}
عروض

كاريكاتير حبيب حداد.. ترجمة المعاني والأفكار إلى صيغ ساخرة

محمود الريماوي

24 أبريل 2022


إذ يتناول أحدنا هذا الكتاب، أو حتى يرمق بنظره غلافه وعنوانه: "حبيب حداد سحر الورقة البيضاء" (منشورات "طش فش"، بيروت 2022، إشراف وتقديم: كميل حوّا)، فإنه يتهيب الاقتراب منه، إذ يبدو الكتاب بأرضيته البيضاء كبير الحجم بقطع مُربّع أشبه بالأطالس، وبمطبوعات سنوية خاصة بمؤسسات كبرى، تزيّنه ستة رسوم كاريكاتيرية، ثلاثة بالأبيض والأسود، والبقية بلون كمّوني، ويعلو الغلاف بورتريه للرسام اللبناني وهو يضع على ركبته قلم رصاص ضخم الجُرم، ويعمل الرسام على حَفّه بذراع مشمورة، وبسكين كبيرة، فيما يلتفت بوجهه في اتجاه معاكس، ويكاد القلم يضاهي في حجمه كتلة الرسام الجالس على مقعد أسود صغير بغير مسند للظهر، وبنظارة بيضاء تُخفي عينيّ صاحبها وتحلّ محلهما، فيما يبدو متجهمًا حانقًا يُعاين أمرًا ما، وعلى غير عادة كثرة من رسامي كاريكاتير ممن تضيء وجوههم ابتسامات منشرحة.
أما البياض في الغلاف، وفي عنوان الكتاب "سحر الورقة البيضاء"، فيحيل إلى أمر تأسيسي في نشأة الرسام، فقد كان في طفولته، أو يفاعته، ولدى تحسسه لميله إلى الرسم، يصادف صعوبة بالغة في العثور على ورقة بيضاء، رغم أن أسرته لم تكن معوزة، ولعله يقصد أن تلك الأوراق لم تكن تتوافر سوى في دفاتر المدرسة الابتدائية، وحيث أن صفحات الدفتر الواحد معروفة ومعدودة على التلميذ صاحب الدفتر، ولا يسعه التصرف بها إلا لغايات التعلم، وتحت طائلة المساءلة من معلم المدرسة، أو من ولي الأمر. لهذا، وأمام هذا النقص الشديد في مادة خام أساسية، فقد اضطر الرسام في بواكيره إلى اتخاذ الحيطان أوراقًا لمحاولاته الأولى، بعدما أصغى لنداءاتها، وهي صورة تشبه للأسف حال السجناء في محابسهم، وبزيادة جرعة المخيلة، أو الذاكرة، فإن هذه الحالة تحيل إلى "فجر التاريخ"، حيث كانت المعابد، وبعض البيوت، تزدان بالرسوم والرموز، ومع ذلك فإنها صورة وحالة تنتمي إلى الواقع في خمسينيات القرن الماضي، حين كان استخدام الأوراق البيض محصورًا في المدرسة، أو في دوائر الموظفين، ولم يكن أحد يملك ترف استعمالها لغايات أخرى، كاللعب والرسم، إلا لدى الأسر الموسرة.




لقد انتظمت صداقة الرسام حبيب حداد مع الأوراق البيض طيلة حياته، وقد تفرغ فيها للرسم الكاريكاتيري الذي تطبعه وتنشره دوريات ورقية في لبنان وخارجه. وما انفك الرسام حداد حتى أيام الناس هذه حليفًا للقلم والحبر والورق، برغم جاذبية استخدام الوسائط الحديثة في الأعمال الفنية، بما فيها رسم الكاريكاتير، والشرائط المصورة، غير أنها جاذبية لا ترقى عند الرسام إلى مستوى السحر الذي يوفره امتزاج ملمس الورقة بحركة قلم الرصاص عليها في التخطيط الأول، قبل أن تمر الريشة لتثبيت ما يستقر من خطوط بالحبر الأسود، وفي حالات أقل بأقلام التلوين. "اكتشافي للورق كان كأنه اكتشاف الإنسان للنار، صار بياض الورقة رفيقي وخليلي الذي لا أفارقه. صارت الورقة من المقدسات، وباتت كأنها المرآة"، يكتب الفنان في شهادة ذاتية.
ومن عاش مثلنا عهد الورق والحبر وأقلام الرصاص، وتعلّق به لردح طويل من الزمن، فإن انقطاع حبيب حداد إلى الرسم المباشر باليد بغير وسائط إلكترونية، يثير المشاعر ويضفي إحساسًا بالثقة، كما هي الحال مع سائر المنتوجات الرفيعة التي تصنف بأنها Hand made، وقد لجأ الفنان بدعم من راعي نشر الكتاب معتز الصواف، ومنسق الكتاب ومحرره كميل حوا، إلى طباعة الكتاب وإصداره على ورق فخيم وثمين بدلًا من اللجوء إلى أو الاكتفاء بتخصيص موقع إلكتروني لأعمال الرسام، أو حتى بدلًا من إقامة معرض استعادي لرسوم الفنان في مراحله المختلفة. وقد أتاح نشر الكتاب ورقيًا تضمين شهادات مقالات لكل من سمير عطالله، جو زابو، محمد علي فرحات، إلياس ديب، علي مندلاوي، جان رطل، إسكندر الديك، نسيم خوري، سعد حاجو، عماد حجاج، وجورج خوري. إضافة إلى مقال لدار النشر "طش فش" بعنوان "أستاذ نفسه ومدرستها"، وقد حرص هؤلاء في ما كتبوه على الجمع بين ما هو ذاتي في صداقتهم للرسام، وبين ما هو موضوعي في تحليل أعماله.




وهكذا، فإن التهيب الذي يصيب القارئ للوهلة الأولى لدى مصافحته الكتاب، يتحول مع العبور إلى متن الكتاب إلى رحلة خفيفة وشيقة، وبخاصة لدى القارئ المتابع الذي صادف من قبل العديد من رسومات الفنان في دوريات عربية، وتتوطد الألفة مع الاطلاع على شهادات ومقالات لمحبّي الرسام ومجايليه، وبعضهم أسماء عربية ذات باع في فن الكاريكاتير.
فإذا أضيفت لذلك خصوصية فن الكاريكاتير، وموهبة الفنان وطاقته التخييلية وحسه الساخر المجدول بنازع نقدي، فإن القارئ والمتصفح لدى وقوفه على هذا الكتاب لا يملك إلا الشعور بمدى ما تمتع به الرسام، وما اكتنزه من ذخيرة أخلاقية تواكب السياسة وعالمها وحالاتها وتحولاتها من غير أن تلتصق بأحداثها اليومية، ومن دون الانسياق وراء وهج الزعامات السياسية، وذلك خلافًا لما دأب عليه رسامون في موطن الفنان بالانجذاب إلى المحليات السياسية والاجتماعية. بل إن فن حبيب حداد اكتسب على مدى مسيرته منذ أقل بقليل من نصف قرن سمة إنسانية وكونية عابرة للمحليات، وللحدود الجغرافية والثقافية، هو الذي نشأ في منطقة شعبية في طرابلس شمال لبنان في أسرة متوسطة الحال. ولعل هذه الحياة الضيقة التي اصطدم بها الرسام في مفتتح حياته، رغم جمالية البحر، وكان جارًا قريبًا له، وما إن استشعر دبيب الرسم في روحه وعلى أصابع يده، قد دفعته بين عوامل أخرى إلى ارتياد آفاق وشواغل إنسانية عامة وعالمية، لا أن ينكبّ على توسيع تلك الحياة الضيقة والبيئة المحدودة والمكوث فيهما. ومع اتساع هذه الآفاق ورحابتها، فإن مسيرة حبيب حداد صنعت هويته رسامًا سياسيًا في المقام الأول، بعقل ووجدان سياسيين يراقب أحوال الدنيا والشعوب والمجتمعات ويتفاعل معها ويسارع (بحكم ضغط العمل الصحافي ومتطلباته) إلى قول كلمته وتعليقه الفني، برغم حرصه ونجاحه المبكر في التقليل من استخدام التعليقات والشروحات والحوارات ومواظبته على ذلك.
ولعلها ليست من المصادفات أن الكتاب يتضمن بضعة رسوم عن أوكرانيا تعود لعام 2014، مع الاحتلال الروسي لجزيرة القرم، ولجزء من شرق البلاد (الحرب علينا بدأت ومن دون توقف منذ عام 2014، يقول مسؤولون أوكرانيون)، من بينها لوحة تصور اندفاع زجاجة فودكا كقذيفة وسط دخان كثيف، مقتربة من زجاجة كوكا كولا تخرج شعلة نار من فوهتها. وفي رسم آخر، تبدو فتاة دمية موثقة على عربة خشبية تشدها خيوط إلى المجهول، ويحمل الرسم عنوان "كالينكا في أوكرانيا"، في إحالة إلى أغنية روسية شعبية عن طفلة تستلقي تحت شجرة وتستشعر خطرًا ما، وفي لوحة ثالثة يصور الرسام دُبًّا روسيًا ينقض على وليدة تسمى أوكرانيا ويعتصرها.





تزخر رسوم حبيب حداد بالمعاني والأفكار و"السجالات" والتأويلات. فهو يرسم العالم الذي نعرفه ونعيش في كنفه، ويواكب تدفق الأخبار والتطورات من مرسمه، ولا يتوانى عن التدخل فيها بشهادة ضميرية، وبتحليل ساخر، يكشف المستور ويضع يده على المغزى (لديه رسم يعود لعام 2013 بعنوان "تحت السطور"، حيث يستخدم القارئ فرشاة لإزاحة السطور والعثور على ما تحتها). ويجد قارئه ومتصفح رسومه في تحرره من الأدلجة، ومن الانحيازات السياسية الضيقة، مساحة واسعة من الإطلال على قضايا العالم بما فيها قضايا "غير ساخنة"، لكنها ذات أهمية بالغة وترتبط بعالم السياسة، مثل مسائل البيئة والتغير المناخي، وارتياد الفضاء، وصراع الحضارات. والحال أن حبيب حداد في رشاقة خطوطه، وفي احتفاظه بمساحات فارغة في فضاء الرسم، وفي النأي عن تصوير الأشخاص والزعامات، ومع تميّزه الأكيد، ليس منقطع الصلة فنيًا وسياسيًا عن إرث سياسي للكاريكاتير العربي لدى ناجي العلي، وعلي فرزات، وفي رسوم مصرية ازدهرت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي لرسامين، وثمة بعض من الصلة مع مواطنه بيار صادق في الخطوط الرشيقة الطويلة، وفي ترجمة المعاني والأفكار إلى صيغ ساخرة.
وهكذا، ومع الانشداد إلى العالم الخارجي، والاستغراق فيه ومحاورته ومساجلته والاشتباك معه، فقلما يفتح الفنان نافذة على عالمه الداخلي، على هواجسه الخاصة واستيهاماته الذاتية، وعلى اللعب الحر بين المواضيع والأشكال، وتلك ضريبة الانقطاع إلى الرسم السياسي الذي فرضته الصحافات العربية على الرسامين بقصر تعريف الرسم الكاريكاتيري على أنه من قبيل إبداع بغير كلمات، أو بأقل القليل منها، وبما "يضاهي مقالًا بألف كلمة"، مع أن الرسم الكاريكاتيري يتفرع عن جنس الفن التشكيلي، والأقرب أن يضاهي الكاريكاتير لوحةً لا مقالًا. وثمة عدد وافر من اللوحات في إبداع حبيب حداد، ومنها على سبيل المثال فقط اللوحات كبيرة الحجم والملونة لمجلة "شمال جنوب" أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وبعض لوحات موضوعة "الربيع العربي" إلى لوحات أخرى بالأبيض والأسود رسمها الفنان متحررًا من ضغط نداءات المطبعة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.