}
عروض

ذاكرة يناير الحيّة على جدران العزل الانفراديّ

مليحة مسلماني

12 يوليه 2022

"أبناء الحلم.. آباء المستحيل.. خالقو الغد على مرادهم للغد.. أمامهم ـ تورُّطًا ـ تصرّف وحيد.. غير آمنٍ، مريح، ولا مربح، هو غالبًا قاتل ومُهلك، لكن وحده يليق، لأن الحكاية التي لديهم مستحِقّة؛ حكايتهم/ ذاكرتهم، هي شرفهم حرفيًا.. سيعيدون السرد كل ليلة، على أنفسهم وعلى الكل، حتى تنتصر الحقيقة بهم، وإن لم ينتصروا!"
[أحمد دومة]



يطلّ كتاب أحمد دومة "يشبه الهتاف يشبه الأنين.. سرديّة سبقت صاحبها للحرية"، والصادر مؤخرًا عن دار ابن رشد في إسطنبول، شهادة/ رواية حية تأخذ القارئ إلى نافذة ذات وجهتين؛ فهي من ناحية تروي الواقع المأساوي الذي يعيشه الأسرى في السجون المصرية بعامّة، وثوار 25 يناير منهم بخاصة. ومن ناحية أخرى، تنفتح تلك النافذة على العالم الذاتي الجوّاني للأسير، والصراعات التي تخلقها تجربة فقد الحرية والعزل الانفرادي، كصراع البقاء، والصراع على الرواية ــ الذاكرة، وكذلك الصراع الشخصي الداخلي؛ إذ يتطلب من الأسير بذل جهود الولوج في طريق معرفيّ عميق يحفظه من الانهيار المتمثل بالجنون، أو الانتحار، أو الانحناء على عتبة المساومات، والسقوط بالتالي في وحل الخيانة.
الكتاب الذي جاء على شكل نصوص خرجت من زنزانة الكاتب ـ تهريبًا عبر أسرته ومحاميه ومعتقلين سابقين قابلوه في السجن ـ يحكي قصة الثورة التي لا تزال تستمر محاكمتها عبر محاكمة نشطائها، بتصفيتهم، أو عزلهم في السجون. دومة الذي أمضى نحو 12 عامًا في سجون كل الأنظمة التي عاصرها ـ قضى منها حوالي سبع سنوات في العزل الانفرادي ـ يشقّ نافذة من زنزانته على الدنيا، على الحرية، كما يقول، فأن يُرى، وأن تُقرَأ سطوره، يعني أنه حيّ وقادرٌ رغم كل شيء، وبذلك يكون قد هزم السجّان الذي أراد أن يحولّ السجن قبرًا لمن بقي حيًّا من ثوار يناير.


التاريخُ الوصية
كما سعى الاستعمار في فلسطين، والأنظمة العربية الديكتاتورية بعد اندلاع ثورات الربيع، إلى اختلاق "رواية رسمية" تزيّف التاريخ، وتشوّه الثورات والثائرين، بهدف شرعنة عمليات قمعهم بالاغتيال والاعتقال، كذلك سعى النظام المصري إلى تنفيذ سياسة الاغتيال النفسي ـ المعنوي بحق ثوار يناير، عبر تشويه صورتهم في الوعي الجمعي، تمهيدًا للقضاء عليهم. وبذلك تصبح الذاكرة هي محور الصراع في التجربة المصرية اليوم، تمامًا كما هي الحال في التجربة الفلسطينية. يقول دومة "يريدون ذاكرتك كلها.. ليتخلّصوا منها بمعرفتهم، أو ليستخدموها بمعرفتهم أيضًا".




ويؤكد الكاتب أنه وعلى الرغم من أن كتابة التاريخ بيد المنتصر، أو "الكسبان"، يلقّنه لأتباعه وللأجيال في المؤسسات الإعلامية والتعليمية، إلا أنه سيبقى عصيًا على هذا الكسبان/ النظام محو ذاكرة ثورة 25 يناير من صدور ثوارها، الذين سيعيدون السرد، ويقاومون النسيان بالصوت والكتابة؛ يقول الكاتب "لكن تاريخًا آخر لن ينبت في الظل هذه المرة.. سيبقى قادرًا على الصمود.. قادرًا على المقاومة.. وقادرًا على الخلود أبدًا". وهو تاريخ "سيُحكى فَمًا لأذن.. وسيُتناقل كوصية شهيد".
هذا التاريخ هو "هامش الصدق" في زمن الزيف وتشويه الحقائق وتلفيق التّهم والأكاذيب، والذاكرة هي القيمة العليا الباقية، فهي محور الصراع ومفتاح الحرية، وهي انتصار للحقيقة التي أُنفِقت المليارات، وخُلّقت الأكاذيب، وخُرِّقت الصدور، بهدف القضاء عليها.


دومة الروايةُ لا الراوي
ويصرّ دومة على أنه ليس مجرد راوٍ لذاكرة الثورة وواقع التجربة في العزل الانفرادي والسجن، بل هو الرواية ذاتها؛ فالراوي يملك مساحات للالتفاف والمراوغة، ما يعني سكوته الضمني، ورضوحه للحسابات، ووقوعه أسير فِخاخ من بينها اعتبارات السلامة، ورغبات الجمهور، والحياد والموضوعية. يقول دومة "سيحيلك حياد الراوي مسخًا دميمًا.. ستصبح مسرحيًا بامتياز". ولكن أن يكون الكاتب ذاته هو الرواية، فيعني ذلك انحيازه لجوهره، لهويته، لما هو عليه بالحقيقة، ويعني أن يختزل اسمُه وصورته الحكايةَ كاملة.


صوفيّة الثائر

غرافيتي "25 يناير" على جدار منزل في حي منيل الروضة في العاصمة المصرية القاهرة (14/ 1/ 2018/ فرانس برس)


يبتعد دومة عن التكلّف والصياغات الأدبية المعقدة، إذ يروي تجربته ببساطة أسلوبية، وإن اقتربت كثير من نصوصه إلى الشعر، ولكنه شعر ينساب كالماء، إذ يستمد جمالياته من صدق وأصالة التجربة ـ المأساة الإنسانية. كما يدرج في متن نصوصه اقتباسات من أدباء وشعراء وعارفين صوفيين، يعزز بها المعاني والمعارف التي أراد توكيدها.



الجنوح نحو التصوّف يتجلّى بشكل متكرر خلال النصوص، وذلك عبر التأمل في الأسئلة الكبرى حول الوجود وغايته، والحرية، والدنيا، والحياة، والموت، ومحاولات رفع الستار عن الأشياء ليكتشف حقيقة جوهرها؛ فتجربة كالسجن، والبقاء لسنوات حبيس زنزانة انفرادية، يعني عزلة قسرية، إما أن تؤدي إلى جنون، أو انتحار، أو سقوط أخلاقي وإنساني، وإما أن تؤدي إلى معرفة أعمق بالنفس والوجود، وهو الطريق الذي يختاره دومة، فالمعرفة بذاتها قوة تقي من انهيار محتمل، وتعين على فهم الواقع، وبالتالي اكتساب القدرة على تحمله ومواجهته.
ينوي الصيام أربعين يومًا، مقلّدًا خلوات الصوفيين والروحانيين الاختيارية، لعله يجد في الصيام سلامًا داخليًا يقتل القلق ونوبات الهلع ويعينه على القادم؛ بقي بوذا أربعين يومًا عاريًا جائعًا وحيدًا تحت شجرة ليحتمل تنزّل الحكمة عليه، يقول دومة، ويكمل "لا أثقل من الحكمة على استحالتها، إلا السجن على واقعيته! يحتاج أربعين سنة للتجهز وأكثر.. بلا جدوى".
يجد دومة استناده ـ الصوفي التوجه ـ في التخلّي عن التحايل وخداع النفس، تلك أولى درجات معرفة النفس، وهو ما سار من أجله السائرون، وسلك إليه السالكون الطرقَ على تعدّدها، فمن عرف نفسه عرف ربه. بل هو يوظف هذه المعرفة والتوقف عن التحايل بالاعتراف بالهزيمة وتقبّلها بغية تصحيح المسار، وتحقيق الأهداف التي انطلقت من أجلها الثورة.
يقول الكاتب: "لا مكان للخديعة.. هذا التزامنا تجاه الرفاق.. لن نحتفل بإسقاط نظامٍ تظاهر بالسقوط؛ ليُحْسِن الافتراس.. ونحن ابتلعنا الطُّعم بسذاجة.. سيظل يُجرِم ما دام موجودًا، وسنظلّ نقاوم ما دمنا أحياء. هو لم يسقط بعد.. ونحن لن نستسلم أبدًا.. هذا التزامنا الأخير".
والجنوح نحو التصوّف لدى دومة، تجربة معرفية لا تركن إلى العزلة والتواكل، وهو ليس مجرد ملاذ من أجل الراحة والسكون؛ بل هو صوفية الثائر، إذ يستند في ثورته إلى إيمان عميق بربه وبقدرته على المقاومة، وثورة الصوفيّ إذ يستمد من معرفته القدرة على المواجهة.


السجن الميّت المُميت
واحدة من نقاط قوة كتاب دومة، عدا عن كونه مثالًا حيًا على ذاكرة الثورة المصرية، تكمن في تصويره لواقع السجون المصرية، والظروف اللاإنسانية التي يعيشها السجناء المصريون؛ ففي السجن، لا ألوان إلا ألوان الإسمنت، وصدأ الحديد، وبقع الوسح المتراكم لعقود، وبياض البدلة الميري الذي لا يحيل إلى صفو أو طمأنينة، بل هو محايد وباهت، وهو لبياض الكفن أقرب؛ وفي السجن "كل شيء ممنوع، كل شيء مميت وميت".
والقارئ سطور دومة يخرج بصورة مأساوية عن واقع الأسرى في السجون المصرية: طابور السجناء المهين والجارح في أهون الصياغات، حيث الأسرى "عراة من كل حماية ومنكسرين"، الطعام والدواء الذي يحمله الأهل واقفين في طابور لساعات، وربما لا يصل إلى أبنائهم في السجون، منع الزيارات لشهور، وحرمان الأهل حقهم في معرفة مصير أبنائهم، قلق الأسرى على ذويهم وعدم معرفتهم أخبارهم، خوفهم من فقد أحد أحبائهم من دون رؤيته أو وداعه؛ فوسائل الاتصال كلها ممنوعة، ومحاولة التواصل عقوبتها رادعة وقاسية ولا إنسانية. ناهيك عن التعذيب بأشكاله المختلفة، الجسدية والنفسية، وكان دومة في سجنه قد أصيب بأزمة قلبية، بعد عراك امتد ليلة كاملة، بسبب تعرض المدون محمد إبراهيم للتعذيب وإصابته إصابات بالغة.




ولعل من أخطر ما ذكره دومه، والذي يبين بشاعة الجرائم التي تُرتكب بحق الأسرى المصريين، وثوار يناير منهم بخاصة، الأدوية المضرة التي توصَف لهم لتدفعهم إلى الجنون، أو الانتحار؛ يروي الكاتب أن من بين السجناء تاجر مخدرات سأله عن دواء يتناوله "مين ابن الوسخة اللي صارفلك الدوا ده؟"، ليجيب دومة "استشاري النفسية"، فيخبره بدوره أنه دواء مؤذٍ، وأن الطبيب يقصد إلحاق الضرر به بوصفه له، رغم أن دومة كان قد أخبر الطبيب عن أثر الدواء، والذي يجعله يفكر بالموت كثيرًا، وتسيطر عليه أفكار انتحارية طوال الوقت، ليقوم الطبيب بدوره بمضاعفة الجرعة!
يتواصل دومة مع طبيب في الخارج يثق به، فيخبره هو أيضًا أن الدواء مؤذٍ، وأن عليه التوقف عن تعاطيه فورًا. كما تم منع دومة في أثناء وجوده في العزل الانفرادي من الدواء لعدة شهور، وحين احتج لضابط الأمن الوطني قائلًا إنه دواء جلطات قلبية ونوبات هلع، وأن منعه جريمة شروع في قتل، يجيب الضابط: "طب ما هي تبقى جت من عند ربنا، بدل ما يقولوا قتلناك ونبتلي بيك".


العَنْبَرة ـ صوت المسجون

غرافيتي على جدار كنيسة الأرمن الكاثوليك في القاهرة إحياء لذكرى الثورة والشهداء (31/ 12/ 2013/Getty)


على الرغم من الواقع المأساوي والمميت في السجن، يصرّ الأسرى على بث الحياة فيه؛ كابتهاجهم بشهر رمضان واستقبالهم له بتعليق الزينة التي أغضبت السجان. ومن أبرز طقوس الأسرى التي تدلل على مواصلتهم النضال من أجل البقاء وقدرتهم على المقاومة والصمود، فنّ غنائيّ اسمه "العَنْبرة"، له مُفتَتح ثابت وهو "عنباااار كله يسمع! حتى الحديد يسمع".
يروى دومة أن العنبرات تتشابه كثيرًا، وما يميز كل منها أسلوب "المُعَنْبِر"، فمنهم من يغني لأمه، أو محبوبته، أو أطفاله، ومنهم من يعاتب صديقًا خائنًا، ومنهم من يغني "للثورة المغدورة والوطن المسكين". ويحظى المعنبرون باحترام وإكبار بقية الأسرى، فهم يقولون ما لا يقدر على قوله الآخرون. يقول دومة: "العنبرة صوتي كمسجون، ولو كان مزعجًا، بذيئًا. ولو كان جارحًا. العنبرة شعاع نور.. يحرر السجن ذاته ولو للحظة من ظلمة دوره القاسي..".
لا يستمتع السجان بالعنبرة، ولا يتجاوز عنها، بل يعتبرها إهانة وبرهان فشل، وهي بالنسبة للمسجون ليست مجرد تمضية وقت، أو تحايلًا على الضجر، بل هي "فعل مقاومة"، كما يقول دومة، والعنبرة تعيد صياغة واقع السجن "فبعدها يُسَرّ السجين ويعبس السجان، كأنما تبادلا المواقع".


المجتمع أمام المرآة
وإذ يواجه دومة مرآته الخاصة، يضع المجتمع في المقابل أمام مرآة تكشف قبح عيوبه التي يفندها نقدًا ومساءلة، ومن ذلك نظرة المجتمع للاختلاف، وللآخر الذي يحمل معتقدًا، أو وجهة نظر مختلفة، ونظرته للمرأة، وسعيه المستمر لقمعها وتعنيفها، وسهولة الانقياد وراء سلطة تمتلك النفوذ والمال والقوة العسكرية، أو أخرى تحتكر الدين وتوظفه لتسيطر به على العقول. وهو إذ يقاوم الأولى بوضوح لا مواربة فيه، وبإصرار لا تراجع عنه، ينتقد الثانية بشكل لاذع ويواجهها أيضًا بحقائق تَوَهّمها امتلاك الحق المطلق، وتخوينها وتكفيرها للثوار، وتَحرّكها بدافع الكراهية والانتقام الأعمى، غير مُنكرٍ ما وصفه "بالمظلمة الجماعية البشعة" التي تعرض لها أتباعها.
أخيرًا، يحرّر دومة كتابه خارج أسوار السجن ليكون بمثابة "عَنْبَرته" الخاصة، والتي تُضَمُّ كورقة هامة إلى صفحات كتاب ذاكرة ثورة 25 يناير المفتوح على مزيد من السرد، وكشهادة حية على التجارب المأساوية في السجون العربية، ونافذة تطلّ على العالم الداخلي للأسير العربي، آماله وأحلامه وتوقه المستمر للحرية ونضاله من أجلها، ومن أجل البقاء والصمود حتى يحين التحرر. كما ظلت فلسطين ـ قضيةً وحلمًا ثوريًا ـ حاضرة في نصوص هذه السردية التي سبقت صاحبها إلى الحرية، يحيّي مقاومتها ويستذكر مدنها وشهداءها وصوتها ـ ابنتها الراحلة ريم البنّا، ويبشّر ببزوغ فجر حريتها، تمامًا كما سيتفتّح الوردُ من جديد في جناين مصر.

أحمد دومة: شاعر وكاتب وناشط سياسي، وأحد رموز ثورة 25 يناير، متحدث سابق باسم ائتلاف شباب الثورة، ومؤسس في أغلب الحركات الاحتجاجية السابقة على الثورة. معتقل منذ عام 2013 بأحكام تصل إلى عشرين عامًا، وما زال معتقلًا حتى الآن. قضى نحو 12 عامًا في سجون كل الأنظمة التي عاصرها. صدر له "صوتك طالع" (شعر، القاهرة، 2012)، و"كيرلي" (شعر، القاهرة، 2021)، والأخير صادرته قوات الأمن من معرض القاهرة للكتاب، ومنعت بيعه وتوزيعه بعد ساعتين من إصداره.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.