}
عروض

أنيس النقاش في مذكراته اللاهبة.. خلاصة أحلام زاهية انقرضت

صقر أبو فخر

5 أبريل 2022





في الذكرى الأولى لرحيله المفاجئ صدرت في بيروت "مذكرات أنيس النقاش.. أطفال وأقدار" (مكتبة بيسان، 2022، 767 صفحة)، وفيها يقصّ ذكرياته عن بيروت والحياة اليومية فيها في أواخر خمسينيات القرن المنصرم، وعن طفولته وعائلته ومدرسته الابتدائية. وتروي المذكرات، بلغة حارة، حضور قضية فلسطين وثورة الجزائر في وعي ذلك الجيل، الأمر الذي جعل أنيس النقاش ينتقل من العروبة الرومانسية التي جعلت جمال عبد الناصر زعيمًا فريدًا للعالم العربي، إلى العروبة النضالية التي جسدتها حركة فتح بُعيد انطلاقتها في 1/1/1965. وتسرد المذكرات كيف التحق ذلك الشاب البيروتي بحركة فتح، وكيف ناضل في الإطار الطالبي، ومَن هم الفتحاويون الأوائل الذي عرفهم، والذين تركوا تأثيراتهم عليه أمثال الحاج طلال (سمير أبو غزالة) وهاني فاخوري (أبو ياسر) ورفيق البلعة. ولم يكن غريبًا على أنيس النقاش، جراء حيويته واندفاعه في تلك الحقبة، أن يُكلف بمهمة سرية غاية في الصعوبة في أريتريا تتضمن إخراج أحد المناضلين الأريتريين من السجن الأثيوبي. وقد يسّرت الأقدار تلك المهمة حيث وجد أن ذلك المناضل قد خرج من السجن قبل وصوله، فأرسله إلى روما بجواز سفر مزور. وتمكن ذلك الأريتري من المجيء إلى لبنان مستخدمًا الجواز المزوّر حيث تلقى التدريب الملائم قبل العودة إلى أريتريا لمتابعة النضال السري في سبيل استقلال بلاده.

خضع أنيس النقاش، كما تسرد المذكرات، لدورات عسكرية في لبنان وسورية، ولدورة أمنيّة في مصر، وانخرط بوعي كامل، وبشغف عميم، في العمليات الخاصة الخارجية، وكان رفيقًا للشاعر السوري كمال خير بك وفؤاد عوض وفؤاد الشمالي، وهؤلاء الفرسان الثلاثة كانوا من الكوادر النادرين في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وكرسوا حياتهم لمقاتلة الاسرائيليين في أوروبا، وكثيرًا ما قهروا الاستخبارات الاسرائيلية (الموساد) في ميادين النضال السري. ومع أن زكي النقاش، وهو عمّ أنيس، كان أحد قادة الحزب، إلا أن أنيس لم ينتمِ إلى الحزب السوري القومي، بل كان ولاؤه ثابتًا لحركة فتح، وارتبط بعلاقة متينة جدًا بخليل الوزير (أبو جهاد)، علاوة على ياسر عرفات وهايل عبد الحميد (أبو الهول) وغيرهما.





من دواعي غبطتي أنني افتتحت هذه المذكرات بمقدمة أردت أن أُعيد فيها تقويم تجربة الصديق الراحل أنيس النقاش، وأضعها في سياقها التاريخي والطبيعي، أي أن أردّها  إلى مرحلة الألق الثوري الذي غمر الشبيبة العربية، وغمرنا معها جميعنا بالطبع، وإلى مرحلة الصعود القومي العربي بشقيه البعثي والناصري، ثم انتكاس تلك المرحلة بهزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967، والبدء بتحطيم الأيقونات القومية للعثور على بدائل منها. وكان الكفاح المسلح أحد تلك البدائل التي استولت على عقولنا وأفئدتنا في تلك الحقبة الزاهية، علاوة على التأثر بثورات التحرر الوطني في كوبا وفيتنام. وفي هذا الميدان كان أنيس النقاش، كما يتراءى في مذكراته، خلاصة جيل عربي تفتّح وعيه في أجواء مدينة بيروت الناصرية، وطمح بقوة إلى تحرير فلسطين وإلى الخلاص من الاستعمار، وتوحيد العرب في دولة عصرية حرة وديمقراطية. ولأن لا أحد نجا من التجربة الفلسطينية فإن التحاق أنيس النقاش بحركة فتح كان مسارًا طبيعيًا إلى حد كبير. وخاض في معمعان هذا المسار عمليات خطرة جدًا أبرزها اقتحام مقر منظمة أوبيك في فيينا في سنة 1975، وتمكن مع كارلوس وآخرين، من اختطاف وزراء النفط لدول تلك المنظمة لغاية ظلت ملتبسة إلى وقت قريب. أما أخطر العمليات فكانت محاولة اغتيال شهبور بختيار، آخر رؤساء الحكومات الإيرانية في عهد الشاه محمد رضا بلهوي في سنة 1980. وقد فشلت تلك العملية التي جرت في قلب باريس، واعتُقل أنيس مع رفاقه، وبدأت مرحلة جديدة في حياته هي مرحلة السجن الذي طال عشر سنوات، علمًا أنه حُكم بالمؤبد.


ما الذي جعل أنيس يخاطر بحياته في سبيل الثورة الإسلامية في إيران وهو الفتحاوي في الأصل والفصل؟ إن المذكرات تشرح ذلك بإسهاب؛ فأنيس كانت له صلة قوية بكوادر إيرانيين كثُر من الذين تلقوا التدريبات في معسكرات حركة فتح، أو من الذين كانوا يتلقون الرعاية السياسية والحماية الأمنية من فتح أمثال محمد صالح الحسيني وجلال الدين الفارسي، أو من الذين صاروا من القادة البارزين أمثال محسن رضائي ومحسن رفيق دوست وأبو الحسن بني صدر وعباس زماني، ومعظمهم أُقصي من السلطة الجديدة بالتدريج، وبعضهم اغتيل وآخرون أُعدموا أو طردوا إلى المنافي. وقد خشي كثيرًا على مستقبل الثورة الإيرانية، ووصل إلى علم أنيس أن شهبور بختيار يُعد مخططًا لإجهاض الثورة والاستيلاء على السلطة مجددًا، فاقترح إفشال تلك الخطة باغتيال شهبور بختيار نفسه، وتطوع لتنفيذ عملية الاغتيال بنفسه.

يسرد أنيس النقاش بأسلوب سلس وحاذق تجربته في السجون الفرنسية التي تنقّل في عدد منها طوال عشرة أعوام. ويروي تجربته القاسية تلك بلغة مشحونة بعواطف حارة وقلق وهواجس ورؤى وتأملات ذات دوافع صوفية إلى حد ما. وقد أنهى مذكراته هذه بخروجه من السجن في سنة 1990، وذهابه إلى إيران لملاقاة رفاقه القدامى، ثم سفره إلى تونس للقاء ياسر عرفات وحده من دون رفيق دربه خليل الوزير الذي كان اغتيل في سنة 1988. وكثير من المعلومات الواردة في هذه المذكرات كان أنيس رواها لي مباشرة في جلسات متتابعة بين بيروت وطهران بعد خروجه في السجن. وقد صدرت حواراتنا آنذاك على حلقات في جريدة "القدس العربي"، ثم جُمعت مع معلومات إضافية في كتاب عنوانه "أنيس النقاش: أسرار خلف الأستار" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2009). أما المرحلة التي أعقبت خروجه من السجن، والتي امتدت ثلاثين سنة حتى وفاته في دمشق في سنة 2021، فيجب أن يكتبها رفاقه الذين عرفوه جيدًا في تلك المرحلة، أو عملوا معه، أو اطّلعوا على نشاطه السياسي والإعلامي بين طهران وبيروت ودمشق وبغداد، وهي مهمة ينتظرها المستقبل، علاوة على جميع من عرف أنيس النقاش واطّلع على تجربته الهادرة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.