ما الذي يدفعنا لمواصلة الاستمرار في كتابة الشِعر في عالمٍ يتهاوى كلّ يوم، حيث الحروب، أزمات الطاقة، وأزمات الهويات، والمنافي، والهجرات التي لم تتوقف رغم كتابة آلاف المجلدات الشعرية. إحدى الأجوبة لهذا التساؤل قد يجدها القارئ بين نصوص المجموعة الشعرية الأولى "24" للشاعر السوري الفلسطيني عبد الرحمن القلق. المجموعة صادرة عن دار "هن" في القاهرة 2022، في 88 صفحة، وبطبعةٍ أنيقة.
المجموعة عبارة عن مجموعة نصوص شعرية مكتوبة على شكل فلاش باك، تبدأ باللقطة: النص رقم 24، وتنتهي باللقطة: النص رقم صفر، كما يوضّح الشاعر في بدايتها.
يفتتحُ القلق مجموعته بإهدائها إلى والده سمير القلق، حيث يرافق ظلّا الأب والأم قسمًا كبيرًا من النصوص:
"ربّما قاتلَ والدي في الجيش هنا وهناك، وقرأ جميع أعداد مجلة "شؤون فلسطينية" منذ أولى إصداراتها/ لكنّه لم يكن فدائيًا/ لكنّه كان حزينًا/ وكان يحلم كثيرًا فقط".
هذه العودة إلى ذكراه وكأنّها بحثٌ عن الطمأنينة النفسية التي افتقدها الشاعر في هجرته من البلاد "الحزينة" التي كان فيها، بحثٌ عن علاجٍ لأرَقه المستمر وهو يحاول تأسيسَ بيتٍ ومدينةٍ وذاكرة في بلد الهجرة ألمانيا.
يحضرُ ذكر فلسطين التي ينتمي إليها القلق رغم ولادته في دمشق بكثرة في المجموعة، وهي إحدى صور البلاد التي يحنُّ إليها، البلاد الحزينة التي هجرها، سواء كانت فلسطين، أو سورية. تختفي الحدود بين البلدين، الأول الذي كان في حلم الجدة والأب والشاعر، والثاني الذي عاش فيه وذاق مرّه وحلوه.
"ومثلما تربك أماكني موظف الهجرة الألماني، إذ يقرأ على أوراقي "موطن أصلي حيفا، مواليد: دمشق"، ثم لا يجد في حوزتي أية جنسية من الدولتين، فيكتب "بلا وطن"".
يشكل هذا المقطع الشعري المفتاح الأساسي لفهم تكرار ثيمة الهوية الحاضرة بقوة بين سطور المجموعة. ضياع الشاعر وبحثه عن الهوية، هوية المكان والذات، الذات المتعددة الهويات، وحين لا يعثر على هذا الانتماء تجده يحاول صنعه بقوة الكلمة، الكلمة التي يرسم بها شكل البيت والمدينة، الوطن والجنسية.
"يجئ الواحد منا غريبًا إلى هذا العالم، فبظل يحاول أن يجد بيتًا في كل شجرة، أو شارع، أو صاحب، أو نهر".
القلق الذي يدرس الدراسات المسرحية في جامعة هيلدسهايم الألمانية كتب قسمًا من نصوص المجموعة بطريقةٍ يظهر فيها تأثير دراسته على بنية النص، الديكور موجود في خلفية النصوص، والشخصيات لها ملامح واضحة، كما أنّ للأصوات إيقاعات متعددة، تبعًا لحركة النص وموسيقاه.
وكذلك تحضر ثيمةُ الهجرة والمنفى والبيت بقوة أيضًا، حالَ معظم الشعراء والشاعرات السوريين/ يات الذين كتبوا بعد 2011، حيث يحمل النص ثقلَ المكان أينما رحل:
"يملكُ الناس ظلالهم عند مكان ميلادهم الأول/ أما نحن الذين هاجرنا فتبتلعُ الأماكنُ ظلالنا/ وتدوخُ أجسادنا في الأرضِ حتّى نلدَ أنفسنا من جديد".
لكنّ بيوتَ الشاعر عديدة، حيث يصلح كلّ نصٍّ ليكون بيتًا ينتمي إليه ويبحث فيه عن عزائه، حيث كلّ امرأة هي بيت، سواء كانت أمًّا، أو مدينةً، قصيدةً، أو لحظةً هاربةً من بلاد الموت والعنف التي هرب منها.
صوتُ عبد الرحمن القلق الشعري خافتٌ وهادئ، لا يصرخ حين يكتبُ نصه، إنّما يكتبه بخفوتٍ ورقّةٍ يشبهان الحياة القديمة/ البلاد/ ومخيم اليرموك/ صور الأب والأم/ الرفاق القدامى الذين اختفوا في المعتقل/ وذكرياته التي تخفتُ رويدًا رويدًا في ذاكرته، مقابل الحياة الجديدة التي تؤسّسُ نفسها في المنفى، حيثُ يضبط لغته من دون كنايات واستعارات فائضة، إنّها لغةُ الشعر اليومي التي لا تحتاج لمجازات بمقدار ما تحتاج لشعريّةٍ رقيقة في التفاصيل التي تتناولها، وهو ما نجح فيه القلق بشكلٍ جيّد.
النص رقم 20 نصٌّ شعري بالغُ الرقة: جدّتي لأبي قالت لي يومًا: جسدُ ولدي في التراب، أمّا وجههُ فأراهُ في عينيك، ومن حينها أحسُّ بالتراب ينفرُ من عيني/ ومن حينها يصيرُ وجهي طينًا كلّما بكيت.
*كاتبة كردية سورية مقيمة في برلين.