لو بدا لنا الكتاب "كشكوليًّا" بمعنى أنّ فيه شيئًا من كل شيء (ندوات، حوارات، نصوص نقديّة، أرشيف أفلام.. إلخ) إلاّ أنّه وعاءٌ جميل، وافٍ. نقرأ صفحاته الـ 479 بمتعة وفائدة لناحيتي الشمول وإعطاء الموضوع والقضيّة ما يستحقّان من تمحيص وإحاطة.

الفصل الأول الذي يحمل عنوان "السينما الفلسطينية" يحتوي في ما يحتوي على البدايات الأولى لمؤسسة السينما الفلسطينيّة، نشأة السينما الفلسطينيّة واتجاهاتها، حديث مع مصطفى أبو علي وحسّان أبو غنيمة، صورة المرأة الفلسطينيّة، السينما والقضيّة الفلسطينيّة (ندوة مقتبسة من مجلة "شؤون فلسطينية")، جلسة نقاشية تحت عنوان "نحو سينما فلسطينية"، ندوة في الموضوع عينه عقدت في بغداد عام 1978، وفيلموغرافيا السينما الفلسطينيّة. أمّا الفصل الثاني فعنوانه "السينما العربية والقضيّة الفلسطينية" ويتوقّف عند القضية الفلسطينية في السينما المصرية (أو "غيابها") ثم القضية الفلسطينية في السينما العربية، أفلام ومقابلات، إلى "فلسطين في السينما الغربيّة". أمّا الفصل الرابع فيدور حول "فلسطين في السينما الإسرائيلية" ونقرأ فيه عن أصوات سينمائية إسرائيلية "مختلفة" وعن الصهيونيّة في السينما الإسرائيلية، وحول أفلام رام ليفي: التقاليد الليبرالية الإنسانية، وأفلام ومقابلات. والفصل الخامس الأخير مخصّص لفيلموغرافيّة السينما التي تناولت القضية الفلسطينية، الروائيّة منها والتسجيلية، العربية والأجنبيّة.

بعد مقدّمة من سليم البيك كتبها في باريس أواخر الصيف الفائت، معتبرًا فيها أنّ هذا الكتاب يشكّل "إجابةً وافية وباكرة عمّا كانته وعمّا تكونه السينما الفلسطينية، وقد نشأت في شكلها الأوّل الجماعيّ والمؤسساتي والناضج مع هذه الثورة، بصفتها سينما ثورة وقضيّة (...) وهو يعدّ الوثيقة المجمَّعة الأكثر أهميّة وشمولًا في طبيعتها الأرشيفية وفي ضرورتها البحثيّة"، تأتي مقدّمة صاحبَيْ الكتاب شميط وهينبلّ لتطرح منذ مطلعها أكثر من سؤال: "هل السينما الفلسطينية موجودة؟ وما هي؟ كيف تعاملت السينمات العربيّة والأجنبيّة مع القضيّة الفلسطينيّة؟ ما هي الصورة التي تنقلها هذه الأفلام للفلسطينيّ اللاجئ والفلسطينيّ المقاتل؟ ما هو الدور الذي لعبته وتلعبه وسائل الإعلام الصهيونيّة في تشويه هذه الصورة وتزييف التاريخ بواسطة السينما؟ وماذا عن الأصوات في السينما الإسرائيلية المختلفة التي ظهرت في السنوات القليلة الماضية؟".

تضيف مقدمة الناقدين المؤلّفين (أكاد أقول "المُوَلّفين"، للدقّة، وليس انتقادًا أو انتقاصًا من جهدهما المقدّر والمشكور): "في هذا الكتاب محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، وهي محاولة متعدّدة الصوت يشارك فيها عدد غير قليل من السينمائيين والنقاد العرب والأجانب بمقالات نقدية أو مقابلات سبق أن نُشر معظمها في الصحافة العربية والأجنبيّة (...) ولا يدّعي هذا الكتاب الطرح الأكاديمي أو المعالجة التنظيريّة، وإنّما يريد الإسهام في تطوير الإنتاج السينمائي العربي والأجنبي المتعلق بالقضيّة الفلسطينيّة وتحديده، هذا الإنتاج الذي لم يبلغ كمًّا ونوعًا الطموحات والآمال الكبيرة التي وضعت فيه".

تعاون الناقد اللبناني وليد شميط والناقد الفرنسي غي هينبلّ لإصدار هذا الكتاب إعدادًا وتوثيقًا وتبويبًا


من الأفكار المستفادة والغزيرة في الكتاب تلك الواردة في وقائع ندوة خاصة بالسينما والقضيّة الفلسطينيّة عام 1972، شارك فيها كلٌّ من وليد شميط (ناقد) وقاسم حول (مخرج) ومصطفى أبو علي (مخرج) وإبراهيم زاير (ناقد) وكريستيان غازي (مخرج) وفيصل الياسري (مخرج) وقيس الزبيدي (مخرج) وعمر أميرالاي (مخرج)، وهم من جنسيات عربية مختلفة، فلسطينية، لبنانية، سورية، عراقية. وتجدر الإشارة إلى أنّ تاريخ الندوة بات قديمًا وقد تبدّلت أحوال السينما الفلسطينية كثيرًا في العقود الأخيرة التي تلت تاريخ عقد هذه الندوة. ومع ذلك فقد رأى شميط "أنّ السينما الفلسطينيّة لم توجد حتى الآن فعلًا وعلى نطاق ملموس (...) ولا يمكن الحديث عن سينما فلسطينية من دون الحديث عن السينما السياسيّة التي أراها مندرجة تحت أربعة أقسام أساسيّة، أوّلها سينما الموقف الاجتماعيّ التي تُطرح من وجهة نظر سياسيّة، وثانيًا السينما التي تتناول موضوعًا سياسيًّا وتعالجه، والشكل الثالث للسينما السياسيّة هو الفيلم النضاليّ الذي من غاياته المشاركة في الثورة والتحريض والتعرية، أمّا الشكل الرابع فهو الفيلم الثوري (...)". و"أرى – يقول شميط – أنّ أوّل ما ينبغي البدء به هو الفيلم النضاليّ الذي يعتمد أساسًا على الشكل التسجيليّ (...)".

موقف الناقد شميط هذا يؤيّده المخرج العراقيّ قاسم حول قائلًا: "حتى الآن لا يوجد ما يمكن أن نسمّيه سينما فلسطينيّة. كلّ ما هنالك ملامح عامة وبضعة أعمال سينمائية متناثرة (...) وهناك نوعان من الأفلام التي أُنتجت حول القضيّة، الأوّل أنتجته الدول العربيّة الرسميّة فهل يمكن اعتبارها أفلامًا فلسطينيّة؟ (...) السينما الفلسطينية كما أراها ينبغي أن تنطلق من أرضيّة الثورة الفلسطينيّة نفسها، ومن منطلق تسجيليّ". ومثل شميط وحَوَل رأى الناقد إبراهيم زاير "أنّ طرح موضوع خلق سينما فلسطينية تحمل ملامح وطنيّة كالسينما الجزائريّة أو السينما الفرنسيّة مثلًا هو طرح خاطئ، فالقضيّة الفلسطينيّة ليست محدّدة في نطاق موضوع وطنيّ معيّن، بل هي تبحث من خلال الثورة المسلّحة، ومن خلال قضيّة شعب مارس الكفاح المسلّح لتحقيق وجوده والردّ على التحدّي الإسرائيليّ بشريًّا وحضاريًّا (...)".

خلافًا للمواقف السابقة ردّ المخرج الفلسطيني أبو علي على الآراء المعلنة قائلًا: "ردّد الزميلان قاسم ووليد أنّ السينما الفلسطينيّة غير موجودة. أنا لا أتفق معهما في ذلك، لأنّها موجودة فعلًا. وأذكر العديد من الأفلام، منها "النهر البارد" و "بالروح والدم" وفيلم غودار (يقصد "هنا وفي مكان آخر") وثمة أفلام كثيرة أخرى (...) هناك فرق بين أن تكون غير موجودة، وأن تكون موجودة إنّما غير معروفة بعد. هذا يثير نقطة أخرى طرحها الأخ قاسم: هل السينما الفلسطينية هي التي يصنعها فلسطينيون بالضرورة أم هي السينما الملتزمة بالقضيّة الفلسطينية وليست تلك التي يصنعها المولود فلسطينيًا؟ المسألة هي انتماء أيديولوجيّ وليست انتماءً لوطن أو جنسية".

في الجلسة الثانية من الندوة الطويلة التي تشعّبت فيها المحاور وتكاثرت الآراء والآراء المخالفة، دارت المناقشة بين أسماء أخرى مشاركة، أوّلها المخرج اللبنانيّ الراحل كريستيان غازي الذي كان ثائرًا ومناضلًا وسينمائيًا ملتزمًا ومن أبرز أفلامه عن المقاومة الفلسطينية "مائه وجه ليوم واحد" (1972)، وممّا قال في الندوة: "طرحت السينما العربيّة القضيّة الفلسطينيّة أساسًا عبر خطّين: التجاريّ، والوثائقيّ الذي نقل بعض الجوانب من القضيّة فوتوغرافيًّا من دون منهجيّة محدّدة، وذلك كما فعل العديد من المؤسسات السينمائية التي ترغب فقط في نقل صورة تحرّك العواطف السطحيّة من غير أن تقدّم مادة الفيلم في إطار سياسيّ واضح، ولستُ أنوي أن أتناول السينما التجارية، لأنّها بنظري مرفوضة أصلًا، فهي قائمة على استغلال عاطفة الجماهير وعفويّتها، لهذا سأتناول السينما الجديدة فحسب، أي تلك التي تحاول أن تعالج القضية الفلسطينية من منظار محدّد. إنّني أرى في هذه السينما الجديدة طبيعة مزدوجة، إنّها السينما الروائية التي تأخذ في الوقت ذاته شكلًا تسجيليًا. وهناك أيضًا السينما التي تعتمد الخطّ التسجيليّ الذي ينطلق من ذهنيّة ومن خلفيّة فكريّة متقدّمة. وبصدد السينما الروائية – التسجيليّة، كنتُ أوّل مَنْ قدّم هذا النمط من الأفلام، ففي عام 1967، أخرجتُ فيلمًا عن القضيّة معتمدًا على اقتباس روائيّ من بريشت وكان عنوانه "الفدائيون". ورغم أنّي عالجتُ الجانب الوطنيّ وتناولتُ ضرورة التحام الجماهير العربيّة بالمقاومة ضد الاحتلال، أي اعتمادًا على تحريك الحسّ الوطني بشكل مباشر، لم يطرح الفيلم أي مدلولات طبقيّة واضحة، وقد مُنع في معظم البلدان العربيّة ولم تقبله إلاّ سورية واليمن الديمقراطية (...) وتطرّقتُ في تجربتي الثانية "لماذا المقاومة" (1971) إلى مشاكل داخليّة تمسّ بنية المجتمع العربي نفسه (...) وتناولتُ فيه التناقضات داخل الوضع الفلسطيني، أي بين التيارات السائدة والطموحات التي تطرح مشروعًا جديدًا لبناء الثورة الفلسطينية، والقدرة على ترجمة هذه الطموحات إلى ممارسة، لذا رفضتُ أن ألعب اللعبة التجاريّة التي تضع النصر جاهزًا على طبق أمام الجماهير، أي تكريس الأوهام والتعامي عن الواقع (...)".

المخرج والكاتب العراقي فيصل ياسري رأى من ناحيته "أنّنا شهدنا فيضًا من الأفلام (عن فلسطين) التي تناوب عليها منتجون من لبنان وسورية، غير أنّ هذا الواقع لا ينفي وجود محاولات جديّة وواعية لطرح القضيّة الفلسطينيّة، والمحاولات هذه عانت ولا تزال في غياب البرمجة الإعلامية ووضوح المعالجة التي تنعكس على الأفلام الملتزمة بالقضيّة والتي تتصدّى لها بجدّية. لذا أرى أنّ هناك عددًا من المداخل لمعالجة القضيّة الفلسطينية سينمائيًّا، ويعتمد ذلك على توجهاتنا للمخاطبة السينمائية، فمن الممكن أن نُنتج فيلمًا للمشاهد العربي وآخر لغير العربي، وثمة إمكان لصنع فيلم يشاهده الجميع. وإلى ذلك كلّه، نلاحظ أنّ ثمة حاجة إلى الفيلم التلفزيوني الذي يخاطب الإسرائيلي نفسه، إذ من المؤسف ألاّ يكون في وسعنا النفاذ إلى قلب المجتمع الإسرائيلي ومحاربته في مكمنه بواسطة الأفلام التسجيليّة والوثائقية التي تفضح الادعاءات الإسرائيلية عبر التلفزيونات العربية المجاورة (...). إنّ الفرصة الذهبية للقضيّة الفلسطينية كانت ولا تزال في الفيلم الوثائقي لا في الفيلم الروائي (...)".

يتضمن الكتاب حوارًا مع المخرج اللبناني برهان علويّة حول فيلم "كفر قاسم" (1974)


المخرج السوري الراحل عمر أميرالاي اعتبر آنذاك أنّه "كان أمرًا طبيعيًّا أنّ تتصدّى المحاولات الجادة للتفاعل مع الحوادث، خاصة مع نتائج حرب 1967، وفي الوقت نفسه كان الميدان مفتوحًا للمتكسّبين والتجار، انطلاقًا من واقع نشوء المقاومة، كي يبالغوا في إعطاء المقاومة حجمها (...) والتقت هذه القوى وهذه الاتجاهات مع المنتجين التجّار على المستوى السينمائي في دفع صورة {السوبر كوماندوس} إلى الشاشة وقد غدا – بقبول من المقاومة وتشجيع منها أحيانًا – البضاعة الرائجة في فترة ما بعد حزيران (...) إنّ الأفلام الروائيّة المنتجة ضمن القطاع العام لم تخلُ من محاولة جدية، بيد أنّ قلّة هذه التجارب لا تعطينا أي نتائج متبلورة. أمّا الأفلام الوثائقية فقد كانت ظاهرة ملموسة على صعيد السينما الناشئة".

الإشكاليّات التي تطرحها وقائع هذه الندوة ما برحت قائمة، رغم قدمها ومرور عقود على تاريخ مناقشاتها، إذ عهدنا أنّ التغيير في عالمنا العربيّ بطيء، كذلك تحوّلاته وتقدّمه إلى الأفضل والأفعل. من هنا تبقى ثمّة أهمية لهذه الندوة وسواها من تلك الواردة في الكتاب الذي نحن في صدد عرض بعض مضامينه لتقديم فكرة ما وللتحفيز على امتلاكه كمرجع غنيّ ومتنوّع وعلى قدر من السعة والشمول، ففيه على سبيل لا الحصر وقائع حوار قيّم جدًا مع المخرج المصريّ الكبير توفيق صالح الذي اقتبس للسينما تحفته "المخدوعون" (1971) عن رواية الأديب الفلسطيني الكبير الراحل غسان كنفاني "رجال تحت الشمس" (1963)، راويًا الوقائع الآتية في الحوار الذي أجراه معه غي هينبلّ والناقد التونسي الخميس الخياطي عام 1976: "حاولت منذ عام 1964 إخراج هذا الفيلم للشاشة الكبيرة لكنني لم أتوصل إلى تحقيق غايتي رغم الجهود التي بذلتها، إذ طُرحت عليّ شروط لم يكن في وسعي قبولها، أن أحذف مثلًا البعد الفلسطيني للرواية، وأن أروي مغامرة مأساويّة أبطالها ثلاثة صعاليك يرغبون في الهجرة إلى الكويتّ! يمكن القول إنّ القضيّة الفلسطينيّة كانت تُعتبر لفترة طويلة لدى عدد كبير من الأنظمة العربية مثل المشجب، كلٌّ يعلّق عليه ما يشاء وبحسب ما تمليه مصالحه (...) كانت رواية "رجال تحت الشمس" الأولى لغسان كنفاني وهي مستوحاة من قصة واقعية لأربعين فلسطينيًا ماتوا حين كانت تنقلهم شاحنة خفيةً إلى الكويت، لكن كنفاني اختصرهم إلى ثلاثة أفراد (...) أضفت في اقتباسي للرواية خيانة بعض الحكومات العربية للقضية الفلسطينية، وأظنّ أنّني بقيت، في صورة عامة، مخلصًا لفكر كنفاني (...)".

إلى حوار آخر في الكتاب مع المخرج اللبناني الكبير، الراحل قبل فترة قصيرة، برهان علويّة، حول فيلم "كفر قاسم" (1974) الذي يعدّ محطّة بارزة في تاريخ السينما المتعلّقة بالقضيّة الفلسطينيّة. يقول علويّة، وهو خرّيج معهد  Insas البلجيكي العريق: "كنت مقتنعًا خلال سنوات دراستي في بروكسل بأنّ القضيّة الفلسطينية تشكّل طليعة التحرّر العربي بأكملها، والعمل السينمائي هو في رأيي مشاركة في الحرب ضدّ الإمبريالية (...) تمثّل واقعة كفر قاسم مع واقعة دير ياسين إحدى الجرائم الصهيونية الكبرى، إنّما هناك اختلاف بين المجزرتين: فمجزرة دير ياسين عام 1948 اقترفت ضدّ فلسطينيين لم يصبحوا بعد مواطنين إسرائيليين، واستطاعت الحكومة الصهيونية بشيء من المكر الزعم بأن هذه {الحادثة} تسبّبت بها عناصر شاذة، من نوع منظمة أرغون، أمّا بالنسبة إلى كفر قاسم فإنّ الضحايا كانوا مواطنين إسرائيليين، والسفّاحون كانوا من الجيش النظامي الصهيوني (...). كل ما يسبق رواية المجزرة خيال، فقد أردنا أن نعيد خلاله تصوير الحياة اليومية للعرب في إسرائيل، لكن انطلاقًا من المجزرة يصبح الفيلم وثائقيًا أمينًا. لم نُضِف شيئًا إلى المصادر التي لجأت إليها. كانت غايتنا متمثلةً عامةً في إظهار أنّ حقيقة هذه الجريمة ليست ثمرة {خطأ يؤسف له}! بل كانت مخططًا مدروسًا بكل دقّة (...) دام تصوير الفيلم ثمانية أسابيع في إحدى قرى سورية (...). بعد تصوير "كفر قاسم" طُرحت بالطبع مسألة موقع فلسطين في السينما على مستويات عديدة، سياسية وجماليّة. يجب أن نقول إنّ تطوّر السينما حول هذا الموضوع تمّ نتيجة المعركة التي خاضها الشعب الفلسطيني. لم يكن في إمكان هذه السينما أن تتطوّر من دون ذلك، لا على المستوى الكمّي ولا على المستوى الكيفيّ. ومن الواضح اليوم أنّ إسرائيل تفقد شيئًا فشيئًا حضورها في ميدان السينما كما في الميادين الأخرى (...) بيد أنّنا نلاحظ أيضًا أنّ إرادة وضع الكاميرا في خدمة القضيّة الفلسطينيّة وضعتنا أمام مشاكل ملموسة لم تعالجها البتّة التجارب السابقة للسينما الثوريّة، فالأفلام المخصصة لفلسطين، وحتى الحديثة منها، انتهت كلّها إلى الإخفاق، فهناك مَنْ حاول مسايرة السينما الأميركية أو السينما المصرية فسقط (...). أنا شخصيًا دفعني إخراج "كفر قاسم" إلى تعميق التفكير في أهمية السينما داخل المعركة السياسيّة والأيديولوجية".


سينما لبنانية ملتزمة بالقضيّة الفلسطينية

للسينما اللبنانية الملتزمة بالقضيّة الفلسطينية حيّز في الكتاب – المرجع اهتمّ به وقدّم له وأجرى حواراته الناقد اللبناني وليد شميط، وأوّل الأسماء المطروحة السينمائية الراحلة جوسلين صعب التي وُصفت بـ"المؤسسة المتجوّلة" إذْ كانت أوّل من حمل الكاميرا وأنجزت، في ما أنجزت، فيلم "رسالة من بيروت" (1978) الذي تشكل القضية الفلسطينية أحد محاوره الرئيسة. وتقول صعب في حوارها مع شميط: "أنتمي إلى جيل من اللبنانيين الذين تشكل القضية الفلسطينية محور اهتمامهم. لقد عشنا في الجامعة فترة نهوض القومية العربية التي جعلت من القضية الفلسطينية قضيتها الأولى، وكان أمرًا طبيعيًا أن تتجه أنظارنا إلى فلسطين (...). عندما صوّرتُ الريبورتاجات والأفلام الأولى كنتُ مأخوذة بالحماسة والعمل السياسيّ ففعلت مثل الآخرين، أي أنّني صوّرتُ المقاتلين الفلسطينيين والمرأة الفلسطينيّة والمخيّمات، إلخ. وكنتُ أعتقد أنّني أدافع بذلك عن القضية الفلسطينية، لكنني أدركتُ نتيجة ردّ فعل الجمهور الأوروبي على أفلامي أنّ الأمر ليس بهذه البساطة وأنّ صورة العنف التي تنقلها معظم الأفلام الفلسطينية والأوروبية التي تعالج القضية الفلسطينية كانت رديئة ولا تخدم القضيّة. تعلّمتُ من فيلمي الأول، وانطلاقًا منه حاولت إعطاء الجمهور صورة عن الناس وعن فلسطين وشعبها (...) فالغرب تعب من العنف ومن كل شيء ينفجر. يريدون أن يروا شيئًا آخر عبر أفلام تحمل رؤية أو نظرة شخصية (...)".

في الكتاب وقائع حوار قيّم جدًا مع المخرج المصريّ توفيق صالح الذي اقتبس للسينما تحفته "المخدوعون" (1971) عن رواية غسان كنفاني "رجال تحت الشمس" 


وينتقل الحوار إلى سينمائية أخرى ملتزمة هي المخرجة الراحلة رندة الشهّال التي أنتجت لها مؤسسة السينما في منظمة التحرير الفلسطينية فيلمها "خطوة خطوة" (1978) وقد خصّتها بموازنة بسيطة وقالت لها: "نفّذي"، بحسب تعبيرها، موضحةً: "يشعر أهالي المخيمات الفلسطينيّة بأنّ سبب الاهتمام بهم يعود إلى كونهم فقراء ولاجئين، وكان لا بدّ من إقناعهم بأنّنا نصوّرهم لأنّ الثورة ثورتهم ولأنّ السينما يمكن أن تساعد الثورة، وبالتالي تساعدهم في نضالهم. إنهم يجهلون أهميّة السينما إعلاميًّا ويعتبرونها وسيلة لهو أو وسيلة سخرية منهم أو بكاء عليهم، وهم يخافونها. أحيانًا لم أتمكّن من التصوير، ما حملني إلى إقامة علاقة إنسانية معهم واكتساب ثقتهم، إذ كنتُ أُمضي فترات طويلة معهم قبل التصوير، ما جعلهم يتحدثون في ما بعد بطلاقة وحرية أمام الكاميرا، وكان بعضهم يصرّ على مساعدتنا وتقديم الطعام لنا رغم أوضاعهم الصعبة (...)".

المخرجة اللبنانية نبيهة لطفي (من مدينة صيدا) برزت أيضًا في سينماها الملتزمة. بدأت عام 1975 تصوير فيلم "قصة ما حدث في تل الزعتر" عن المرأة العاملة الفلسطينيّة فسرعان ما تحوّل إلى شريط عن حصار المخيّم ومأساته وسقوطه على أيدي القوات اليمينيّة الفاشيّة المعادية للفلسطينيين والمتعاونة مع إسرائيل. وأضحى الفيلم في أجزاء ثلاثة: ما قبل الثورة، خلال الحرب، وبعد سقوط المخيّم. وممّا تقوله لطفي عن هذا الفيلم: "لجأتُ إلى العناوين الفرعية لربط أجزاء الفيلم بعضها ببعضها الآخر. حاولتُ في الجزء الأول تقديم المخيّم بصورته الطبيعيّة كأيّ مخيّم فلسطيني. أردتُ إظهار واقع المخيّم في الحياة العادية. نرى الناس في الأزقة والدكاكين والبيوت، ونرى بعض المقاتلين، ونسمع في الوقت نفسه أغنية الشيخ إمام التي تذكرنا بأنّ هذه الصورة عن المخيّم هي من الماضي، فالشيخ إمام يقول {يا أشرف جرح وأطهر جرح يا تلّ الزعتر}. هنا يمتزج الحاضر بالماضي عبر امتزاج الصورة بالصوت، فالناس الذين كانوا يعيشون حياة عادية كانوا في الحقيقة يعيشون في غليان (...) أمّا القسم الثاني فيتضمّن شهادات النساء يتحدّثن جماعيًا. أردتُ أن يكون الحديث عن المخيّم من وجهة نظر نساء يتبادلن الحديث، لإظهار الذاكرة الجماعية (...) تجنّبت في هذا الفيلم التحليل السياسيّ المباشر، علمًا بأن ما يطرحه الفيلم هو في صلب السياسة. لم يكن يهمّني تناول أسباب الحرب بل القول إنّ الفلسطينيين في مصيدة وإنّ هذا الشعب الذي تعرّض لمجزرة تل الزعتر يتعرّض كل يوم لمجزرة أبشع في ابتعاده عن أرضه ووطنه، وفي اضطراره إلى مواجهة قوى تريد أن تنتزع منه إرادته في الثورة وفي العودة إلى وطنه، وحتى حقه في الحياة العادية. كان الناس في المخيّم ينظرون إلى الكاميرا نظرة حذر، وكان بعضهم يخافها، وكان لا بدّ من كسب ثقة الناس قبل التصوير، وهم يرفضون الشفقة. عند الناس نوع من العنفوان بفعل الثورة والتجارب والمعاناة التي عاشوها، والناس يريدون تعاطفًا لا عطفًا".

السينمائيّ العراقيّ سمير نمر صاحب تجربة مميّزة في النضال عبر الكاميرا التي كانت تنام معه ولا تفارقه إذ كان منزله قريبًا جدًا من مؤسسة السينما الفلسطينية في بيروت التي التحق بها عام 1971 بعد تجربة سينمائية وتلفزيونية قصيرة في بغداد. وكان هذا السينمائيّ، الشاب آنذاك، يناضل بالسينما مثلما يناضل المقاتل بالبندقية، وكانت السينما بالنسبة إليه تهدف إلى التحريض ونقل المعرفة وتسجيل التاريخ والواقع صوتًا وصورة. وتحمل عشرات الأفلام توقيعه مخرجًا، نذكر منها: "الإرهاب الصهيوني" (حول الغارات الإسرائيلية على المخيمات الفلسطينية)، "حرب الأيام الأربعة" و "ليلة فلسطينيّة" (1972)، "لماذا نزرع الورد ولماذا نُسكت البنادق؟" (بالإشتراك مع قاسم حول)، "كفر شوبا" (عن القرية اللبنانية الجنوبية التي صمدت في وجه الاعتداءات الصهيونية) و "الحرب في لبنان" (1977). يقول نمر: "الهدف من وجودي في مؤسسة السينما الفلسطينية كان أن أصوّر وأنجز أفلامًا، سواء كانت تلك الأفلام عن قواعد المقاومة في الجنوب ضدّ أي اعتداء عسكري صهيوني أو في المخيّمات، أو في أي مكان للثورة وجود فيه. هذا دوري، دور الذي يسجّل بالصوت والصورة نضال الثورة والشعب. أنا جزء من كل، مثل المقاتل ومسؤول التموين والممرضة والطبيب ومسؤول مستودعات الذخيرة (...) إن الصورة كافية لإعطاء المقاتلين حقِّهم والدفاع عن الثورة الفلسطينية".

الكتاب الذي بين أيدينا، الغنيّ بالمحاور والموادّ، لا تتّسع هذه الإضاءة على مضامينه للتوقّف عند كلٍّ منها، فنتجاوز العديد منها للتوقّف عند الأبرز والأهمّ كبيان جان لوك غودار، المغادرنا قبل فترة (تناولنا فيلمه الكبير "هنا وفي مكان آخر" في " ضفّة ثالثة " بمقالة وافية يمكن العودة إليها في أرشيف مقالاتنا في الموقع) يوضح فيه دوافعه لإنجاز هذا الفيلم عن القضيّة الفلسطينيّة بالتعاون مع آن ماري مييفيل، شريكته في السينما والحياة. وهو بيان عميق، بليغ، نابع من أمرين: ثقافة غودار العميقة والمعروفة، والتزامه بالقضايا الإنسانية العادلة. ولعلّ هذا البيان – الوثيقة من أجمل ما يمكن قراءته في هذا الكتاب المرجعيّ الشامل.

الراحلة جوسلين صعب التي وُصفت بـ"المؤسسة المتجوّلة" إذْ كانت أوّل من حمل الكاميرا وأنجزت، في ما أنجزت، فيلم "رسالة من بيروت" (1978) 


فلسطين في السينما الغربية

نختصر، نتجاوز، كي لا نطيل ونسترسل، فنبلغ الفصل الثالث تحت عنوان "فلسطين في السينما الغربية"، ففي ظلّ السيطرة الصهيونيّة المزمنة والمستمرّة على المعالجات السينمائية للقضيّة الفلسطينية، برز حدثان مهمّان أسهما في شكل أساسيّ، على الأقلّ في فرنسا، في إعادة النظر بهذه الرؤية المنحازة إلى القضية: هزيمة 1967، والفورة الأيديولوجية لحوادث أيار/ مايو 1968 في فرنسا. بعد هذين الحدثين فقد الابتزاز التقليدي عبر إطلاق تهمة معاداة السامية فاعليته لدى المناضلين المناهضين للصهيونية – وكانوا قلّة في البداية – فظهرت هناك حركة مؤيدة للفلسطينيين في السوربون، كما برزت مواقف راديكالية معادية للصهيونية داخل اليسار الفرنسي الجديد ما لبثت أن امتدّت إلى قطاعات أوسع من اليسار التقليدي، وظلّ التأييد الكامل للصهيونية مقتصرًا على اليمين وبعض العناصر اليساريّة الزائفة. ولأسباب مشابهة، جزئيًا أو كليًا، تطوّرت أيضًا ظاهرة معاداة الصهيونية في الفترة نفسها في عدد غير قليل من البلدان الغربية، فضلًا عن أنّ ولادة مقاومة فلسطينية مسلّحة ومستقلّة عام 1965 أظهرت أنّ "إسرائيل واقع استعماريّ" بحسب تعبير ماكسيم رودنسون في الملف المشهور الذي أصدرته مجلة "الأزمنة الحديثة" عام 1967. كما أسهم اتخاذ عدد من المناضلين الذين يعرّفون أنفسهم بأنّهم يهود معادون للصهيونية موقفًا جديدًا يوضح المشكلة المتعلّقة بالقضية الفلسطينية.

يعدّد الكتاب بعضًا من الأفلام ذات الطابع الصهيونيّ المحض، ومنها لمخرجين عالميين كبار ومكرّسين مثل أوتو بريمنغر وفيلمه "الخروج" (1961) وكريس ماركر وفيلمه "وصف معركة" (1961) ودانيال مان وفيلمه "جوريت" (1964) وكلود لاونزمان وفيلمه "لماذا إسرائيل؟" (1974) وسوزان سونتاغ وفيلمها "الأرض الموعودة" (1974)، وغيرها الكثير. لكن ما يهمّنا بالتأكيد هو ما أنتجه الغرب من أفلام مناهضة للصهيونية، ومعظمها من النوع الوثائقي أو التسجيليّ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر فيلم "فلسطين ستنتصر" للمخرج الفرنسي جان – بيار أوليفييه دو ساردان، و "فلسطين" لجان بيار سوليه، و "بلادي" لسيرج لوبيرون، و "هنا وفي مكان آخر" للمعلم جان لوك غودار. ولدينا كذلك جماعة "نيوزريل" الأميركية التي أنجزت فيلمًا واقعيًا ومتوازنًا حول القضية تحت عنوان "ثورة حتى النصر" في 52 دقيقة، ويُعتبر من أفضل الوثائق في هذا المجال ويصوّر مراحل نضال الشعب الفلسطيني ضدّ الوجود الصهيوني والاحتلال البريطاني معًا، مشدّدًا على أنّ الصهيونية لا تشكل في أي حال "ردّا سليمًا" على معاداة السامية، ولكون صانعي الفيلم من اليهود المناهضين للصهيونية فهم يفضحون تلك الأيديولوجيا العنصرية ويصلون حتى إلى إثبات التواطؤ الذي كان قائمًا قبل عام 1939 بين الحركة الصهيونية والنازية. وثمة تعداد في هذا الفصل المهمّ لأفلام مؤيدة للقضية الفلسطينية ومعادية للصهيونية من إيطاليا وألمانيا الغربية وبلجيكا والدانمارك وفرنسا وهولندا... وصولًا إلى سينمائيين يهود، وحتى إسرائيليين من قلب الكيان الغاصب، أنجزوا أفلامًا مناهضة للصهيونية ومنحازة بهذا القدر أو ذاك لحقوق الشعب الفلسطيني. وثمة مادّة وافية في الكتاب عن هذه الظاهرة عبر نصوص نقدية وحوارات مع مخرجين إسرائيليين تجرأوا على صنع أفلام جريئة عكس التيار.

إنه كتاب مرجعيّ قيّم يجب أن يكون بين أيدي سائر الباحثين والنقّاد والطلاّب وأصحاب القضيّة، للغنى التوثيقيّ النادر الذي يحويه، وإن بدا "تجميعيًّا" قليلًا، إلاّ أنّ هذا التجميع مصدر ثراء مضمونيّ ومرجعيّة بحثيّة فائقة الأهميّة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.