}
قراءات

قراءة متجددة لـ"موتٌ مُختلف".. تقاطع الوجداني بالسياسيّ

رشيد الخديري

7 مارس 2022


هل يمكن القول إن رواية "موت مختلف" للروائي المغربي محمد برادة (دار الفنك للنشر، ط1، 2019، 207 صفحات) تدخل ضمن خانة الروايات "المثقفة" و"العالمة"، أم أنّها رواية تسعى إلى احتياز رؤى وتصوّرات متعدّدة؟
جواب هذا السؤال يتطلّب قراءة النّص الروائي قراءة متجددة وقادرة على خلخلة الأعراف التقليدية السائدة في القراءة والتأويل. ولعل قراءة سرديات محمد برادة لها خصوصيات معينة، من منطلق أنها تتعيّن بوصفها سرديات مغايرة ومختلفة، تمزج بين مقروئيّة متوسّعة، وفي أنماط التّعبير كافة، وبين تجربة ذاتيّة مفعمة بروح التّجدد والتّغيير. من هذه الزاوية، يبدو من الصعب قراءة رواية "موت مختلف" وملامسة بنياتها وانعطافاتها بجولات سريعة، حيث إنها تُقدم للقارئ عُصارة حياة مصطخبة، متفلسفة، في الآن نفسه.
اللافت للانتباه في هذه التجربة الروائية الجديدة هو ارتهان أفقها إلى لغزية الوجود، وتقاطع الوجداني بالسياسي، والفلسفي بالأدبي، في تجربة مختلفة، بما تنطوي عليه من رموز وإشارات وتعرجات سردية.
شكلت ثورة الطلاب التي عرفتها فرنسا سنة 1968 نقطة ارتكاز أساسية في بناء هذا النّص الروائي، وما استبطنه من وعود وأحلام وآمال، خصوصًا أن السارد "منير" يحمل بين ثناياه جروحًا لا حدّ لها ولا قرار، فهو دائم الوجع والتّحسر على ما آل إليه الوضع في مسقط رأسه "دبدو"، تلك المدينة المنسية هناك في الشرق المغربي، لذا فإن الانخراط في العمل السياسي، وتدريس مادة الفلسفة، والتّعلق بفرنسا باعتبارها دولة المساواة والعدالة الاجتماعية، هو بمثابة تعويض ذاتي عن جوهرانيّة الوجود ورمزية الحياة.


دبدو.. الهويّة المفقودة
تتبدَّى "دبدو" من خلال هذا النّص الروائي مُبهمة، وغارقة في سكونيتها وصمتها القدسيّ. ثمة رهان على هذه الهويّة المفقودة في تأثيث الفضاء الروائي، وتحبيك السرد، ولولا بعض المشاهد الطّفوليّة العابرة والمُغامرات العاطفيّة المحدودة في فترة الشباب، خاصّة مع "فطومة" المرأة التي أيقظت في السارد شهوة الحكي وجذوة العشق، عدا ذلك، فقد بقيت دبدو غامضة ومنسية في المناطق الداجية للسارد. وقد يُجاهر بعضهم بالقول إن للمكان ـ المهد رمزيّة خاصة في وجدان الكائن، المبدع على وجه الخصوص، وثمة فرق كبير بين المكان الذي نسكنه والمكان الذي يسكننا، كما تنبّه إلى ذلك الروائي المغربي طارق بكاري. هذا شيء مفهوم وبدهي، ويدخل في صميمية العمل الأدبي، غير أن الأهميّة التي يحظى بها المكان في روايات محمد برادة لا توازيها أي أهميّة، سوى أنه هوس إبداعي يتحوّل مع اختمار التّجربة الوجوديّة إلى ناظم إستيتيقي يتذرّى في المادّة السّرديّة، ويصير مقامًا للبوح والمُفارقة.




إن الرّهان على المكان دبدو ـ باريس، وما يعنيه ذلك من استقصاء للذاكرة، وحفزها على الاشتغال، هو رهانٌ على تعميق الارتباط بالذّاكرة ـ المكان، والكشف عن عديد المفارقات التي تشغلُ بال محمد برادة، فمن الواضح أن ثمة بصمات نقدية تظهر بين الفينة والأخرى بين ثنايا هذا النّص الروائي، خصوصًا تأثيرات التّصور الاجتماعي للأدب مع باختين وغولدمان وفانون وبورديو، وغيرهم، مما ينعكس على الوعي الروائي لدى برادة، ولا نتقصّد بالانعكاس، ها هنا، تلك الرؤية الاختزالية الضيقة في علاقة التناظر بين الأدب والواقع، كما تبلورت في كلاسيكيات سوسيولوجيا الأدب، وإنما في قدرته على تفكيك العلاقات الاجتماعية والأنساق والشروط التي تُنتج الأعمال الروائيّة، والحرص على استقلاليتها.


الرواية باعتبارها بيانًا سيّاسيًّا
لطالما شكّلت الرواية مسرحًا لخطابات أخرى، أدبية وغير أدبيّة، فهي تمثّلُ كما تنبّه إلى ذلك محمد برادة "أفقًا لتعديد الأشكال والكتابة داخل الجنس الواحد"(1)، وإذ تنطبع الروايّة بهذه التوصيفات، فإنّها في الوقت ذاته، يمكن أن تُعبّر عن مواقف أو رؤى للعالم والأشياء. رواية "موت مختلف" تكتنز بالمواقف والبيانات السياسيّة، خصوصًا في ظل التّحولات التي عرفتها فرنسا على مستوى الوعي السياسي منذ خمسينيات القرن الماضي، وهو وعي يَتَشَكّلُ على مدار النّص الروائي، مُبرزًا خصوصيّات كل مرحلة سياسية، وانعكاس ذلك على تنامي الوعي لدى الطبقة المثقفة، وكل الطبقات التي تُشكل ملامح فرنسا التي تتوق للعدالة الاجتماعية وقيم المساواة... إلخ. بيد أن هذه القيم الإنسانية التي حرص السارد على غرسها في ابنه بدر، سرعان ما أضحت مُعضلة كبرى تؤرق بال منير، ووجب التّذكير، ها هنا، بـ"خلوة الضّالين" التي حرصت على تدبير شؤونها "كوليت"، تلك المرأة التي ولدت في الهند، وتربّت على التّحرر فكريًا وجسديًا، بحيث أصبح منزلها قبلةً للباحثين عن اللذة والشغف والحوار الفكري والفلسفي حول قضايا مصيرية تخص الإنسان الفرنسي، وغالبًا ما تنتهي هذه المشاحنات الفكرية مع ألبير وكاترين ومنير، وغيرهم، على وقع الرقص الهندي الذي تؤديه بحرفيّة عالية كوليت.




إن "موت مختلف" استثمار في الاختلاف.. في الحوار بين الأجيال، وفي التّحولات السياسية أيضًا، وهو ما يجعل الرواية لها هذا الامتياز عن غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى، من حيث أنها حاضنة لنصوص أخرى، قد تكون أدبية، أو تنتمي إلى حقول معرفية أخرى، فهي "ومن خلال انفتاحها واستمدادها من جميع الأشكال الفنية والأجناس الأدبية، أصبحت بامتياز الشكل ـ السؤال الذي يتوسله الإنسان في مغامرته اللامتناهية بحثًا عن توازن متوهم، أو سعادة بكر، أو لغة قادرة على تسمية الأشياء"(2). بهذا المعنى من الانفتاح على عوالم أخرى، أشكال تعبيرية أخرى، تكون الرواية الجنس الأدبي القادر على استيعاب إشكالات العصر وإفرازات الواقع. إن هذه البيانات التي انسلّت من صميم التّجربة "تمامًا كما انسلّت الرواية الروسية من معطف نيكولاي غوغول"(3)، تعبير حيّ وصادق عن قدرة النّص الروائي على الاندغام مع الواقع المعاش ونقله إلى القارئ، خصوصًا أن برادة من الروائيين الذين يسكنهم هاجس التّعددية، والكتابة وفق منهجية خاصة للرواية، وعليه، فإن نص "موت مختلف" باعتباره نصًا، يمكن القول إنه نص ينتمي إلى "روايات المنافي"، بما ينطوي عليه من تصورات للرؤيا العالم انطلاقًا من رؤية رحيبة للواقع والإنسان والأشياء. بهذا المعنى، تتخذ هذه الرواية منحى آخر، لما يكتبه برادة على أساس من التقاطعات التي أومأنا إليها سابقًا من جهة، ثم تلك الكوى الجمالية والتعبيرية التي تمنحها الرواية، وهي تنفتح على عناصر أخرى، وفي ذلك، إخصاب للمتن الروائي وجنوحه نحو الاختلاف والمغايرة.


هوامش:
(1) محمد برادة: فضاءات روائية، منشورات وزارة الثقافة، الرباط، 2004، ص: 23.
(2) محمد برادة: أسئلة الرواية.. أسئلة النقد، منشورات الرابطة، ط 1، 1996، ص: 16.
(3) بنعيسى بوحمالة: تقديم: في راهن الشعر المغربي، من الجيل إلى الحساسية، عبد اللطيف الوراري، منشورات دار التوحيدي، ط 1، 2014، ص: 7.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.