}
عروض

"فضاءات" خالدة سعيد.. تحية إلى لبنان ومبدعيـه

ليندا نصار

22 فبراير 2022







تمثّل خالدة سعيد تجربة نقدية متميّزة في الوسط الثقافي اللبناني والعربي، وهي استطاعت النظر إلى النصّ من الناحية الجماليّة الإبداعيّة والتّطلّع إلى قضاياه عبر الاشتغال على تبيان مواطن قوّة الكتّاب في إنجازاتهم وأعمالهم.

عملت خالدة سعيد على بناء خطاب نقديّ بنّاء، فقدّمت النص الأدبي للقرّاء وفق منهجية متدرجة بأسلوب سلس بعيد عن الجفاف، معتمدة المصطلحات والمفاهيم النقدية. وواصلت عملها في الوسط الثقافي منذ عام 1957، وها هي اليوم تتابع حركتها وعملها كناقدة تخترق النصوص بسحر، فهي التي تعرف طريقة التوفيق بين النمطين: الأكاديمي والثقافي. بخفة تنتقل سعيد بين نصوصها النقدية معتمدة منهجية واحدة توجّه القارئ نحو الاطّلاع على ما كتبته، وكأنّها تعمل على إعادة المكانة للنقد والمناهج النقدية الحديثة، محاولة الكشف والتحليل والاستنباط والوصف الدقيق وتوثيق ما كتبته عن تجارب الشعراء والمبدعين.

تتحدّث الناقدة في دراستها "يوتوبيا المدينة المثقفة I" عن الحركة النقدية في لبنان والتي كانت جزءًا من الحركة النقدية في العالم العربي، حيث لمعت الثقافة اللبنانية في الصفحات الثقافية. وقد عبّر النقاد اللبنانيون في حداثتهم عن آرائهم في سبيل إنهاض الحركة الثقافية، وما ساعد على ذلك الحضور الفاعل للمجلات، وتبلورت هنا الدعوة التحررية في الشعر.

بالنسبة إليها تعتبر صاحبة "فيض المعنى" أنّ كلّ تجربة لا يتوسّطها الإنسان هي تجربة مصطنعة لا يأبه لها الشعر العظيم، فتقول في هذا الصدد: التجربة التي "يتوسطها الإنسان" في هذا الأفق، تقترن بالمعاناة، لا بمعنى الألم وحده، معاناة لا تنحصر في المستوى الفرديّ ولا المستوى الجمعيّ، لا تنحصر في الماضي ولا في الحاضر. إنها لحظة وعي وتمثّل وانخراط صميميّ، عند تقاطع الخبرات، ورؤيا المصائر، عند ملتقى الفرديّ والتاريخيّ والكونيّ. هذا الانطلاق من التجربة يطرح زمنًا نفسيًّا أو فلسفيًّا، زمنًا مليئًا ومتعدّد الإضاءات، والروافد والآفاق.

لا مراء في أنّ خالدة سعيد تمتلك عدّة النقد من معرفة وثقافة ولغة، بالإضافة إلى تجربتها الشخصية على مدى سنوات من العمل الدؤوب. إنها تدرس جمالية النصوص وإبداعاتها ودلالاتها حيث تفتح آفاق الأسئلة على الاحتمالات كافّة. فهي، في دراساتها النقدية، تعيد القيمة للنصوص ممارِسة التفاعل معها وتمنحها قيمتها الثقافية ومكانتها الإبداعية من دون الخروج عن إطارها العلميّ. وقد اشتغلت سعيد في "يوتوبيا المدينة المثقّفة l" على قيام عدّة مؤسّسات ثقافيّة طليعية بادر إليها مثقّفون لبنانيّون، وكانت حاضرة شاهدة إلى جانب هذه المؤسّسات تراقب التحوّلات الأدبية لتوثّق أدوارها وتأثيرها في تلك المرحلة. وقد يكون يوتوبيا المدينة المثقفة مشروعًا تضيفه الناقدة إلى المكتبة العربية. إنّها الناقدة التي آمنت ببيروت مدينة المثقّفين والتي، على الرغم من الجرح الذي تعيشه، ما زالت بالنسبة إليها بمثابة منارة وأمل يتطلّع المثقّفون إلى صمودها.

تتناول سعيد الحضور الرسالي للبنان، وهي لا تخفي عن القارئ أنّ "فضاءات، يوتوبيا المدينة المثقفة II" الصادر حديثًا عن دار الساقي، يحتاج إلى تكملة عبر الإضاءة على أعمال مبدعين ومبدعات في أجزاء أخرى. وتعتبر أنّ هذا الكتاب جاء كتحية للبنان الفضاء الذي احتضن مجموعة الكتّاب والأدباء والمفكّرين حتى توقّف قليلًا خلال فترة الحرب الأهليّة، ففي لبنان وسط ثقافي ومناخ إبداعي مساعد، من هنا جاء موضوع الحضور الرسالي والإبداعي للبنان. تعتمد سعيد في هذا الكتاب منهجية واحدة في دراساتها، فتنطلق من سيرة الأديب محاولة الإضاءة على أهم نواحي حياته بالإضافة إلى عمله كمبدع ومثقّف ومناضل وفاعل مؤثّر في مجتمعه.






ومن هؤلاء الأدباء والكتّاب والمبدعين: الشيخ عبد الله العلايلي، فيروز، ميشال الأسمر، فينوس خوري – غاتا، الدكتور خليل سعادة، سهيل إدريس، أنسي الحاج، مارون عبود، ميشال الحايك، شفيق جحا، سعيد تقي الدين، يمنى العيد، صلاح ستيتية، سعاد الحكيم، غسان تويني، يوسف حبشي الأشقر، عباس بيضون، ألبير أديب، هدى بركات، سعيد عقل، عقل العويط، إيليا أبو ماضي، وأديب مظهر.

يعدّ الشيخ عبد الله العلايلي عبقري اللغة والتحليل والقراءة وهو متعدّد المواهب، وقد خصّته في دراسة بعنوان "اللغة كيان حيّ وسجل إنسانية الإنسان". وتتناول هذه الدراسة كتابه "مقدمة لدرس لغة العرب"، وهو المدخل لوضع المعجم ما يدل على تصوره للغة وخصوصًا العربية كجهاز فكريّ حيّ وكعمق تاريخي، فتصفه بأنّه يساري الهوى متحرّر الفكر وقومي المذهب. وهو الذي تناول المواضيع الدينية والاجتماعية والأدبية والتاريخية واشتهر بمواقفه الجريئة العقلانية ونقد النظام الطائفي اللبناني. وقد توقفت الناقدة حول كتابين من كتبه: المعري ذلك المجهول، والمعجم. في هذين الكتابين يتجلى العمق التاريخي والثراء اللغوي والفكري. في الكتاب الأول يبدو أثر العصر وتياراته وفلسفة المعري والصراعات التاريخية والآثار الثقافية. يستنبط الشيخ العلايلي القصص ويحللها ويكتشف دلالاتها. تعدّ الناقدة فكر العلايلي شموليًّا ويجب قراءته لأنه تاريخي استكشافي للفكر العربي- الإسلامي وحضارته. في المعجم يعتمد العلايلي الاستقراء واستقصاء المنابع والتحولات الدلالية كأن يتناول مفردات معاصرة أو مفردات تسللت إلى المعجم من اللغة الاجنبية. ويدخل قارئه في فهم جديد للغة بوصفها الحياة النابضة والكلمة المتدفقة للفكر.

يبدو جليًّا انفتاح الناقدة على الأجناس الأدبية، ومن هنا برز إعجابها وتقديرها لصوت فيروز إذ تراها رفعت مستوى الغناء وكأنها راحت تتكلم شعرًا، وهي التي تسامت بروحها كأنها جناح ملائكي. وقد تميّزت فيروز بوفائها للقضايا الوطنية اللبنانية والقومية العربية لا سيما القضية الفلسطينية. وتتابع سعيد أنّ هذه الهالة التي تتمتّع بها فيروز سببها العزلة والغياب عن التواصل الاجتماعي المكثّف. لذا لا يمكن للناقد أن يكتب سيرة لفيروز لأنها كتبتها بصوتها وأعمالها التي تلتقي مع القيم. ثمّ تضيف سعيد لمحة حول حياة فيروز وتكريماتها ومرحلة زواجها وشخصيتها منذ بداياتها، فهي بالنسبة إليها العبقرية الغنائية، ثمّ تتطرّق باختصار إلى مسرح الرحابنة وتأثيره في أعمال فيروز وعن مفعول صوتها الساحر الذي يمسّ السامع كلما استمع إليها.

لسعيد تقي الدين أفكار طليعية في المسرح. هنا تتناول سعيد المعنى الاجتماعي والأخلاقي والأدبي والحقوقي. وتعتبر أنّ تقي الدين قد اختار شخصياته بعناية للكشف عن نفسياتها، وقد تمتّع تقي الدين بحلم وطني سامٍ وتضمنت مسرحياته مضامين أخلاقية ونفسية وقيمًا اجتماعية. إنّ المسرح عنده يتجاوز النوع الأدبي الفني ليتعدى المواقف. وتتابع حديثها عن سفره وعودته ونشاطه الاجتماعي وتتطرّق إلى نواح من شخصيته الإبداعية ككاتب وكمسرحي وكاتب مقال وتعتبر أنّ مسيرته كانت بهدف البحث عن الحقيقة وفي أعماله بحث عمّا وراء القناع أو ما وراء المعنى بكل صدق. ويتميز أسلوبه بمزج المأساة بالضحك والمودة والإعجاب بالنقد. وبالنسبة إليها هو سابق لزمانه من جهة الحداثة.

عن ميشال أسمر تلفت سعيد إلى تأسيسه الندوة اللبنانية مع مجموعة من الشبان في ميدان الثقافة. وتعدّ مجموعة محاضرات الندوة كتاب الجمهورية، في محاولة لعقلنة العصبيات تحت عنوان الحوار الإسلامي المسيحي. وهو الذي سار بإيمانه بأنّ لبنان بيت للجميع.

بالنسبة إليها تعيد فينوس الخوري تكوين العالم ورسم هوياته، وهنا تضيء سعيد على أسلوب كتابة هذه الشاعرة التي بصورها المجروحة صنعت قصائد وروايات تعيد التقدير والمكانة لأخيها وكأنها تريد الانتقام له. إنه أخوها الذي أثّر فيها من حيث معاملة أبيه القاسية له. وتتطرّق سعيد إلى النجاحات التي حققتها فينوس، وإلى حياتها وصعوبة وفاة زوجها الثاني الذي أحبته وعاشت معه في فرنسا وتتكلم عن ضيعتها ووصفها لطبيعة بشري والأثر الذي تركته هذه البلدة في نفسها وحملته معها إلى فرنسا. وتعتبر الناقدة أن فينوس شاعرة الأماكن الضائعة التي رسمتها طفولتها؛ إنه شعر الطفولة والأزمنة الجريحة؛ شعر متمرد على المألوف يسافر في اللغة.





سهيل إدريس قوي الإرادة مكافح علمانيّ منفتح فكرًا وعملًا، كما تتابع صاحبة هذا الكتاب، وقد أصدر مجلة "الآداب" والتفّ حوله كبار المثقفين والمبدعين وكان من قادة النهوض الأدبي والسياسي العربي في القرن العشرين، وساهم في الحركة الأدبية وكان حريصًا على الهوية القومية العربية للأدب.

أمّا أنسي الحاج فقد تحدى الثوابت واخترق الحدود الأدبية وطرح الأسئلة المقلقة. نشط في ميدان الترجمة التي تميزت بحيوية عالية تمنح العامية مقام الفصحى وتسم الفصحى بحيوية العامية. كتب صفحة أدبية عشرات السنوات، وهو من الشعراء الأوائل الذين شكّلوا مجلة "شعر"، وهو من الذين افتتحوا تاريخ التجدد الإبداعي في القرن العشرين. عاش الحاج اللقاء الرائع للثلاثي الإنساني الحضاري: الحرية والإبداع والحب. إنه الشاعر المغامر المتمرد. إنه من المجددين والمتورطين في الحالة أو التجربة الشعرية الثائرة على المألوف. صورته الشعرية لقيت هزة غير مألوفة وهو الذي وقف عند تركيب الجملة عند الحافة التي يكاد يسقط منها الخلل.

يمنى العيد هي التي ترجمت عدة كتب وكتبت في نقد الرواية وتميزت بإبداعها. ففي كتابها "أرق الروح" باحت بذكريات عمرها وشعرية الحنين، كما يرافقها الخيال في عدة أمكنة من الطفولة إلى مرحلة النضج، وفي هذا الكتاب، إضاءة عن صيدا وزمن التحولات الذي اقتحم المدينة، إنها سيرة روائية.

عن عباس بيضون تقول سعيد إن تجربته الشعرية انطلقت مع نضاله السياسي حيث كانت قصائد "صيد الأمثال" ثم "مدافن زجاجية" في أثناء اعتقاله على أيدي الاسرائيليين عام 1982. تتوسّع الناقدة في كتابتها وتحليلها روايته "مرايا فرانكشتاين" إذ يمارس الشاعر ثقافته المتميزة وتذوّقه الرفيع للتصوير فهو الذي يمزج بين البراءة الأولى وتجربة الغربة واقتحام فضاءات حميمة في بعضها، متّخذًا شخصه موضوعًا. تتابع الناقدة بأنّ هذا الكتاب هو سيرة لتكسّرات البنى الثقافية الريفية وانحنائها في خضم المدن. إنه رسم لتحولات المجتمع المحلّي بين الأمواج الجديدة. ثمة جرأة في الطرح والكائن الذي يتحدث عنه بيضون هو المبدع والصورة التي ينتجها لذات مفترضة كموضوع، كشخصية روائية في الوقت نفسه. فرانكشتاين عباس بيضون لوحة يبدعها الوجع وتستثمر فيها الخفايا. فتميّز بين نوعي الرواية والصورة.

حياة صلاح ستيتية كانت عبارة عن مغامرة شاسعة في زمن قومي لبناني عربي فرنسي أوروبي أدبي فني سياسي اجتماعي. تختصر الناقدة تجربته بأنها من نجاح إلى نجاح وأنه من كبار الأعلام اللبنانيين وذو حضور متألق في الساحات العربية والأوروبية، وتتحدث عن كتاب سيرته l’extravagence الذي قدّم فيه صورة شاسعة متشابكة عن فوران الحياة وهو الذي كان في الحي اللاتيني في باريس وسط الحركات الأدبية. إنه جسر ثقافي بين العربية والفرنسية ومضيء التراث العربي، وهو الدبلوماسي والكاتب والشاعر والرائي الثقافي. 

غسان تويني الصحافي والسياسي الذي اهتمّ بالشعر مع زوجته نادية تويني، تسمّيه خالدة سعيد "حارس الذاكرة والتاريخ"، فمعه تمسكت "النهار" بأهم القضايا، وبحرية التعبير عن الرأي ودافعت عن المثقّفين. إنه الذي يمثّل مع صحيفته القوة المعنوية والفكرية، حيث نصرة الحق والعدل. وتتابع سعيد بأنّه أيضًا نصير العبقريات النسائية وحاضن نتاجها. وهو رفيق العبقريات اللبنانية والعربية، فقد جدّد ذكرى جيل القرن العشرين بإعادة طباعة مجموعات من المجلات الشهيرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.