}
عروض

"محاولة لفهم التاريخ".. أثر الوجود الفاعل

تحسين يقين

22 أبريل 2022





إلى أي مدى نجح د. علي الجرباوي، في كتابه "المعرفة، الأيديولوجية، والحضارة: محاولة لفهم التاريخ" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2021، 376 صفحة)، في محاولته لفهم التاريخ، وفي عرضه لما يمكن وصفه بالتاريخ الحضاري، وصولًا لتحليل ما يجري اليوم، مستشرفا الغد وما يمكن أن يستجدّ فيه من حضارة عالمية كبرى، عبر الاستناد الطبيعي لمقومات الحضور؟

احترت في جملة الافتتاح.. هل أبدأ بـ"اطلب العلم ولو في الصين"! لأشوق القارئ، بعد أن نسينا عربيًا أهمية العلم وقيمته، التي دفعت ناطقاً بالعربية لنصح طلب العلم ولو في الصين، كون الصين في ذلك الوقت هي أبعد مكان عن بلاد العرب؟

الصين أولًا، وفرصتها هي الكبرى، بحكم مشروعها المستند للقوة والثقافة، وثانيًا ما يمكن أن يتجمع من تبعثر عربي وإسلامي مستند لأيديولوجيا ناظمة، لكن بشرط السيطرة على الموارد، واللجوء لمعايير العصر، ولذلك فإن الصين الواحدة المتماسكة تتقدم، وإن لم تصبح البديل العالمي للحضارة الغربية، ولكنها ستستمر في منافستها بقوة على المشهد الدولي الآن وغدًا، في حين أن التشرذم العربي التابع، والمستلب، والمحكوم بسلفية ماضوية، سيظل منحدرًا إلى وراء غير مستثمر لإمكانيات النهوض من جديد. 

هل سأتساءل؟ أم أمضي فيما ظننته أنه في الوقت الذي يبشّر فيه بالصين، فإنه يدعو لتفعيل الأيديولوجيا الإسلامية وفق أسس العصر ومعاييره، كونها الناظمة الكبرى للعرب وآخرين، ليكون لهم موطئ قدم تحت الشمس، وفوق الأرض، في ظل الوجود الفاعل للرأسمالية الغربية، ومن سلك في فلكها كاليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما، والصين التي منذ ثلاثة عقود وهي تدق باب المشهد الدولي بقوة، حتى غدت من أكبر مكوناته، بل والمرشحة إما لخلافة الغرب أو لمشاركته؛ وكلما قرأنا في الكتاب سنجد أن هذا الإيحاء يظل هاجسًا لنا، إذ كيف سنكون، وكيف سنثبت الذات القومية إن لم نهتم بخصوصيتنا؟

انطلق الكاتب فيما يشبه الخلاصة الفكرية متحليًا بقيم التعاون لا الصراع والكراهية، ناظرًا نحو مستقبل شراكة إنسانية، لا نجد أنفسنا خارجها.

وختم الكاتب مقدمته الغنية عن كتابه بقوله: "ما زالت صرخة الشاعر إبراهيم اليازجي في مطلع قصيدته الشهيرة تلقى الصدى بعد أكثر من قرن على إطلاقها:

تنبهوا واستفيقوا أيها العرب    فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب".

فيما ختم الكتاب بفقرات في صفحة 358 ومنها: "لن يتغيّر الواقع العربي إلا باعتراف العرب الصريح والإقرار المبين بالتخلف العربي عن ركب الحضارة المعاصرة والسعي غير المشروط أو المجزوء لاستيعاب قوانين العصر والعمل بموجبها. إن الحضارة الغربية هي محصلة التقدم الإنساني التراكمي عبر العصور وبالتالي هي ليست ملكًا للغرب وإنما هي ملك للبشرية جمعاء وتعبر عن تفاعل الإنسان مع البيئة ومع غيره من البشر على مر العصور منذ وجد الإنسان نفسه على هذه الأرض، وعلى العرب عدم التحرج من الخوض في غمارها وتقبل مضامينها واستيعاب جوهر تقدمها وليس الاكتفاء فقط بالعيش على هامشها وفي كنف استهلاك منتجاتها". وهو إذ يقرّ بأن "العرب في هذا العصر هم خارج التاريخ"، فهو يصف واقعهم بأنه "عالم الحاضر الزائف المقولب في الماضي من دون مقدرة فهم على الانخراط فيه وفق أسسه ومعاييره الحاضرة". ويصف بروح ناقدة ونقدية حالنا التي تعاني "ازدواجية المراوحة بين حياتين: واحدة تتمسك بشعائر ومظاهر تقليدية الحياة الماضوية، وواحدة أخرى تبدو في مظهرها عصرية، ولكن عصريتها لا تتعدى استهلاك القشور التحديثية الهامشية.. حياتان تحاولان الامتزاج مع بعضهما، لكن بلا أيديولوجيا حاكمة أو منظومة قيمية متماسكة"؛ ويقترح علينا تحسس طريق النهوض، وحتى نطأ المستقبل ينبغي فهم ما كان ويكون، والإرادة تقتضي ذلك، وليس في ذلك خيار.

يربط المؤلف الحضور والحضارة، ليس فقط من ناحية الجذر اللغوي، بل الجذر الأكثر عمقًا، موغلًا في الوجود الفاعل، ضمن الالتزام الوجودي الأكثر نبلًا، فلا يمكن للحضارة أن تتأسس وتستمر وتزدهر، إن لم يتم توظيف الواحد للكل، الذي يعلي من كرامة الأفراد. وهذا يقودنا إلى العامل الذاتي الذي كان باعث مشروع الجرباوي من فلسطين المحتلة، فهو في الوقت الذي يعمل فيه لإنهاض (قومه) يريد لهذا النهوض أن يكون إنسانيًا، فلا تناقض بين تقوية الذات الفاعلة، والتعاون مع الآخرين، فلسنا وحدنا من يعيش على هذه الأرض.





أثار الكتاب تفكيرنا، فإذا وضعنا كل مصطلح هنا- المعرفة، الأيديولوجية، والحضارة- على حدة وفكرنا بعلاقته بالعنصرين الباقيين، ثم أدخلنا التاريخ كمتغير على المزيج، ماذا سنقطف! بمعنى، كيف ننظر للأيديولوجية والحضارة من منظور المعرفة؟ وكيف ننظر للمعرفة والحضارة من منظور الأيديولوجية؟ وكيف ننظر للمعرفة والأيديولوجية من منظور الحضارة؟

يربط المؤلف بين علاقة تراكم المعرفة المادية عبر الزمن، الناجمة عن استمرار تفاعل جدلية علاقة الإنسان مع البيئة ومع غيره من البشر، مع نوع الأيديولوجيات المنتجة تعبيرًا عن ذلك، في العلاقة مع تكوين الحضارة. إنه يفترض "بأن التاريخ خط زمني متصل لا ينقطع، تتولى تفاعلاته وأحداثه تباعًا نتيجة هذه العلاقة المستمرة والمتواصلة، والتي يعبر عنها بتكوين ثقافات محلية، يتحول بعضها إلى حضارات عالمية، وتتوالى هذه الحضارات في خط سير متصاعد عبر العصور، يدلل على مجرى تطور الحياة البشرية، ويعكس ظاهرة ازدياد علمنة وعولمة العالم مع مرور الزمن".

وهنا لربما نقف عند "ظاهرة ازدياد علمنة وعولمة العالم مع مرور الزمن" كونها، كما نفهم، هي الخلاصة أمس واليوم وغدًا، وهي ما يقف ضده المنتفعون من غياب العلمنة والعولمة بمعناها الإنساني الرحب.

عرض الكتاب تقريبًا للحضارات والأفكار، حيث لا يظهر هنا كيف فهم هو التاريخ (أو حاول فهمه على حد تعبيره)، بل يوحي لنا بشفافية وذكاء لنفهم ما كان ويكون. لقد أنسن الجرباوي التاريخ، حيث ظهر مضمون ذلك خلال نقده للمركزية الأوروبية في الفصل الأول الذي سماه "بتر التاريخ"، فلم تبدأ الحضارة مع جنس معين، بل هي تراكمات، لذلك اختتم هذا بنقد شديد لأفكار فرانسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ"، وصامويل هنتنغتون حول "صدام الحضارات"، ومدرسة التحديث الأميركية فيما يتعلق بفكرة ديمومة إلحاق غير الغربيين بالغرب. ونحت مصطلحًا آخر هو "تدحرج التاريخ"، أي "محاولة إعادة التاريخ إلى سياقه الزمني الطبيعي، وتحقيق ذلك يتم بتسلسل زمني مختصر ومكثف، وتتبع لكيفية تطور جدلية العلاقة التي تربط الإنسان مع البيئة، مع العلاقة التي تربط الإنسان مع الإنسان".

وفي ظل الأنسنة الحضارية، أعاد الحضارات طبيعيًا الى تأثيرات "علاقة الإنسان مع البيئة ومع غيره من البشر"، من خلال تحليل كيفية تأثير محدودية المصادر المتاحة من البيئة للإنسان، على تطور ظاهرتي "تقسيم العمل" و"الملكية الخاصة"، وما أدى إليه ذلك من أثر على مستوى التعاون والتنافس بين البشر.

والمهم هنا هو قراءة واعية لدى الكاتب لأثر "تراكم المعرفة المادية وانحسار الغيبيات" على وعي الإنسان باتجاه العلمنة، أو أن العلمنة هي تجليات هذا الوعي. لذلك راح يتحدث عن عيش البشر ضمن نظريات العقد الاجتماعي. وهنا يشير بعمق الى صعود الحضارات وهبوطها، مستعرضًا في الفصل الثالث مساهمات ابن خلدون وأوزوالد شبنجلر وأرنولد توينبي وكارول كويغلي وغيرهم.

ولربما في هذا التسلسل يصل في الفصل الرابع إلى الحضارات المتموضعة العالمية، والإغريقية، والرومانية، والحضارة العربية- الإسلامية، والحضارة الغربية، في سياق تأملاته عن مسار التاريخ، حيث نراه قد كثّف ذلك في إطار نظري مشيرًا إلى تحول الحضارات المتموضعة إلى حضارات عالمية، من خلال ما أسماه أيضًا بـ"الانتقال الحضاري".

يقارن الجرباوي بين ثلاثة أنماط مختلفة، تأتي كردود فعل من قبل الثقافات على التحديات التي تفرضها عليها الحضارة الغربية. وهي: العربية التي سمّاها بـ"الانفصامية العربية" كونها كما يقول: "ارتضت القبوع على الهامش واستهلاك ما ينتجه الآخرون، ولا يعترفون في المقابل بالتفوق الغربي دون المواجهة"، (ص 21 و318). أما الثقافة اليابانية فإنها تعرضت لتحول جذري بعيد ضرب الولايات المتحدة لمدن يابانية بالسلاح النووي، واحتلال أميركي لليابان حتى عام 1952؛ ما حفّز اليابانيين على طيّ صفحة الماضي والانضواء والمشاركة في ركب الحضارة الغربية واستيعاب نماذجها، (ص 327)، دون منافستها، ولكن بمشاركة فاعلة. في حين أن الثقافة الصينية هي الوحيدة والقادرة على منافسة الحضارة الغربية والولايات المتحدة الأميركية. فهي تمتلك أيديولوجيا عالمية التوجّه، ولديها تاريخ مرير مع الاستعمار الذي عرف بـ"قرن الإذلال" (1839 – 1949)، ما منحها الدافعية للمنافسة والصعود الدولي في أقل من سبعة عقود منذ تأسيس الصين الشعبية عام 1949. كما أن القيادة الصينية الحالية لديها استراتيجية ورؤية للواقع الدولي لتحقيق بلوغ "العصر الجديد"، الطامح لرؤية مغايرة عن "العهد الأميركي" ومنطلقاته الاستعلائية التنافسية، تقوم على التعاونية والأخلاق... (ص 331). فهي لديها مقدّرات وثقافة (الكونفوشية) وحوافز ورغبة وقدرة. وينبه الجرباوي إلى أن تحوّل الثقافة الصينية لتصبح حضارة عالمية تزيح الحضارة الغربية هو أمر ذو شأن معقّد ويحتاج لوقتٍ أطول قد يصل لقرون.. وبذلك تكون هذه المسألة بمثابة نظرته إلى المستقبل.

يقدم الجرباوي في خاتمة كتابه نظرة مستقبلية تتنبأ بأن الثقافة الصينية هي الوحيدة التي تمتلك المقومات الضرورية لتحدّي الحضارة الغربية، وإنتاج حضارة بديلة تحلّ محلها، وتنبّه إلى أن انبثاق وصعود الحضارة الصينية سيكون شأنًا أكثر تعقيدًا وصعوبة، وسيتطلب وقتًا أطول بكثير مما تحتاج له الصين لبلوغ قمة النظام الدولي. ولكن مع ذلك، فإن العبرة التي يمكن الخروج بها من هذا البحث، هي أن جدلية العلاقة التي تربط الإنسان مع البيئة، والإنسان مع الإنسان، هي المحرك الأساسي للتاريخ، الذي ينثال متدحرجًا، بديمومة واستمرار.

أخيرًا، ها هي الصين تخطو الى الأمام، فكيف سيكون تموضعنا نحن العرب في هذا العالم؟ وهل سنستفيد مما أوتينا؟ وهل هناك محاولات جادة لاستعادة الدور من خلال البدء في فهم شروط العصر؟ وهل سيطول إهمالنا للعامل الأيديولوجي الذي يمكن أن يحدث فعلًا لقوميتنا بعيدًا عن التطرف والانغلاق؟

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.