}
عروض

"حادي التيوس".. سخرية حادّة من الصراعات الدينية والعرقية

هنالك روايات عربية عدّة اهتمّت كثيرًا بأبطالها التاريخيين. وفي سنة 2011، نشر الكاتب الجزائري أمين الزاوي رواية "حادي التيوس أو فتنة النفوس لعذارى النصارى والمجوس"، افتتحها بصفحات بدا جيّدًا أنه حسبها جيّدًا في ذهنه: بَنَت ساكنة مدينة "الغزاوات" من أموالها الخاصة مسجدًا صغيرًا اختلفوا بعد الانتهاء من تشييده حول تسميته، فالعرب أرادوا تسميته "موسى بن نُصَيْر"، فيما رأى أبناء المدينة من البربر الأمازيغ أن من الأنسب تسميته "طارق بن زياد". وكل فريق يقدّم المبررات والدوافع التي تجعله يقترح تسميته:
..."فإذا كانت طائفة العرب ترى بأن اسم موسى بن نصير هو الأنسب، لأن هذا الأخير هو من أوصل راية الإسلام إلى بلاد شمال أفريقيا التي كانت غارقة في الظلمات والضَّلال، على حسب تعبيرهم، ففي المقابل يرى أهل المدينة من البربر الأمازيغ بأن هذا الرجل العسكري كان مريضًا بالغيرة من بطولة وشجاعة فرسان البربر، وبالتالي أراد أن يسحب من طارق بن زياد شهوة الانتصار على الإسبان ولذّة عسل الغزو...".
لا يظهر الأمر في السرد باعتباره صراعًا طائفيًا كاد يتحوّل إلى حرب حول تسمية المسجد، بل هو أقرب إلى غريزة دينية. لذلك نجد كل طائفة تقدم مبرراتها الإضافية:
"...كان موسى بن نصير هذا بشعًا ونَهِمًا، يلتهم نصف خروف في غدائه، والنصف الباقي في العشاء. على خلاف طارق بن زياد الذي يُقال إنه كان وسيمًا، ولجماله كان يُدعى يوسف نسبة إلى سيّدنا يوسف الذي عُرف بجمال أثار فتنة في بيت فرعون. وهروبًا من العين الحاسدة كان يخفي طرفًا من وجهه المشعشع بعَصابة بيضاء، حتى اعتقد المؤرخون الإسبان الذين كتبوا لاحقًا عنه بأنه كان أعور، وإن الخرقة التي يغطّي بها على نصف وجهه هي لإخفاء عينه المفقوءة، وقد أطلق عليه المؤرخون الأوروبيون جميعًا اسم ’طارق الأعور’".
تحفل رواية أمين الزاوي بمثل هذه المشاهد، ليدفعنا إلى التفكير من جديد في صورة العظماء الذين يصنعون التاريخ.
"ففي الوقت الذي كان فيه طارق بن زياد يبحث عن مجدٍ في الوصول بالإسلام إلى الضِّفة الأخرى من المتوسط، كان الأمير الأموي موسى بن نُصير لا يبغي من ذلك سوى مغامرة الوصول إلى نساء إسبانيا الشقراوات...".




تكشف الرواية أن في ذهن كل قائد فكرة تاريخية، أو شخصية (غريزية). فدافعية طارق بن زياد دينية، ودافعية موسى بن نصير إيروسية. إن الأدب هنا يستبقُ الحقيقة التاريخية. الرواية تقدّم نفسها باعتبارها خطاب حقيقة تُقابل أفعالًا قام بها عظماء معروفون. وقد ظل الأدب مستمرًّا في خلق هذا الجدل. في هذا السياق، يؤكّد جاك رانسيير: "ومن ثمّ فقد حدثت ثورة علم التاريخ أولًا في الأدب، وهي الثورة التي تجعل الأدب يستمرّ".
يُكمِل الزاوي هذا النزاع حول تسمية المسجد بجدل ساخر من الطائفتين انتهى مزدوَجًا:
"وحين اشتدّ الخلاف حول تسمية المسجد، وقبل أن تندلع الحرب، اجتمع العقلاء من البربر والعرب وتدارسوا الأمر بهدوء وحكمة، وتوصّلوا إلى حلٍّ يرضي الطرفين: للعرب من ساكنة المدينة الحق في رفع لافتة على مدخل المسجد نهارًا تحمل اسم موسى بن نُصير، وللبربر وانطلاقًا من صلاة المغرب وحتى انتهاء صلاة الفجر لافتة تحمل اسم طارق بن زياد مكتوبة بأبجدية التيفيناغ. وبمرور الزمن، أصبح المسجد باسمين، فهو مع صلاة الصبح والظهر والعصر مسجد باسم موسى بن نصير، ومع صلاة المغرب والعشاء والفجر مسجد طارق بن زياد، أما صلاة الجنازات، واتقاء لأيّ خلاف، فقد اتفق الجميع على أن تُقام في المقبرة".
لقد ظلت الرواية تخلق تاريخها الخاص من خلال حكايات الشخصيات العظيمة، ذلك أن الأدب عمومًا "ظل باستمرار يتعرّف التراتبية التمثيلية التي تربط مقام النوع الأدبي بعظمة الشخصيات". إن من صارع من العرب، أو البربر، حول فرض تسمية مزدوجة لمسجد واحد هي شخصيات ظلت تقاوم من أجل الاسم مثلما قاومت الشخصيات العظيمة من أجل النصر. التاريخ يثور على نفسه في الأدب.
يبدو واضحًا إلغاء التراتبية بين الشخصيات التاريخية وشخصيات التخييل الروائي، وهذا الإلغاء ليس وحده ما يقف وراء "التعارض بين الآداب الجديدة وتخيُّلات العظمة القديمة، فالأمر يذهب أبعد من ذلك، إنه قلبٌ لفكرة الشخصية والحدث، يقول ج. رانسيير. بل إن إلغاء التراتبية هو مسعى التخييل الروائي بين الشخصيات التاريخية ذاتها؛ ليصبح موسى بن نصير في الدرجة نفسها مع طارق بن زياد.
إن ازدواجية الاسم تولد، في السرد، ازدواجيات أخرى لعلّ أهمها تحوّل الهوية التاريخية لكل من طارق بن زياد، وموسى بن نصير، إلى هوية دينية. فالمسجد يسمى باسم موسى بن نصير أثناء صلاة الصبح والظهر والعصر، ومع صلاة المغرب والعشاء والفجر يحمل اسم طارق بن زياد.




لقد تمَّ، من جهة أخرى، إلغاء التراتبية بين النصر والهزيمة. الكل منتصر، العرب والأمازيغ، في حرب إطلاق الاسم على مسجد صغير في المدينة، فأصبح المسجد أيقونة حياديةً، تارة للعرب، وأخرى للأمازيغ، تُطلق أسماؤها على الأماكن من دون أن تدري الشخصيات التاريخية العظيمة ما يجري، من دون أن تقاوم، أو تختار، من دون أن تدرك وظيفتها الجديدة بعد موتها، وظيفتها التي يحدّدها أناس من قرن آخر، لا صلة لهم بها، من دون أن يعني ذلك التقليل من إعجاب الناس بها، ولا من احترامها لقيمتها التاريخية الأصلية. إن الصراع حول إطلاق اسم على المسجد هو مجرد لافعل مقارنة مع فعل تلك الشخصيات الاستثنائية. هنا، مرة أخرى، تُلغى التراتبية بين الفعل واللافعل. وهذا الإلغاء المتعدّد يؤدي مباشرة إلى المزج بين البطل التاريخي وأشخاص من الهامش، يتعاركون من أجل إطلاق الأسماء، من أجل تسمية الفضاءات المنحازة، وجعلها، قسريًّا، فضاءات محايدة، أو على الأصح محايدة بالتناوب؛ فالمسجد في النهار هو لموسى بن نصير، وفي الليل لطارق بن زياد.
يولي الروائي سخريته عناية فائقة، إنها سخرية ترتبط بالتاريخ، الماضي والحاضر. وأمر السخرية هذا، سواء كان واضحًا، أو مجرّد تلميح، لا يكتمل استيعابه إلا من خلال العمل الذي تقوم به الكلمات. ولعلّ أول سؤال يمكن أن نطرحه ونحن أمام الكلمات: ما الذي تحاكيه؟ وليس فقط ما الذي تشير إليه؟ إن الكلمات التي سنضع أمامنا الآن غير قابلة للتحوّل، إنها ثابتة وبقوة، لأنها تحاكي السجّل اللفظي الديني، وكأنها تريد أن تحيل إلى مبدئها الأساسي. ما هو هذا المبدأ؟ إنها ألفاظ كثيرة ومتنافسة على أداء أفضل للمعنى، ومبدؤها هو توجيهنا نحو طهارة وخطيئة الكائن. إنها على هذه الشاكلة، وقد يبدو أمام مظهرها لامبالٍ: نية المؤمن قلبه. غريزته. السماويتان. الفتنة. الملاك. إغراء. فتنة الشيطان. مدرسة الرعي. جنة الله على الأرض. الرعاة إخوة الأنبياء. اليوم الموعود. النازل من السماء. إمام المسجد. المصلون. العربية. الزكاة. آيات كتاب المسلمين. القرآن. الصلوات. الرب. سدرة المنتهى. اسم الله. الفاتحة. ما شاء الله. سبحان الله. "القروش"، وهي جريدة تنقل الأخبار الدينية...
بجوار ذلك، تظهر كلمات أخرى غير مناسبة، في الظاهر فقط، للكلمات السابقة. ويبدو أيضًا أن الروائي، مثل الكلمات السابقة، يعاملها بلامبالاة هي الأخرى: الشبقي. جسدي. الشيطان. العشيقة. الملابس الداخلية. العادة السرية. الشبق. السرير. الأصوات الجنسية المجنونة. رائحة الجسد. صوت الشبق. جنون الجنس.
إن هذا الفصل الذي يحمل عنوان "زلال مارتين" يُحدث أثرًا فريدًا سيتطوّر أكثر مع قراءة بقية الرواية، أو على الأصح مع الإنصات الديني/ الشبقي لهذيان شخصية مارتين.
ورغم أنها مجتزأة من جمل وتعبيرات، إلا أنها تبدو وكأنها تمارس تبادلًا فعليًا في ما بينها. لكن الأهمّ أنها تحمل المعنى نفسه بالنسبة إلى الجميع، فلا يعود مجالًا للالتباس. إن لغة الدين والرغبة يحيط بها وعيٌ إجماعيٌّ، لكن هذا الوعي لا يحول دون العودة إلى الكلمات وفحصها من جديد. سنجد أنها تشير إلى شيء غير إجماعي، فما يسمّيه أسعد حبيب دينًا ليس سوى نفاق، انفصامًا، انقسامًا مرضيًا في الوعي. ربما للتركيز على هذه الدلالة تم ربط قِرانٍ بين الدين والرغبة. لقد أثار الروائي زوبعة الكلمات ليدفعنا إلى فهم ما يجري على الواقع. إن الإنسان يسعى إلى استعمال اللغة بهذه الطريقة حتّى يصوّر واقعه هو، كما يراه.
هنا، لا تحلّ كلمة محلّ أخرى. لقد استعمل الروائي الكلمات التي يمكن أن تدل على صراعات التاريخ، وصراعات الثقافات، وصراعات العقول. وهو في الأخير صراع الأشياء المختلفة على حلبة ضيّقة جدًّا، بحيث يمكن للمعركة أن يشاهدها جمهور يصفّق للنصر، ويأسف للهزيمة.
كلّ ما يُحكى في رواية أمين الزاوي هو عن الجزائر، التي عانت من مذابح المتطرفين الإسلاميين. وحين يعرف بلد ما مذابح أو حروبًا من هذا النوع تختفي من أدبه اللغة الإيحائية لصالح اللغة الإجماعية، فتصبح اللغة، من جديد، عوالم من المعتقدات، كل جماعة عقدية تؤمن بشيء، فتخلق، من أجل هذا الشيء، أو الفكرة، لغة عقدية، فتتحوّل إلى جماعة لغوية في النهاية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.