}
قراءات

"قارئة القطار".. أن تتلقى قصةً أنت صانعها

طارق إمام

21 مارس 2022




يدرك سارد رواية إبراهيم فرغلي "قارئة القطار" (الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2021) أنه فقد ذاكرته، من خلال فعل القراءة بالذات. يُخرج كتابًا كان قد قطع شوطًا فيه، ليُكمل مطالعته في قطار، حيث يكتشف، وقد نسي القسطَ الذي أتم قراءته، أن ماضيه قد ضاع. ثمة "فاصل ورقٍ مقوى" بين ما مضى من الكتاب، وما هو قادم فيه، بفقدانه لوظيفته، يفقد السارد ماضيه الحقيقي.
هكذا يَختزل ما مضى من كتابٍ، ما مضى من حياة قارئه، مع تحوُّل الحياة نفسها إلى قطار: التاريخ يصبح نصًا، والوجود يُختصر في العلامة.
كيف يُدرك شخصٌ ما ضياعَ ذاكرته بعجزه عن استعادة ما فاته في "المتخيّل"، قبل أن يُدرك ذلك في "الواقع"؟ كيف لم ينتبه في مواجهة العالم التجريبي، فيما انتبه في مواجهة "النص"؟ ألم يفشل قبلها في تذكر واقعة، أو يخفق في التعرف على وجهٍ مألوف، أو يعجز عن استعادة طبيعة مكان يعرفه؟ الإجابة: لا.
على العكس من الحياة بالضبط، فمستقبل أي نص موجود بالفعل من قبل القراءة، لأن موقعه مكاني، وليس زمانيًا. هذا على الأغلب ما تصير إليه حياة السارد، وقد دخل، بدخول القطار، فصلًا في نصه، وليس حلقةً في حياته.
كان على بطل إبراهيم فرغلي أن ينظر إلى الكلمات، كي يُدرك أنه فقد تاريخه.

***

هكذا تؤسس الرواية الصادرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة نفسها كتمثيلٍ مهول لما يمكن أن يتحوّل إليه العالم إذا اختُزل في كتاب، وهو نفسه تمثيل الإنسان كقارئ للعالم أكثر مما هو منتج لمجرياته.




الكتاب هنا لا يتبع الواقع، لا يحاكيه ولا يدير ظهره له حتى، بل يبتلعه ليحل محله. وفق هذا التحوُّل، يغدو من الطبيعي أن يتبدَّل العنوان مرةً بعد مرة، وأن يختلف المتن بالتبعية: متن المتخيل والواقع معًا. يندهش قارئ القطار من تَغيُّر عنوان الكتاب الذي صحبه معه في الرحلة، من "كتاب الأحلام" إلى "كتاب الأوهام"، فيما لا نندهش نحن. هذا ما يحدث حين يبتلع المجازُ الواقع، حين يتحول المعيش نفسه إلى استعارة.
حسب القانون نفسه، يمكن لكتابٍ مثل "مقهى المصابيح المعتمة" الذي تقرأه امرأة داخل القطار، أن يتحوَّل إلى مكان فعلي داخل القطار. المتخيل يسبق الواقع ويؤسس له، حد أن الأخير هو ما يحاكيه ويتبعه، وكأن القطار برمته سردية تفرض شرطها الداخلي على العالم، كأنه يصير الواقع الذي بلا وجهة، والرحلة التي تعوزها البنية، ولكي تتحقق، ينبغي أن تتحول لمرويةٍ مكتوبة، سنكتشف مع السطور الأخيرة أنها تحققت، بانتقال "قارئ القطار" من مقعد الشخصية الفنية إلى منصة المؤلف الواقعي.

***

ينسى قارئ القطار ماضيه، فيما ينسى القطار نفسه مستقبله، الذي تمثله وجهته. كلاهما فقد زمنه الوحيد الدال على جوهر وظيفته: ما الإنسان بلا منبع، وما القطار بلا مصب؟
القطار علامة غائية، وظيفية بالكامل، مشروطة بفكرة الوصول، لكننا هذه المرة في قطارٍ تخلى عن دوره، ففقد هويته نفسها. يشبه قطار "فرغلي" نصًا يخاصم التداول: رحلةٌ مكرسة لنفسها، ودالٌ لا يحيل إلى مرجعية. بين المنبع الضائع للذات: الماضي، والوجهة الضائعة للعلامة: المستقبل، لا وجود سوى لحاضرٍ عالقٍ، غير قادرٍ حتى على تعريف نفسه استنادًا إلى مرجعٍ ماضوي، أو تطلعٍ مقبل، لتتحقق المروية في نقطة صفرية، متجمدة رغم السيولة الظاهرية لحركة العلامة، وحيث تواجه الذاتُ الإنسانية ضياعَها الكامل، منطلقةً من الرفض، لتنتهي، ليس فقط بالتصالح مع التيه، لكن بالإصرار على ألا تغادره.


الواقع ماضي الخيال
يؤسس إبراهيم فرغلي لرواية طريق، ما يعني أننا أمام بنيةٍ سردية خطية، في اتجاهٍ إجباري ذاهبٍ قسرًا إلى الأمام. الرواية هي نفسها اتجاه القطار، وهذا يعني أن الارتجال تهديدٌ دائمٌ للبنية، وحيث كل طارئ على النص مفاجأة. وللمفارقة، فعلى النص أن يُبرز هذا التهديد، لا أن يحاول النجاة من فخاخه. هذا ما يبرر عدم انسجام بنية "قارئة القطار" على خطيتها، لنصبح أمام نصٍ قلق كصاحبه.




هكذا تسطع شخوصُ النص وتختفي، مثل ميلاد بروق واحتضارها على صفحة سماء. نحن أمام روايةٍ تدرك ماضيها، على العكس من راويها، لكنها مثله، لا تعرف مستقبلها، أو هكذا توهم مجرياتها.
لكن التخييل المتنامي بإيقاعه المتصاعد في هذه الرواية يضعنا في رحلةٍ متقاطعة، عموديًا هذه المرة، كون الخيال يطفو فوق الواقع في اتجاه رأسي، وكلما ابتعدت القدمان عن الأرض إلى الأعلى، كلما قطعتا خطوةً جديدة في اتجاه نصٍ "فوق واقعي". السمة الأهم أن التخييل هنا ذو إيقاعٍ متصاعد، فلا تستقر الرواية عند نقطة بعينها في حدود الطفو، بل تمثل كل حلقةٍ خطوة جديدة، تجعل من الغريب السابق مألوفًا أمام الغريب الأحدث.
نحن، إذًا، أمام رحلةٍ روائية مزدوجة: واقعٌ يتقدم إلى الأمام نحو الحلم، وواقعٌ يرتفع إلى الأعلى نحو الوهم. وفي الحالتين، يتكاثف الضباب ليحجب "الرؤية"، الأولية والسطحية، ليس فقط على زجاج النوافذ، لكن على صفحة الوعي.
بين محور التداول الأفقي، ومحور الاستبدال الرأسي، تتخلق التقاطعات الموارة لـ"قارئة القطار"، لكن أخطر ما في علاقة الواقع بالخيال في هذه الرواية أنها، وهي علاقةٌ لا زمنية، تكتسب بعدًا زمنيًا، فالواقع هو ماضي الشخصية، أما الخيال فهو حاضرها، وبتعبيرٍ آخر: الواقع في "قارئة القطار" هو ماضي الخيال.
الرواية قائمةٌ في الحاضر بالضمير الأول: إنها تُكتب لحظة وقوعها. لا فاصل من ورقٍ مقوى بين مادة الحكاية وتدوينها، لا مسافة زمنية بين الواقع والخطاب، حتى أننا نظل طوال الوقت "هنا والآن". وبمشهديةٍ ناصعة، تُميِّز كتابة إبراهيم فرغلي إجمالًا، لن تلبث ورطة "قارئ القطار" أن تصبح نفسها ورطة قارئ الرواية.
الرحلة الخطية لن تلبث أن تصبح إطارًا لرحلة عكسية في اتجاه الماضي، ليصبح نص المستقبل في ذاته نص استعادة، وحيث ستصبح حياة الراوي المنسية نصًا مضمنًا، وهنا تكتسب الرواية شريطيها.

***

يقابل "قارئ القطار"، "قارئة القطار"، التي بدورها تقرأ كتابًا. لكنْ ثمة فارقٍ هائلٍ بين القارئين، فهنالك شخصٌ يقرأ إلى أن يتوقف القطار، أي، بمعنى ما: لكي يتوقف القطار. وهنالك قارئةٌ تقرأ من أجل العكس بالضبط: كي لا يتوقف القطار.




إنهما يتناقضان على المستويات كافة: هي عارية تمامًا وهو يرتدي ملابس فائضة عن احتياجه، هي ضريرة، غير أن الصفحات تُضاء لها، وهو مبصر غير أن الصفحات تنطفئ في حدقتيه. هي مقعدة، وهو متحرك بإفراط. هي فقدت كل شيء عدا ذاكرتها، وهو يحتفظ بكل شيء عدا ذاكرته. هي تملك أختًا (ذكرى)، وهو بلا (ذكرى)، لكن الاثنين يشتركان في شيء واحد: كلاهما قارئ.
الصراع العميق الذي سينهض حتمًا، ليس صراع الذاتين، بل الطريقتين في التلقي. أيُّ النصين يجب أن ينتصر؟ النص الغائي، أم النص الذي بلا هدف؟ نص الاستهلاك والتداول، أم نص إعادة الإنتاج؟ نص تزجية الوقت، أم نص تبديده؟ أليس ذلك تمثيلًا آخر لسؤال النص الأدبي نفسه، إنتاجًا وتلقيًا؟
رمزيًا، ينسى السارد ما فاته من كتابه بسبب هذه الغائية: إن كنت تقرأ كي تقطع وقتًا بين محطتين، فستنسى. وحده من لا يبتغي الوصول، يحتفظ بذاكرته وذاكرة النص معًا.
كلاهما ينطلق من قراءة النص نفسه: "كتاب الأحلام"، لكنْ، هل يتساوى كتابٌ واحد إذا ما اختلفت الغاية من قراءته؟ ربما تكمن إجابة هذا السؤال في التبدُّل الذي سيطرأ سريعًا على كتاب السارد، ليصير "كتاب الأوهام"، إيذانًا بتخلَّق صراع أساسي بين الشخصيتين الروائيتين. كلا العنوانين يحيل إلى مفارقة الواقع، لكن الأحلام تظل قابلة للتحقق، فيما تؤكد الأوهام استحالة هذه القابلية. الحالمة في مواجهة المتوهم: يصبح القارئ انعكاسًا لكتابه، تغدو الذوات مرايا لنصوصها، تتجرد وظائفها، واللغة تسبق ذواتها، في قلبٍ عنيف للمعادلة الواقعية. من هنا يتحقق العناق الوحيد بين ضدين، حيث "في الحلم، يعيش الوهمُ حُرًا". وبين الكتابين يغيم كتاب الواقع، بين حلم المنام وحلم اليقظة لا أرض للصحو.


مرايا الميتا سرد
قارئ القطار متلقٍ، غير أن التلقي يصل به إلى ذروة غير مسبوقة حد أنه يتلقى قصة حياته نفسها من "زرقاء القطار". ما الذي يعنيه أن تتحول إلى متلقٍ لقصةٍ أنت بطلها؟ إن ذلك يتجاوز الرغبة في استرداد الذاكرة إلى إمكانية استعارتها، والفارق مهولٌ بين استعادة ما تملكه واستعارة ما ليس لك.




تملك قارئة القطار ذاكرة السارد، وتُمرِّرها له شفاهةً. أخيرًا، تُحلِّق الحكاية الملفوظة في سماء عالمٍ جوهره التدوين. "كان ياما كان"، عبارة أليفة في أدبيات الحكي الشفاهي، لكنها، إذ تفتتح سرد "سيرة"، فكأنما تُعلن أننا في صدد حياةٍ نابعة من التخييل، وليس التأريخ. "الفاصل" المصنوع من الورق المقوى في الكتاب يقابله فاصلٌ آخر أكثر سمكًا في الحياة، إذا ما تأملنا المسافة بين حياتين/ حكايتين تخصان شخصًا واحدًا، إذ أن المفارقة الزمنية بين القرن التاسع عشر، حيث تاريخ الشخصية، والقرن الحادي والعشرين، حيث حاضرها، لا سبيل لجسرها. كأننا نخوض، على غرار بطل "بيدرو بارامو" لخوان رولفو، حياةً تبدأ بعد موت جميع أبطالها، ما يعني أننا أمام ساردٍ ميت، وما يبرر، ربما، وجود ضريحٍ يحرسه ذئب، هو ذاته الذئب الذي صحب السارد في بواكير حياته.
لـ"كان ياما كان" وجهٌ روائي آخر، فقد جرى العرف على أن تُقال لمرةٍ واحدة في مطلع الحكاية، لكن هنا، تعاد العبارة مع كل مفصل في حكاية السارد، وكأن كل مرحلة هي حكاية جديدة.
نحن في صدد "تغريبة"، ستخلق نصًا مضمنًا، يتسع حيزه كلما تقدمنا للأمام، ليصبح الهامش هو المتن، لتغدو الحكاية المضمنة هي الإطار والعكس، ولتبتلع الحكايةُ المولّدة إطارها الصلب، بالضبط مثلما ابتلع المتخيلُ الواقعَ.

***

صيغتان فنيتان أساسيتان تمر بهما سيرة الراوي على لسان "زرقاء"، إذ يتحقق كمخاطب مباشر قبل أن يتحول، بطلبٍ منه، إلى مروي عنه بالضمير الثالث. هنا، تضطر "زرقاء" إلى خلق راوٍ، تُمارس دورًا روائيًا ينقل المحكية الشفاهية إلى خانة التدوين، ليظهر فاصلٌ جديد بين "المؤلف" و"نصه".
لكن طلب الراوي ينتج عنه ما هو أكثر خطورة، فالنص بضمير المخاطب ليس في حاجةٍ لذكر الاسم، فيما يُحتِّم الضمير الثالث تسمية الشخصية. الغياب يصبح ذروة الحضور، فبتحوله إلى غائب في حكايته، وللمفارقة الفادحة، يتعرف الراوي على اسمه: محمود الوهم. إنه ليس فقط اسمًا عجيبًا، لكن عميق الدلالة إن تأملنا ما يعنيه: شخص وهمه محمود.
قصة "محمود" هي رواية كاملة داخل الرواية. على خلفية الثورة العرابية، تتحقق التغريبة، لشخص دفنته جدته حيًا في قبر في أقصى الجنوب، يخوض رحلة نحو "المحروسة"، حالمًا بمهنة لم تعد مهنته، وبامرأة "فاطمة" تحول بينه وبينها الصروف، ليتزوج بأخرى، زينب.
لكن رواية محمود المضمَّنة، ورواية القطار الإطارية، تصبحان معًا، في الأخير، رواية يكتبها الراوي باعتباره المؤلف هذه المرة. كأنه، وزرقاء، تبادلا الأدوار: هي تحوَّلت من ذات إلى شخصية، وهو تحوَّل من شخصية إلى ذات. نحن في صدد ميتا رواية مرآوية، ذاتية الانعكاس، تعمل كل مرويةٍ فيها كنصٍ شارحٍ لقرينتها، فلا نعود نعرف أين ينتهي الإيهام لتبدأ التعرية، وأي حكاية هي من تراقب الأخرى لتعكسها على صفحتها.
حتى حين يتوقف القطار، حين تطرأ "فتنة"، طفلة الراوي من ليلة متعته مع "ذكرى"، يرفض العودة هذه المرة، كبطل "صحراء التتار"، وكجميع أبطال الأدب الذين يذهبون إلى مكان ما قسرًا، ثم يستمرون بعد انقضاء المهمة وقد اكتشفوا أنهم لم يعودوا يملكون وطنًا سوى المنفى. لقد دُفن "محمود" ـ إذا ما اعتمدنا هذا الاسم، في محكيةٍ كل ما فيها عرضة للتشكيك ـ حيًا في قبر وهو بعد طفل، وعاد ليُدفن حيًا في قطار، وفق طفولةٍ أخرى: طفولته ككاتبٍ يحوّل حياته، للمرة الأولى، إلى نص.
"الفاصل" الذي فقد دوره في الصفحة الأولى، يستعيد وظيفته مع الصفحات الأخيرة، ليصبح أول عنوان فرعي على هامش الرواية التي ظلت طيلة الرحلة مرقمة الفصول. ربما يوحي ذلك بأن "قارئ القطار" استعاد ذاكرته، أو نجح في اختراعها.
يبقى السارد رفقة رواية كتبها، وكأنه عثر أخيرًا على كتابٍ هو صانعه، وفي هذه اللحظة، يدرك أن وجهة القطار هي تدوين الحكاية لا تذكُّرها، وأن نصه هو مثواه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.