}
قراءات

"لم يصلِّ عليهم أحد".. الأفق الإنساني بديلًا لتراجيديا الإفناء

المرتكز الأول: المعمار الروائي
بدايةَ، نؤكد أننا أمام روايةٍ بنفَس تركيبي مَلحمي، هي واحدة من الفَلتات السردية العربية المعاصرة تتأسّس على مَرجعيتَيْن سَرديّتَيْن. أولاهُما، ما أعاد كتابتَه خالد خليفة من مُصنَّفات حنا كريكورس السبعة، وقد اختار منها أربعةً. ثانيهما، السيرةُ العاطفية الغيرية، الحب المستحيل، عبارة عن قصة حب فُرُوسي بطلُها (صالح)، وهو خادمٌ قروي ساذج يتحوّل عبرَها من شخصيةٍ هامشية مُلحقة، ليصير مَتْنًا وأُسًّا في الرواية ورأسمالِها الرمزي بين الشخصيات. وقد أعاد الروائي كتابتَها بتصرف. هذا الإيهامُ الجمالي بالمرجعِيتَين يُطالِعُنا على شكل عَتَبة نَصّية مُنفرِّدة في قلب الرواية، بحيث كُلِّف الشاب وليم بإيصال مُصنّفات حنا التي كتبها خلال 40 سنة إلى جنيد خليفة، هذا الذي بعد أن باع المطبعة، ويَئِس من نُكران المدينة وجُحودها، انتقل إلى العيش في هدأة قرية العنابية.
تنتمي روايةُ الذين "لم يصلِّ عليهم أحد" لسرديات التخييل التاريخي، إذ تعود في بعض المشاهد إلى 1834م، حيث مذبحة السريان الكاثوليك، وتَمتدُّ بكثافةٍ إلى مُنتصف القرن العشرين. إنه مجازٌ فنّي واستعارةٌ جمالية للكتابة عن سورية المعاصرة. لتحقيق هذا الرهان الروائي، يَسترجع الكاتبُ ماضي البلاد بهدف ترهين حاضر سورية المُدَمَّرة إنسانًا وأرضًا عقِب طوفان الحرب. لذلك فإن السارد يَتوسّل تقنيةَ الاسترجاع أساسًا، حيث يَترُك القارئَ عند اللحظة الراهنة، ويَسترجع مسارَ الشخصية، أو الحدث، الذي يُبئِّره حتى يؤسسَ قاعدةً سردية صلبة لمساراتِ الرواية، عبر معمارٍ فنّي مُذهل، شُيِّد بدقّة وحِذْقٍ لافتين، كما لو أنه شُيِّد بمهارة المهندس، عازار إستنبولي، أحد الشخصيات الرئيسة في الرواية. من خلال تقديم الأحداث بشكل تركيبي ما بين السرد والتعليق، والمُراوَحة بين ضمير الغائب وضمير الأنا، واعتماد البناء التوليدي الذي تَتفرّع عبرَه مسارات سردية أساسية من أحد التفاصيل، فإن الاسترجاع يكون عودةً إلى خَفايا الشخصيات، وجينالوجيا مَواقفها، حيث مُجرّدُ مصادفة خاطفة، أو لمسة في إسطبل، أو قَبو، كتفصيل، قد تُشكِّل نَفَقًا سيكولوجيًا غائرًا يُؤدّي إلى قرارات حاسمة في مستقبل الشخصيات، ويصنع تجربة الفرد في الحياة. وهو أيضًا ما أعطى فرصة لتنويع النفَس والإيقاع السردي في هذا النص ذي البُعد الملحمي.
إنها رواية تُصيبك بالدهشة، تقف أمامها مذهولًا مُتسائِلًا عن القوة الجبّارة والمُخَيّلة الهائلة التي أنتجَتها، فهي مكتوبة بكثافةِ الحياة، بنبضها الذي نعيشه، لكن يصعب تطويعُه في اللغة، وتقديمه عبر الكلمات، كما صنع خالد خليفة. هي سرديةٌ تبدو كالحياة وقد تجلّت بين الصفحات بكل الجدل والتّيه والتركيب والشطط.
تعليقًا على التحولات الكثيفة والمُركّبة التي حدثت في حياة صالح العزيزي، بعد أن تحول من فلاح ريفي ساذج إلى خادم يُريد الانتماء إلى المدينة، ثم إلى عاشق بشكل صدفَوي في قصة الحب المستحيل، يقول الروائي: "إنها الأشياء كما يجب أن تحدث دومًا كي تصبح الحياة جديرة بالعيش" (ص155). وبدورنا، نقول إنها الكتابة الروائية كما يجب أن تحدث دومًا كي تُصبح الروايةُ جديرة بأن تُكتَب بفرادة، وتُقرأ بشغف.

المرتكز الثاني: تراجيديا الموت وعطب الإنسان
يُشكِّل حنّا كريكورس الشخصيةَ الأكثرَ حضورًا في الرواية، عبر مرحلتين من تكوينه النفسي، وتجربته الإنسانية الحائرة. إنه سليلُ عائلة مسيحية، هَرَّبَته الخادمة مارغو بعد إبادة عائلته، وحمْلة المُداهَمات والتفتيش التي طالت ماردين تقفِّيًا لأثره. ورِث ثروةً هائلة، وقد كَفِلَتْه أسرةُ البيازيدي المسلمة. في مرحلته الأولى، خلال التجربة المادية، والبحث عن المعنى المحسوس للحياة هَرَبًا من ذاكرة مُثْقلة بقسوةِ مشاهد الإبادة والتنكيل، شَيّد حنّا قلعة اللذة الفاخرة في ضواحي حلب، رفقة خِلّانه، حيث إن "اللوحة الكبيرة المنقوش عليها عام 1897م، وتحتها نحت أسماء الأصدقاء الأربعة، وليم عيسى؛ زكرياء البيازيدي؛ وحنا كريكورس، وعازار حاييم إستنبولي، كانت رسالة للجميع بأن أفضل أيامهم كأصدقاء تلك التي قضوها في المدرسة" (ص28). أما في مرحلته الثانية، خلال تجربة التحول والزهد الروحي، فإن حنا بَنى ديرًا على أنقاض كنيسةٍ عتيقة غابرة تحت طبقات الأرض جاءته كرؤيا مُتكرِّرة. إن الحفر والبناء هنا دَرْسٌ رمزي لما قد يَبنيه الفرد ويَستَغْوِرُه في داخله من أفكار ومبادئ ومقولات وفقًا لها تَتمخَّضُ تجربة حياته وتتحقق أسطورتُه الشخصية.




إن منصّة المُنتحِرين التي بناها حنّا في قلعة اللذة، وتَفنَّن في تأثيثها، حتى إنه خَصّص قبورًا من الفضة الخالصة لمَن قد ينتحر بشكل فُرُوسي من ضيوف القلعة المُقامِرين المُتهَتِّكين، من دون أن ينتحر فيها أحد، ليست إلا تلك المنصة السردية والأقدار التي قاد خالد خليفة كثيرًا من شخصيات الرواية إليها، لتُقَدَّ على طقوسِ انتحارٍ فريدة، بعد أن وصلت إلى حافة الحياة والإحساس باللاجدوى. في هذا المستوى، يمضي حنّا تحت جاذبية الموت للغرق في نهر عفرين، الذي أفنى القريةَ أجمعها في أول سطر من الرواية، حيث ابتلع زوجة حنّا وابنَه، وجَرف ذكرياته مُسَبِّبًا له العطبَ الوجودي العُضال، بينما نرى صالح يُعلّق أنشوطةً في مئذنة الجامع فجرًا بعد أن أفرط في حُب عائشة استيهامًا، وانتهى إلى الوجد الإلهي حتى صار إمامًا للعاشقين. أما عارف آغا فنراه يَعترض القطارَ الذي يُمزّقُه أمام جَوقة العازفين بعد أن مَزّق أحلامَ عمره في امتلاك أول قطار يَعبُر أراضي حلب مع ظهور خطِّ السكة الحديدية في المشرق العربي، في حين يجمع الشاب وليم البيازيدي أغراضَه الحميمة والفَنّية، ويحملُها معه ليعيش ما تبقّى من عمره في الدير زاهدًا بعد موت توأمه عائشة، طالبًا أن يُحرَق جثمانُه، ويُذرى رمادُه في الحقول، بينما يُدفَنُ التابوت بتبجيل.

يحضر الموتُ أيضًا كهاجس ونبوءة، مثل موت عائشة في استوديو أخيها وليم، ونُبوءة العمّة أمينة بموت والدها نجيب البيازيدي. ثم إننا أمام درجة قاسية من الهشاشة الإنسانية بانتحارات يومية بطيئة وتَفسُّخ وجودي كابَدَته كثيرٌ من الشخصيات الأخرى بعد التّيه والقلق البشري المُزمِن من أنصاب الحياة والخسارات النفسية المُتواترة. بل إن الموت والمجازر والإبادات تَطلُع شواهدَ من تواريخ قديمة، مثل اكتشاف عشرات الجماجم عند حفر التَّل تحقيقًا لرؤيا حنا حول الكنيسة العتيقة، ومكان بناء الدير، حيث "فكر بأن هذه الأرض تغص بالمقابر الجماعية، تضم رفات بشر بؤساء لم يدفنهم أو يصل عليهم أحد" (ص184).
تُراهن الرواية، إذًا، على تأكيد أن الموت لا يعني فقط الموتى، بل إن الأحياء يعيشون موتى كذلك، عبر جدليةِ تجربة الموت الذي يُصيب الموتى والأحياء معًا، إذْ أن فَيضان نهر عفرين قد ابتلع جماعةَ أهالي قرية حوش حنّا، كما دَمّر وأغرق حياة الآخرين الذين فقدوا أحبَّتهم، وظلوا بعد ذلك موتى أحياء، فالمجازرُ والمهالكُ التي أَزهقت الأرواحَ، ونَكّلت بالجُثث، جعلت الناجين يَحْيَوْنَ عطبَ الموت والتفكك الوجودي، كما لو أن خليفة يُشهِد العالمَ أن من بقي حيًا من السوريين الذين نَجوا من المَهلكة المعاصرة إنما هم موتى على قيد الحياة، وأحياءٌ على قيد الموت، فالأحياء وقعوا في ورطة الحياة المعطوبة، ورِثُوا قلقَ الوجود، وحيرة الفقد، وعبثَ المعنى.
لذلك نقول إنها روايةٌ تفكك سؤالَ الموت والإفناء، إذ هو البؤرة التي تُولّد السردَ بكل تفرُّعاته الكثيفة. وكما أسلَفنا، فالطوفان استعارةٌ عن الحرب المُدمِّرة التي مَحقت سورية المعاصرة، وقتلت الموتى والأحياء على حد سواء. إن حنا فَقَدَ اليقينَ، وصار قُطبًا في رحى الفراغ، نسمعه يَئِنُّ: "شعرت بخفة لا متناهية، كما يشعر كل الأموات الذين تورطوا في العيش مع البشر" (ص63). كان ذلك بعد حالات الفقد التي مُنِيَ بها، واجتاحَته منذ الطوفان، ودخل حنا إثرها مَخاض تجربة التحوُّل والزهد، سائرًا على درب الآلام، تُرافقُه ماريانا التي نَذرتْ حياتَها لصناعة أسطورة حنا التقديسية، وتَطويبِه قديسًا بعد موته على غير إرادته تمامًا، فهو يُريد تخليصَ نفسه من عبء حياته بتدوينها، كأنه خروجُ الروح من الجسد، وتلاشيها بعد ذلك في أشياء العالم. إنه حريص في هشاشته على تقديم حياته وفق سَرديته الخاصة، لا تلك التي رَوَتها ماريانا وسارت بها جموعُ المُعذَّبين.




قضى حنّا أربعين سنة في رحلة التحول، حتى أصبحت حياتُه وقتًا فائضًا لا يعرف ما يفعل به، قَطع برزخَ الأشياء على درب التجدُّد، جاعلًا من عناصر الطبيعة دالًا رمزيًا، إذْ تتداعى عناصرُ الطبيعة وتَعبُر البرزخَ لتُعاوِد الحياةَ والانبلاجَ في حُلّةٍ جديدة تَتبّعها حنا طوال سنوات العزلة والتأمُّل عبر رحلة عبور وتطهير روحي "للخلاص من ورطة الحياة"(ص67).
بعد كل تلك السنوات التي قضاها في التأمُّل، والعيش على الكفاف داخل الدير العتيق، ظل حنّا يَفتقد اليقينَ والمَغزى، لذلك يُقَرّر العودة إلى قريته حوش حنّا في رحلة سرية مُصطحِبًا رفيق عمره وشقيق روحه زكرياء، مُتَقَرِّحًا من الدَّمامل يَنتظر موتَه. وبمُساعدة من وليم، الذي قاد عربةً صغيرة تَحمل والده زكرياء على مِحَفّةٍ، بينما حنّا يقطع مسافةَ مئة كيلومتر على الأقدام، يَمُرُّ في زيارة أخيرة إلى سعاد، حُبّه الصامت خلال ستين عامًا، يَتبادل معها رسالةَ اعتراف قاسية تَحفر وئيدًا في حكاية حُبِّهما الصامت والضائع، فهو بمثابة الخيط الإنساني الرفيع الذي بتَضييعِه أفرغا حياتَهُما وعاشا التعاسة. عاد حنا إلى قريَته المهجورة مُقَرِّرًا الموت والتلاشي قرب النهر، كأنه نُذُرُ وفاءٍ وقربان لمَن جَرَفهم الطوفان. ولعلّ الرواية بذلك تراهن على فكرة تخليص الفرد من سلطة النزعة المادية التملُّكية، إذ هي قادحةُ قوةِ الشر في الإنسان، وأصلُ الصراع والإفناء، ساعيًا بشكل جدلي إلى فتح الأفق الإنساني أمام الضمير.

المرتكز الثالث: أسئلة الاختلاف الطائفي والإثني
على طول أحداث الرواية، وتطوُّراتها، نقف في مُفترَق طُرق بين قدرة الفطرة الإنسانية على تحقيق التعايُش الديني والطائفي والعرقي، وبين الأثر العكسي لتدخُّل المؤسَّسة ورجال الدين في خلق وتعزيز العداء والاضطراب بين البشر. من علامات هذا الرهان الروائي رمزيةُ دفن موتى الطوفان في مقبرة واحدة. لكن بدخول المؤسَّسة مُمَثَّلة في الشيخ والكاهن، رُفِضت الصلاةُ على الجُثث بدعوى أنها مجهولة الهوية الدينية. في هذا المُفترَق، يقول السارد مُعلِّقًا على رمزية الموقف اللاهوتي: "إن الموتى يخسرون صفاتهم الدنيوية"(ص7).



في جانب آخر، يشكل الحب أقوى علامة على هذا المُفترَق المُفارِق، إذ تَرصد الروايةُ سراديبَ الحب الخَفِيّة والمَوانع الطائفية والعرقية التي سَبّبت هشاشةَ الكائن وانفصاماته الوئيدة، تارةً يَظهر شُخوصٌ يَرفعون التحدي أمام المؤسسة الكهنوتية، أو القبَلية، وتارة ينهار الحلمُ أمام جبروت المؤسَّسة. من شواهد ذلك، زواجُ المصور الهولندي الجوال، تيودور، من هيلين المُسلمة، تم انهيارُه أمام مؤسسة الأسرة، وزواج زكرياء البيازيدي السُّني من شاها الكردية، أخت صديقه عارف آغا، برغم نُفور عائلتها. بالحديث عن شخصية زكرياء، نُلاحظ أن العلاقةَ بينه وبين حنّا تكاد تكون تطابُقية بشكلٍ يُثير الاستغراب، غير أن هذا التطابُق هو ما يُبرِّر كثيرًا من تطوُّرات أحداث الرواية، لأن زكرياء يبدو امتدادًا في سيكولوجية حنا للقيام بنوع من الإنابة في شؤون الحياة والاختيار.




إن الرواية تُفكِّك سرديات العنف اللاهوتي، وتَفضح إلحاحَ المُخَيِّلة الجماعية في تأليف الأساطير والخَوارق، والارتقاء بالوقائع من التجربة الدنيوية إلى هالةِ الغرابة والترميز التقديسي. لذلك قال رمزُ الحكمة والترَوِّي، الأبُ إبراهيم، لصديقه حنّا، لمّا كان يقطع درب آلامه في دير حوران: "ليس مهمًا حدوث المعجزة، بل الأهم هو تصديق الناس لها، لن يستطيع أحد إيقافها، دومًا نحتاج إلى المعجزات للتخفيف من بؤسنا البشري"(ص191).
لذلك، نؤكد أن الرواية تُراهن على تفكيك معنى القداسة في الأفراد، وفي وقائع التاريخ. إن حنّا نموذجُ فردٍ أراد أن يعيش تجربتَه الروحية ضِمن حياته الخاصة، بينما ظلّت مُرافِقَتُه ماريانا تؤلفُ الحكايات والقصص الإعجازية حوله، حتى ارتفعت سرديتُها عنه إلى مصاف القداسة في نفوس العامّة والخاصة من رجال الدين، وظل موتُه مُنتظَرًا لتطويبِه قديسًا، لأن "موته سيمنح حياة جديدة لمن حوله"(ص193)، ومن هذه الحياة يُستحدث معنى التقديس والتجييش النفسي الطائفي عبر الأجيال، مما يؤدي إلى الحروب والإفناء. من شواهد الاقتتال الطائفي والاثني التنكيلُ الذي طال كلَّ أفراد عائلة حنا كريكورس في ما عُرِفَ بمذبحة ماردين عام 1876م، نتيجة قتل العائلة ضابطًا عثمانيًا حاول خطف عمّة حنا في واضحةِ النهار، والخادمة مارغو التي هَرّبَته بدورها نَجَتْ من مجزرة بأعجوبة قادها الإنكشاريون عام 1834م ضد السريان المسيحيين، وعاشت يتيمةً مع إحدى العائلات في ماردين إلى أن تَلقَّفها غابرييل كريكورس خادمة في بيته. إنها وصديقِها حنا وَجهان لمأساةٍ طائفية واحدة.
ومن شواهد المَحبّة والتآخي الإنساني والاجتماعي المُتحرّر من مُرَكّبات الانتماء وشائجُ الصداقة المَكينة التي جمعت حنا المسيحي السرياني، زكرياء البيازيدي السني، وأخته سعاد، عازار حاييم إستنبولي اليهودي، وعارف شيخ موسى آغا الكردي، إضافة إلى شبكة كثيفة جدًا، وروابط هائلة من العلاقات تَفرّعتْ عن هذه الصداقة التي استمرّت منذ مَراتِع الطفولة والصبا حتى خريف العمر، وشهِدت تضحياتٍ جِسامًا، ومواقف فروسية عَزّ نظيرُها. كما نلاحظ أن استمرار حنّا على قيد الحياة بعد المجزرة والمُلاحَقة كان أيضًا بفضل عائلة المُلاَّ عفيف الحسيني المسلمة الشيعية، حيث ساعدت في إخفائه وتهريبه إلى مُستقرِّه بين عائلة البيازيدي المُسلمة السنية. أما داخل الدير، فإن حنا، وهو يَتَّخذ من العزلة والتأمل عبادتَه، قد حَطّم سلطة المؤسسة مُمثَّلَة في الأخت المُبَجَّلة ماريانا، مما جعل الدير مَلجأ وملاذًا للفَتَيات الأرمينيات والسريان، والمُسلمين، والمُلحدين، يُمثِّلُهم المُصوّر الهولندي الشيوعي الذي اتفق مع الأب إبراهيم على تعليم الأطفال الفرنسية والغناء، وتأليف فرقة كورال في المدرسة القروية التي كانت ترعاها الكنيسة السريانية.

حاصل القول
إنها كتابةٌ حاطتْها ورافَقَتها قوةُ إفناءٍ هائلة، جالت حول ذاتِ الكاتب وراوَدَتْه عن حياته داخل سورية المُحطَّمة، كتابةٌ عن الموت والإفناء في مناخ الموت والإفناء، إذ لا يمكن للخيال وحده الحديث بهذا الاستغوار عن التلاشي والتحلُّل من العالم، ما لم تكن تجربةُ الموت الخميرةَ التراجيدية التي منها قُدَّ النص الروائي. نقرأ في أحد المشاهد قول السارد عن حنا: "أوحى له مشهد الأرض بعد الطوفان أنه ليس الناجون من الموت بالضرورة أناسًا ما زالوا على قيد الحياة"(ص186). فكما تَحلَّلَ حنا من القوة المادية، وتَخلَّى عن إغراء حياة المُتعة والصخب، فإن خالد خليفة قد أصابه مرضُ الطوفان الذي أفنى الأهلَ والأرضَ، حيث آثَرَ البقاءَ في سورية وسط الدمار، يتأمل من بيته المُتداعي مشهدَ البلاد بعد طوفان الحرب والتطرُّف، ويُقِيم بهذا العمل الملحمي صلاةً أدبيةً باذِخة في حضرة الغياب على أولئك الذين لم يصل عليهم أحد. إن حنّا هو الحاملُ الأدبي للكاتب بصيغة أخرى، لكن بالمعنى التراجيدي نفسه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.