}
عروض

عن قصص محمد علي طه.. أديب يترجم واقعه كتابةً

فيصل درّاج

19 يوليه 2022




بعض الوقائع البسيطة تبعث في القلب المسرّة، كأن نلتقي بعجوز يغنّي، أو تقع علينا قبضة من المطر في أواخر نيسان. ومن هذه الوقائع قراءة الأعمال القصصيّة الكاملة لمحمّد علي طه (دار راية للنشر ـ حيفا، 2019).

يشكّل ظهور هذه الأعمال حدثًا أدبيًّا فلسطينيًّا ثنائيّ البعد: يسمح بعده الأوّل للقارئ بقراءة أعمال طه كاملة، بعد أن كان يقرأها فرادى، وتصل متفرّقة، هذا إذا وصلت؛ وقد لا تصل إذ كان الكاتب لا يبارح "الجليل" إلّا صدفة، وكان القارئ "لاجئًا" ينقلّه عبث الوجود من مكان إلى آخر. فإن التقى بأديبه غير مرّة، كان ذلك كرمًا من سديم اللجوء. ويتيح البعد الثاني استذكار أدباء فلسطينيّين رحلوا، كتبوا قصّة قصيرة مجيدة ذات يوم، وبرهنوا أنّ اللجوء لا يخنق النباهة ولا يعطّل ذاكرة الفلسطينيّين.

كان عندنا، نحن الفلسطينيّين، قبل عقود، قصصيّ مشرقٌ رائدٌ يدعى خليل بيدس، درّس تلاميذه، قبل النكبة، مبادئ الوطنيّة. وسميرة عزّام التي اشتقّت كرامة كتابتها من حكايات لاجئين موفوري الكرامة. وكان عندنا غسّان كنفاني، الذي لم تمنعه حياته القصيرة من كتابة قصص طويلة الصفحات. وأفراد آخرون قدّموا، رغم توزّعهم على أجناس أدبيّة متعدّدة، صفحات للقصّة القصيرة، حال الساخر إميل حبيبي والمقدسيّ الأخضر القلب جبرا إبراهيم جبرا والأديب المجتهد يحيى يخلف. يستطيع الفلسطينيّ أن يقرأ إبداع هؤلاء، وعلى ضوء كتابة طه ويخرج راضيًا، أو أن يقرأ صاحبنا "الجليليّ" على ضوء قصص غيره ويرسل إليه تحيّة إكبار ومحبّة.

بين المجموعة الأولى لأديبنا الجليليّ "لكي تشرق الشمس" عام 1964، ومجموعته الأخيرة "مدرّس الواقعيّة السحريّة" نصف قرن وعام. ذِكْر عدد السنوات لا يحتاج إلى نباهة، وما يحتاج إلى نظر سليم ماثل في مدى الجهد الكتابيّ المديد الذي بذله طه في إحدى عشرة مجموعة قصصيّة، يحاورها القارئ وتحاوره، يتعرّف فيها على البدايات المتجدّدة والنهايات المفتوحة وتلك الاستمرارية الكتابيّة التي لا ترضى بخلل ولا يعتورها نقص، جعلت من كتابة طه مرآة لحياته وشدّت حياته إلى نصّ متميّز لا يعرف الركود ولا التعب.



ربّما يكون في عنوان مجموعة صاحبنا الأولى ما يشير إلى منظر "للعالم" اتّكأ على فعل "أشرق" وسخر من سواد الأيّام. وربّما يكون في عنوان مجموعته الأخيرة ما يترجم مسارًا كتابيًّا مضيء الجهات. ذلك أنّ كتابة طه لا تحتاج إلى صفات تقريظ وكلمات مصبوغة، فصفاتها من الصدق الذي يصوغها، وجمالها أو جماليّاتها من أديب يعيش واقعه ويترجمه كتابة، أو يعيش كتابته، ويدعها تحدّث عن نفسها. لكأنّ بينه وبين كتابته معاهدة لا تنقضي، وكأنّ كتابته نصرة للحقّ واحتفاء بالحقيقة، وترى الطرفين في الفضاء الفلسطينيّ لو كنّا في زمن آخر لهتَفْتُ سريعًا: إنّ محمّد علي أديب واقعيّ، وسارعتُ وقلتُ: إنّه واقعي في الكتابة لأنّه واقعيّ في الحياة، ولأنّ زمن تصنيم الكلمات توارى، سأعطي قولي حرًّا: يتعرّف إبداع محمّد علي طه بشخصه، ينتسب إلى صدقه الموهوب لا إلى مذهب أدبيّ مجدّد، ويُقرأ في خبرته الأدبيّة المتوالدة لا في قواميس مبتورة أو سليمة. تغيّرت الأزمنة ولم يسقط مفهوم الحقيقة، على الرغم من ثرثرات أنصار "ما بعد الحداثة"، وعَيْنُ محمّد علي طه داخل الكتاب وخارجه تمسك بالحقيقة، وتسرد المأساة الفلسطينيّة، بعيدًا عن عقول تائهة تعطي "الشأن الفلسطينيّ" ما شاءت من الصفات، وتتخفّف من الكرامة.

ومع أنّ طه كتب الخاطرة والمقالة السياسيّة وسيرة ذاتيّة نضرة التفاصيل، فإنّ في كتابته ما يقول: الكتابة التي تقطع مع "التقميش" تصنع أجناس الكتابة بين قوسين وتكتفي بكلمة من خمسة حروف: الابتكار، حيث ما قيل يقال بشكل مختلف، وما تمّ سرده له طرق في السرد جديدة. ولعلّ نضارة الابتكار هي ما جعلت "الجليلي"، الذي جاوز السبعين، شابًّا ومزهرًا في حياته كلّها، فلا الوهن أصاب قصصه في مجموعة "جسر على النهر الحزين"، ولا تجرّأ النسيان على "عائد المعياري يبيع المناقيش في تلّ الزعتر". فالكتابة تقاوم الموت والحزن معًا، وروح "الكتابة الفلسطينيّة" يتجاوز الأقاليم المختلفة والأزمنة المتحوّلة، ويرجع إلى عصافير الجليل.

وزّع طه قصصه على عوالم الإنسان الفلسطينيّ المتصادمة، إذ وراء الفلّاح الصابر "مختار" يُتقن الدسيسة، وأمام الصبيّ المتحدّي متكسّب يحقد على الصبيّ ويتوعّده الصبيّ، وإلى جانب أنثى من كبرياء وأمومة رجل دين زائف يجهل اسم توفيق زيّاد ويلهج بذكر "أبي هريرة". رسم طه الشخصيّات جميعًا من وجهة نظر ما هو جدير بالحياة وبكفاح فلسطين، كما لو كان الانتساب الصادق إلى فلسطين يقوم على الأخلاق والقيم والدفاع عن الجمال، بعيدًا عن أيّ "معيار خرافيّ" راسخ المعنى، ذلك أنّ فلسطينيّة الإنسان تصدر عن ممارسته الصائبة، عن مقته للقبيح والجاهل والمتصاغر، ورفضه للرؤوس المتماثلة التي تميل إلى الانحناء.

ومع أنّ القصّة القصيرة، تعريفًا، مقطع من الحياة اليوميّة تنسجه اللغة، فإنّ ما كتبه طه اختاره حرًّا دون أن يسأل عونًا من كتاب أو نصيحة من ناقد. اقترح تصوّره الفنيّ شكلًا "يتكامل"، تجاوب مع إيقاع الحياة، تغيّر وتبدّل وتحوّل واغتنى وتأبّى على شكل أخير، ففي مجموعات صاحبنا: القصّة ـ المقالة، والقصّة المتعدّدة الأصوات والقصّة أحاديّة الصوت، وفيها القصّة "القصيرة جدًّا" وقصّة "الرواية المختزلة"، وقصص قصيرة تحتفي باللغة وتحتفي بها اللغة وتكون نثرًا صافيًا، والقصّة المحمولة على مفارقة ضاحكة تذكّر بإبداع أو. هنري... وهذه القصص في الحالات جميعًا تنطق بسياسة صريحة وتخترقها السخرية من الألف إلى الياء، وإن يكن في بعض السخرية ما يدمي القلب ويصادر الضحك.
لا وجود لهويّة إلّا في مواجهة هويّة أخرى تهدّدها وتفرض عليها المنازلة والصراع. في قصص طه هويّتان: هويّة أدبيّة فلسطينيّة الشكل والمضمون - إن كان الكلام واضحًا - تمتح ديمقراطيّتَها من سخريتِها، واتّساقَها من التزامِها الوطنيّ، وتواجه قصّة "إسرائيليّة" تصطنع هويّة تداخلها أيديولوجيا عنصريّة ـ مستبدّة حتّى لو نسيت ذلك أو تناسته... وتصدر الهويّة الثانية، وهي تخصّ نصّ طه الأدبيّ، عن اللغة التي يكتب بها، عن نثره الأدبيّ المميّز له، على اعتبار أنّ اللغة وعي عمليّ يترجم، عفويًّا، الفلّاح الفلسطينيّ الذي يسكن الكاتب وتجربة الاقتلاع من البيت القديم وذكرياته وشجونه وأحلامه وتجربة صمود تتدافع فيها الكرامة والأسى.

إنْ كانت هويّة محمّد علي طه الوطنيّة صدرت عن خيار حرّ "سقته" الأيّام ووقف صامدًا، فإنّ هويّة قصصه القصيرة أنتجتها لغة الكتابة المتحرّرة من مشيئة الأديب وإرادته. ذلك لأنّ الصدق في الكتابة تمليه عمليّة الكتابة العفويّة، كما لو كانت تشهد على صدق صاحبها، أو تقرّر أنّه يصطنع الصدق وما هو بصادق.

ذلك الفلّاح الذي يقبع في صدر محمّد علي طه ينطق بوجه في تاريخ فلسطين؛ وذلك المعلّم الذي صاحب طه طويلًا يصرّح بشيء من تاريخ فلسطين؛ وتلك الكتابة "الشجاعة"، التي سخرت من عرب ما هم بعرب، جزء من تاريخ فلسطين؛ وذلك النثر المتألّق في قصص قديمة وجديدة مَعْلمٌ من معالم فلسطين؛ وتلك الروح الملحميّة، التي حفظت ما كان وتغيّر في قصص "طويلة" أو قصص قصيرة جدًّا، مرآة لزمن صعب سار كما أراد وحفظه طه سليمًا كما حلم أن يكون.

نستذكر ونحن نقرأ طه في أعماله القصصيّة الكاملة أحزان النكبة الأولى وتستيقظ فيها أطياف اللجوء، ويغمرنا العثار سائرين من حصار إلى آخر، ويصدمنا الحزن أمام "مجازر المخيّمات"، ونشدّ أرواحنا بإبداع فلسطينيّ متناتج من بعد النكبة إلى اليوم؛ مجلاه أديب فلسطينيّ ولد في قرية ميعار في الجليل عام 1941، يدعى: محمّد علي طه.



الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.