}
عروض

"وجهك صار وشمًا غجريًا".. نمنمات لرؤيا الروح والبوح

محمود أبو حامد

27 فبراير 2022


تتكئ الشاعرة ماجدة حسان على مرجعيات ثقافية وفلسفية وتاريخية ودينية في ديوانها الأول "وجهك صار وشمًا غجريًا" (دار البلد للنشر والثقافة 2021)، لتقدم للقارئ تجربة جديدة في قصائدها النثرية التي تمحورت حول أحاسيس الذات البشرية وتأملاتها في تناغمها مع العشق والجمال وتماهيها مع تجليات الروح.. وثمة قصائد ظهرت فيها بوضوح العودة إلى التاريخ، عبر شخوص، أو أحداث، أو صور، وثمة قصائد لامست الفلسفة والدين ببوح شفيف، وثمة قصائد رسمتها ريشة فنان عبر نمنمتها الطبيعة.. ولكن ظلت كلها خاضعة لسطوة الروح في رؤياها وتداعيات مفرداتها.

سطوة المفردة
لا تكاد قصيدة في كل الديوان تخلو من مفردة (الروح).. ولا تتكرر مفردة الروح في ثنايا وسطور القصائد وحسب، بل في عناوينها أيضًا، مثل: "عندما تهوى الروح، وعشق الروح الجامحة، وروح الوقت، وغيرها".. في حين عنوان الديوان لم يشكل إلا تناصًا مع قصيدته: (وجهكَ صار وشمًا غجريًا/ على كتف قلبي../ وأنت ما زلت تلملم خيباتك/ من بقايا أثواب نساء/ غادرن حروفك للتو). ومع هذا، فإن سطوة مفردة "الروح" لا تمنح لتكرارها رتابة، أو تقيّد تأويلات معانيها، فهي تتجلى جماليًا وبلاغيًا وإيحائيًا في نمنمات الطبيعة، وفي تداعيات العلاقات الإنسانية، وفي منح الأشياء تسميات جديدة، وفي جوهر البعد الديني.. فمن عتبة الإهداء تأخذنا مفردة الروح إلى المرجعيات العاطفية والأسرية والدينية: (إلى من تقمصت قصائدي روحه.. أبي/ إلى امرأة أرضعتني عنفوانها وجموحها.. أمي/ إلى روحي المتجددة وقلبي العاشق.. نوار آرام ومارسيل/ إلى هدية القدر ودفء الروح.. زوجي حكمت).




ويتكرر ذلك في جمل شعرية وتشكيلات دلالية تأخذ مناحي عدة للتأويل، وتفتح أسئلة رحبة على الحياة والموت، وما بعده، كما في قصيدة "وعدتك أن أراك قبل موتي"، ويتجلى في الحب والعشق والفراق، والأبعاد الفلسفية والوجودية للأنا والذات والآخر. "تتوه الروح في فضاء الحرمان، وتبقى أنت شعاعًا أهتدي بوميضه.. كل لحظة ضياع تتقمص روحي..".
وثمة قصائد ترتقي بها المفردة، وتشكل مع رؤياها حالة من التماهي حد التصوّف: (لا أرى سواك في هذا المدى/ تعصر روحي قطرة قطرة./ وتعتقني جموحًا يسكر كل العاشقين/ وترتشفني حتى آخر قطرة روح/ وتذوب الذات بالأنا بالهو/ فتسقط كل شرائع الآلهة/ وتنمو شجرة المعرفة من جديد داخلي/ لتأكل أنت تفاحة الرغبة كل يوم/ معلنًا انعتاقك الأبدي)..
وإضافة إلى القصائد التي تشكل رؤياها حالة من التماهي، ثمة مفردات تشي بتلك الحالة بين سطور القصائد: "الاستغراق بكَ.. رغبة التماهي.. سأذوب بكِ وتمتزجين معي.. تتقمص روحي..". وثمة قصائد تنزاح مفردة الروح إلى التاريخ لتستحضر عوالم ألف ليلة وليلة، أو شخصيات عاشها العشق وأرّخها، أو شكّل من مصيرها حكايات وأساطير.. (.. كم أحتاج لطقس خرافي/ يعلن المغامرة الأخيرة/ قبل انعتاق الروح من الجسد/ فهل لي أن أكون كليوباترا/ وأنت أنطونيو ذاك الجنون؟).
وتكتنف الديوان كثير من التسميات التاريخية والشخصيات الدينية والثقافية والروائية.. كما في قصيدة "يتسرب خيالك من ضلوع الروح" تطوّعها الشاعرة في سياق حكايا ورؤيا قصائدها كملاحم الإغريق وجيوش الآلهة... وملوك الفراعنة والفينيقيين.. وموسيقى نينوى ومريم المجدلية.. وميكافيلي وجان دارك، وزوربا، وغيرهم.

بريشة الطبيعة
ترسم ماجدة حسان كثيرًا من منمنماتها بريشة الطبيعة، مثل "منحوتة عشق"، وتستعير من (روحها) كثيرًا من مفرداتها وصورها المتناغمة مع رؤيا قصائدها، وتصيغها باستعارات ومجازات أخاذة ومغايرة، كما في "تقطر مني ملامحك/ بعد أن تعصرني نبيذًا/ بين حبات عنبك"، ولا تتوقف علاقة الشاعرة مع الطبيعة باستعارتها لمفردات وصور لنسج أفكارها، أو جملها الشعرية، وحسب، بل تشارك الطبيعة في طقوسها وتحولاتها، وتقاسمها الفصول والألوان والسحر، وترقص معها على إيقاع المطر، وتحاكيها وتحاورها وتعاتبها، كما في "لن أسامح قطرات المطر"، وتدمج شوقها وشغفها وحزنها وفرحها في تجلياتها أيضًا، "فيصير الشوق رائحة المطر لحظة الغياب، وينام العاشق على زند القمر، وتبرق عيونه كي تزهر حقول الروح وتهطل قصائد تراقص ندى البيادر. وتغزل الغيوم وسادة، وتلف قوس قزح على خصر الحكاية".




تختلط الطبيعة بمرجعياتها مع الذكريات، وتأخذ صورها ذاكرة للأمكنة، وتعاد صياغة مفرداتها في جمل شعرية تشي استعاراتها ومجازاتها برؤيا عميقة وأحاسيس إنسانية ووجودية، كما في قصيدة "عندما تركلك الأحلام"، لكن يظل العشق راميًا بظلاله على ذكرياتها تارة، وصبوتها تارة أخرى: (عندما تعشقُ الأنثى/ ترسم قوس قزح بنور عينيها/ وعندما تُعشقُ/ تلد بحارًا وشلالات فرح/ تنسج أحلامًا من حرير/ وعندما تعشقُ الأنثى/ يرقص القمر/ ويزهر قلب الصخر/ عشقها يُخصبُ الصحراء/ ويصنع أكاليل نصر من ضياء/ عندما تعشق الأنثى/ يسجد لها ذاك الكبرياء/ وتسجد لها طيور السماء..).

مخزون معرفي
الشاعرة السورية ماجدة حسان، التي أتمت دراستها الجامعية في العلوم الإنسانية، قسم التاريخ، ونالت شهادة الدبلوم في التربية وعلم النفس، تقدم المرجعيات التي تتكئ عليها لقصائدها مخزونًا معرفيًا ولغويًا عميقًا وثريًا، ومع سطوة مفردة "الروح" على أغلب القصائد، ثمة مفردات تكررت بجمل شعرية متفردة وموحية، مثل الحروف والقلب والعشق والمطر والرائحة: "رائحة التراب ورائحة الأنوثة، ورائحة المطر، ورائحة قميصكَ وتعبكَ وشغفكَ وهواجسكَ المعتقة..". وتشكل تلك المفردات بمجملها قصائد خاصة بالشاعرة، لها موضوعاتها وأغراضها وصورها ورؤيتها، وأبعادها التأملية التي تمنح لعلائق النصوص الشعرية أسئلة مفعمة بالأمل، قد يكون الأمل بحياة جديدة تبعًا لتجليات الروح في أغلب قصائد الديوان، والأمل من التفاؤل الداخلي، ومن ثقة الشاعرة بوشائجها مع الآخرين، فقلما نجد في الديوان خبايا لخذلان ما، أو خيانة لمودة، أو حب، أو عشق، فرغم الأجواء العامة التي تحيط بالشاعرة، ويظهر ذلك من قصائدها التي تحاكي هموم الوطن والهجرة واللجوء، وتداعيات الحرب.. إلا أن أغلب بوح الشاعرة تسوده المحبة والألفة والسلام، ويكون ذلك في حواراتها مع نفسها ومع حبيبها ومع القارئ أيضًا، وثمة قصائد رائعة تعتمد فيها الشاعرة على "المونولوج" الداخلي تارة، والحوارات العميقة الشفيفة بلغتها الجزلة الرشيقة، وتجليات أفكارها وأفكار الآخر تارة أخرى، مثل قصيدة "أنتِ"، و"صوفية عاشقة": (قال لها: لا تقتربي ولا تبتعدي/ قفي هناك عند مدى رؤيتي لملامحك/ في مدار ألتقط فيه رائحة أنوثتك/ هناك في وسط المسافة بين الغيبة والحضور/ سألتْ: لماذا تترك هذه المسافة الموجعة؟! أجاب وهو يتلمس تفاصيلها بعينيه:/ لأنك إن اقتربت حد الملامسة/ سأذوب بك وتمتزجين معي فأفقد تفرد حضورك/ وإن ابتعدت أكثر تتلاشى ملامحك وتضيع رائحتك وأذوب قهرًا وحزنًا على فراقك/ لذا قفي هناك بعيدة قريبة لأحيا بلذة حضورك).

إيقاعات وقواف
تتوزع قصائد الديوان بين الطويلة والقصيرة، والقصيرة جدًا.. يغلب عليها الشكل العام للقصيدة النثرية، بتباين موسيقاها وإيقاعاتها بين قصائد وأخرى، وسطور وأخرى.. ومنها ما يقارب القصة القصيرة، مثل "أشتهيك في كل ليلة"، ومنها القصيدة الوخزة، مثل "دم العنب": (النبيذ دم العنب المصلوب/ على مقصلة كأس ثائرة/ من يرتشفه يصبح إله الخطيئة).
ولكن هل ارتقى شكل قصائد الشاعرة ماجدة إلى مرجعياتها ومخزونها المعرفي ورؤياها ورؤيتها؟




يبدو أن التجارب في خوض قصيدة النثر ما زالت في علاقة جدلية مع الموروث الشعري من جهة، وخصوصية الشعراء من جهة ثانية، فإضافة للقدرة العفوية واللافتة عند الشاعرة على تسطير قصائدها، تبعًا لموسيقاها الداخلية واكتمال جملها، أو تداعي معانيها تارة، والانتقال من فكرة الى وخزة بإيقاع رشيق ومفردات ناعمة خفيفة تتسابق مع موسيقاها تارة أخرى، ثمة قصائد تتشكل جملها بقرار، وثمة قصائد لغتها الفلسفية أو التاريخية ثقيلة تتعب تسطير القصيدة وتبطئ من إيقاعاتها:
(أتوه باحثة عن رائحة عيونكَ/ أسافر لعصر الفراعنة لأجدك/ ساكنًا في عيون يوزيرسيف/ نابضًا في شرايين أخناتون../ فارسًا تحارب الهكسوس وتنتصر/ أراك "مينا" موحد مصر وموحد روحينا../ ثم أعود مرهقة تائهة بينك وبيني../ لكنني أحب ذاك التيه في عينيك).
المفارقة اللافتة في الديوان هي تمسّك قصيدة النثر عند الشاعرة ماجدة حسان بالقافية؟! وإذا كان ثمة اعتقاد بأن القافية تزيد من رشاقة القصيدة ورتابة إيقاعها الموسيقي، فهي لم تحقق ذلك في ديوان "وجهك صار وشمًا غجريًا"، ولن تحقق ذلك في قصيدة النثر، لأنها مما ثارت عليه في تشكّلها أصلًا، فالقافية تحد من تنوع المفردات وانطلاقها إلى تأويلات رحبة، ومعان إضافية وجديدة.. ونلاحظ ذلك بوضوح في بعض قصائد الديوان، كما في "خضّب صباحك بدم الكلمات، وعندما تركلك الأحلام، وليتك مجنون مثلي": (ليتك مجنون مثلي/ كي نمشي على الماء/ ونفك أزرار السماء/ نرتق ثقب الأوزون/ ونزرع الأرض حكايات/ كلها قبلات/ ليتك مجنون مثلي/ كي نمارس الحب على غيمة/ وننجب ألف ألف بنت/ كل مساء/ ليتك مجنون مثلي/ كي نربح الجائزة الكبرى كل يوم/ ونوزعها على الفقراء).
وإذا كانت السمة العامة لديوان الشاعرة ماجدة حسان، في تجربتها هذه، هي البوح عن الهموم الذاتية للعلاقات الانسانية والعاطفية والحسية وتجليات العشق والشوق والغياب، فهي التي هاجرت مع عائلتها إلى النرويج، إثر تردي الأوضاع الإنسانية والسياسية والأمنية في سورية بعد الثورة، ـ كما تقول في سيرتها الذاتية ـ يحتضن ديوانها أيضًا قصائد عن هموم الوطن وشهدائه، وقصائد تدين الحرب وتداعياتها.. منها ما تلامس فيها هذه الهموم من بعيد، كما في قصيدة "أردت أن أضيّع ذاتي"، وقصائد تعيشها وتعايشها، تعبر عنها بوضوح أحيانًا، وبمواربة أحيانًا أخرى، كما في قصيدة "لتعلم يا زمان": (لتعلم يا زمان أننا خرجنا منك/ تسلقنا مرتفعات المستحيل/ حررنا آخر لحظة خوف فيك/ لتعلم أنك مشنوق بحبال حناجرنا/ مسحول بضمير صغارنا/ مكسور على عتبات أحلامنا../ ولتعلم يا شهيد/ أنك كثفت جموح أرواحنا/ تناثرت حريرًا في ثياب عروسنا/ حملت صليبنا وخطايانا وترجّلت..).

*كاتب فلسطيني/ سوري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.