}
عروض

"الحبّ في بيروت"... مضارّ مواقع "اللاّتواصل" على العشق الافتراضيّ

جورج كعدي

5 يوليه 2022

 


تقودنا فصول كتاب عطالله السليم (*) البوحيّة الستّة عشر إلى ما هو أبعد و"أخطر" وأكثر جدّية من السخرية الضاحكة (المثيرة للقهقهة بالنسبة إليّ في لمعة "القمّة الروحية" بين "حبيبين" ملتقيين) التي اتّخذها أسلوبًا لما يمكن اعتباره يوميّات عاشق خائب في بيروت عبر مواقع التواصل الافتراضيّة المدمّرة والتي تتحوّل لا تواصلًا بامتياز. إنّه شقاء الحبّ الذي وصفه بودلير واقعًا لا افتراضًا بقوله: "الحبّ، يا لهذا الشقاء". وهنا في محاولات عطالله "الإلكترونية" يفضي سعيه المحموم والبلا طائل إلى شقاء هذا الحبّ المخادع، الذي لا يُنتج سوى الانتظار والتوهّم والخيبة والمرارة. ورغم الألم، يضحكنا عطالله ويُمتعنا كثيرًا بأسلوبه الكاشف والصريح ذي العبرة والدلالة. ويكفي الإهداء لنَكْتَنِه فحوى الخطاب: "إلى مئات فناجين القهوة التي احتسيتها وأنا أنتظرهنّ. إلى عشرات حبّات العلكة التي مضغتها وأنا أنتظرهنّ". يشقيه مزاج نساء الإنترنت ويعذّبه، يسديه الأمل الزائف كي لا يحصد في نهاية الأمر سوى الخيبة وطول الانتظار!

"الحبّ في بيروت" (صدر في منشورات دار نلسن، بيروت، طبعة أولى 2022، وتصميم الغلاف لأغيد نجّار) قصّة حقيقية، يهبها الكاتب على الغلاف عنوانًا فرعيًا من مفردات العالم الرقميّ (Online offline)، وإذ ينطوي عنوانه على موضوع، هو الحبّ، ومكان هو بيروت حيث يعيش ويعمل، فإنّه خصّ المدينة- المكان بالمقدّمة التي تشمل نظرته الخاصة إليها، وممّا يقول: "تتخبّط بيروت في أزمة هويّة عميقة. هي جدليّة التاريخ والجغرافيا وامتزاج عشرات الأسباب. هي الحرب وما أفرزته والسلم وما أنتجه. تبدو هذه المدينة – لقاطنيها وروّادها على حدّ سواء – قلقة ومضطربة (...) إنّها مدينة لحظويّة. إيقاعها سريع جدًّا وأحلام قاطنيها تتبدّل. وفي هذا السياق سيكون واحدًا من الأمور التي لا تسير وفق المنطق (...) فكما أنّ مسائل السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة في هذا البلد لا تسير بسياق منطقيّ، كذلك هو الحب (...)".

بالنسبة إلى عطالله "دخلت التكنولوجيا كلّ ميادين الحياة وبرزت في السنوات الأخيرة وسائل التواصل كأحد إفرازاتها. غيّر العالم الافتراضيّ شكل علاقتنا مع ذواتنا وأجسادنا وأفكارنا ومواقفنا (...). في هذا الإطار، دخلت وسائل التواصل الاجتماعيّ المجال العاطفيّ من بابه الواسع وأطاحت الكثير من المفاهيم والعادات التي كانت ترافق بدايات قصص الحب ولحظات أفولها (...) ". ومعرّفًا بكتابه يردف قائلًا: "هذا الكتاب عن الحبّ ولكن ليس رواية عاطفية (...) يدخل في محادثاتنا اليوميّة مع فتيات نودّ إقامة علاقات عاطفيّة معهنّ. أدخل وإيّاكم إلى أحاديث ′الإنبوكس′ ومراسلات ′الواتس أب′، يجيب الكتاب عن هذه الأسئلة: كيف سينمو حبّ في هذه المدينة وعبر ′الديجيتال′؟ أي قدرة لنا في الأساس لتحمّل علاقات تتطلّب جهدًا كثيفًا ونحن نعيش يوميًّا في موجات من القلق والإحباط؟ كيف تتكسّر أحلامنا على جدار الموقع الأزرق وكيف سيعاد إحياؤها عبر النقر على Love  وWaw ؟ هل أصبح لون الهوس أزرق؟ هل نقدّم أنفسنا بذاتنا الحقيقيّة أو بتلك التي نشتهيها كسبًا للحبّ والإعجاب المتبادلين؟ هل أصبحنا نقيس الحبّ عبر ال emojis؟ (...)". ولعلّ عطالله يختصر مضمون كتابه حين يعرّفه بالآتي: "يغوص القسم الأوّل من الكتاب في عوالم الأونلاين مبيّنًا شيفرات التعارف والمحادثات، مطلقًا سيلًا من التساؤلات، ومثبتًا عددًا من الفرضيّات التي أحاول تدعيمها من خلال بعض أساليب البحث العلميّ، أو بالاستناد إلى دراسات وتقارير موثوقة. أمّا القسم الثاني فيغوص في المدينة وما تنتجه من عوامل تبدو كأنّها شبكة كلمات متقاطعة. هي نظرة إلى بيروت من فوق ومن تحت وكيف تؤثّر تشوّهات المدينة على المشهد العاطفيّ. وبين القسمين تتسلّل قصّة حبّ غريبة الأطوار صمد فشلها أكثر من تسعة أعوام. كلّ ما في القصة حقيقيّ، باستثناء اسم الفتاة (حنين) وما عدا ذلك، هي قصّة من صلب الواقع. واقعٌ لا تنفع معه أحلامنا الكبرى!".

من هذين التقديم والتعريف المعبّرين الوافيين عن كتاب صغير الحجم ينتمي إلى الأدب الساخر والبوح الصادق والجريء، فضلًا عن الأمل والألم، الحلم وتبدّد الحلم، العشق والخيبة، الانتظار والهباء... أرغب قارئًا مستمتعًا، ثم ناقدًا مقوّمًا لهذه التجربة، في المضيّ أبعد نحو فداحة المسألة وجدّيتها، رغم أنّ الكاتب وضعها في قالب من السخرية والضحك... مع كثير من الخيبة والألم في نهاية المطاف.




بدعة نيوليبرالية متوحّشة

صحيحٌ أنّ في "العشق الإلكترونيّ" أو "الدردشة العاطفية الإلكترونية" (كلاهما من ابتكارات الليبرالية الأميركيّة المدمّرة) تقريبًا للمسافات بين الناس وتسهيلًا للتعبير عن المشاعر بين المحبّين، إذْ لم يبق المرء (رجلًا أو امرأة) في حاجة إلى أكثر من لحظات قليلة لإرسال كلمة "أحبّك" مصحوبة بقلب ووردة أو قبلة واحتضان، ولكن على الرغم من هذه "المزايا" البسيطة، فإنّ أسلوب التواصل هذا الذي أحسبه "لا تواصلًا" بامتياز، قد يُسهم على عكس المرجوّ في توتير العلاقات العاطفية. فمن يبعث برسالة قصيرة أو بجملة، عبر مواقع الدردشة (وما أكثرها اليوم!) ينتظر عادةً ردًّا سريعًا، ويشعر بالإحباط عندما لا يحصل ذلك. ومن أسباب توتّر هذه العلاقات، بحسب خبراء ألمان في العلاقات العاطفية، اختلاف طبيعتَيْ الرجل والمرأة في التعبير عن الحبّ كتابةً. فالرجل يميل غالبًا إلى التعبير عن مشاعره بأقلّ قَدْر من الكلمات المكتوبة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، على النقيض من المرأة التي تُسهب معظم الأحيان في الكتابة وفي إرسال عدد من القلوب والورود والقبلات، وتتوقّع الأمر نفسه من الرجل. وقد يفضي "عدم التوافق الإلكتروني" هذا إلى توتّر في العلاقة (الافتراضيّة دائمًا) وقطعها، لا سيّما حين يفسّر أحد الطرفين تأخُّر الطرف الآخر في الردّ أو "شحّ الكلمات" بأنّه عدم اكتراث بالحبيب تكتنفه الشكوك. كما تضاعف طريقة التواصل هذه مشاعر الغيرة، فعدم ردّ أحد الطرفين سريعًا على الرسائل، برغم وجوده "أونلاين"، يثير الشكوك لدى الطرف الآخر الذي يشكّ في أنّ الحبيب يتحدث في هذه اللحظة مع شخص آخر، وفي أفضل الافتراضات أنّه منشغل عنه "بما" أو "بمن" هو أكثر أهمية منه.

تفتقر المحادثات عبر الفضاء الإلكترونيّ إلى العديد من العناصر المهمّة التي يتيحها اللقاء الحيّ المباشر وجهًا لوجه، إذ يمكن في تلك الحال قراءة تعابير مَنْ نخاطب وتحديد مدى اهتمامه ودرجة إنصاته لما نقول. وخلصت الخبيرة الألمانية في علم النفس، مانويلا سيرنبرغ، خلال دراستها تأثير وسائل التواصل الاجتماعيّ على العلاقات، إلى أنّ الشخص الذي يعاني من الغيرة يقرأ الرسائل عبر مواقع التواصل بطريقة مختلفة ويفسّرها على هواه، فهو يشعر مثلًا بالشك لمجرّد قراءة رسائل عاديّة ومحايدة لا تحمل سوى المجاملة ولا تنطوي على رغبة في الغزل العشقيّ. وتزداد مشاعر الغيرة حين يقرّر أحد الطرفين إخفاء علامة الاتصال "أونلاين" تجنّبًا لإغضاب الآخر عند التأخّر في الردّ.

لنعترف – ولا يفعل عطالله السليم سوى الاعتراف – بأنّنا نتألّم حقًّا عندما يرفضنا أحدٌ عبر وسائط "التواصل"، فالحقيقة أنّ الحياة على الـ"سوشيال ميديا" باتت مؤثّرة في حياتنا الواقعية نفسيًّا وعاطفيًّا، بل هي مليئة غالبًا بعلاقات عاطفيّة وصداقات قد يجلب أيّ رفض فيها ألمًا جمًّا وحزنًا وغضبًا كبيرين. إن إدمان "الفتوحات العاطفية" على وسائل التواصل يوقع صاحبه كثيرًا في حالات الخيبة ويتسبّب له بألم شديد هو في غنى عنه. ألم يقل بودا (وهو بودا وليس بوذا بحسب الشائع خطًا بالعربية) إنّنا كلّما ازدادت رغباتنا أزدادت آلامنا؟

حذّرت دراسات جامعية أميركيّة من أنّ نشر المعلومات الشخصيّة على الإنترنت يلحق ضررًا بالعلاقات الرومانسية يفوق ما يمكن أن يُحْدث من إيجابيّات. واعتمدت هذه الدراسات ما يُعرَف بالمنهج متعدّد البحث لرصد الظاهرة وآثارها وكيفيّة الدراسات التي تحاكي الجداول الزمنية والرسائل على موقع "فيسبوك" وآثار التعبير عن المشاعر علانيةً على العلاقات الحميمة ومدى الشعور بالرضى في سياقات "الإنترنت" (أونلاين) مقابل التعبير عن ذلك في غياب "الإنترنت" (أوفلاين) أي بعيدًا عن "الإنترنت"، كما عقدت مقارنات على مستوى العلاقات العاطفية في مقابل علاقات الصداقة فحسب.

مشاعل عبد العزيز الهاجري



هل نحن في عصر التفاهة؟

في مقدمة ترجمتها لكتاب "نظام التفاهة" (La mediocratie) للفيلسوف الكندي آلان دونو Denault  تقول الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري: "الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل (مثل "تويتر" و"فيسبوك" و"إنستغرام") هي مجرّد مواقع للّقاء الافتراضيّ وتبادل الآراء،  Forum  لا أكثر. فيها يتكوّن عقل جمعيّ من خلال المنشورات المتتابعة. هذا الفكر التراكميّ السريع الذي يبلور – بسرعة وبدقّة – موضوعًا محدّدًا، نجح في اختصار مسيرة طويلة كان تبادل الفكر فيها يتطلّب أجيالًا من التفاعل (المناظرات والمراسلات والكتب والنشر والتوزيع والقراءة والنقد ونقد النقد). ورغم كلّ هذه الفرص، فقد نجحت هذه المواقع في "ترميز التافهين" كما يقال، أي تحويلهم إلى رموز. ما يجعل الكثير من تافهي مشاهير السوشيال ميديا والفاشينستات يظهرون لنا بمظهر "النجاح"، وهو أمر يُسأل عنه المجتمع نفسه الذي دأب على التقليص التدريجيّ لصور النجاح التي تعرفها البشرية ككلّ (العمل الجاد والخيّر للأهل والمواطنة الصالحة وحسن الخُلق والأكاديميا والآداب والفنون والرياضة، إلخ)، فألغاها جميعًا من قائمة معايير النجاح، حتى اختزلها في المال فقط، فلم يُبْقِ إلاّ عليه وحده معيارًا (...)".

يتوافر اليوم لسلوكيّات التعارف و"المواعدة" dayting عالمٌ افتراضيٌ واسعٌ من خلال تقنيّات متعدّدة تزداد فاعليةً وحضورًا طاغيًا، مثل الهاتف المحمول أو "الموبايل" وشبكة الإنترنت التي تحتلّ الصدارة وتُحدثُ تغييرًا إنسانيًا وسوسيولوجيًّا في عالم العلاقات. هذه الإشكاليّة الكبرى وغيرها الكثير مما يتّصل بعالم التواصل الاجتماعيّ وأدواته المتنوّعة والمتعدّدة، ينطوي عليها كتاب عطالله السليم مباشرةً أو مواربةً، من خلال سرد تجربته الذاتيّة. فعوض أن تكون سهولة التواصل سببًا للحبّ والسعادة، أنهكت الحبّ وأحلّت التعاسة مكان السعادة. خلّفت العذاب وأطالت الانتظار وتسبّبت بالخيبة والحزن والألم وأشاعت فنون التلاعب (manipulation) بالمشاعر على نحو ساديّ، وأحيانًا مازوشيّ (للعاشق المعذّب، الخائب والمتألّم، إذ يصرّ على المضيّ في المحاولة والترجيّ والأمل والانتظار سدىً، عسى ولعلّ يلقى جوابًا أو إشارةً صغيرة!).

يُقدَّر لعطالله صدقه وجرأته، إنّما التقدير الأكبر لسخريته اللطيفة التي تُمتعنا ونحن نتأمّل في واحد من أخطر قضايا العصر وأعقد إشكاليّاته.

*ناقد وأستاذ جامعيّ من لبنان.

(*) ولد عطالله السليم في بيروت عام 1987، من أب فلسطينيّ وأمّ لبنانية، وتعود أصول عائلة والده إلى قرية البصّة في قضاء عكا. يحمل إجازة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من الجامعة اللبنانية - الأميركية في بيروت. عمل في الصحافة المكتوبة والتلفزيونية والإلكترونية، وهو اليوم معدّ فقرات صباحيّة في التلفزيون "العربي". صدرت له مجموعة شعرية تحت عنوان "مضاف إليها" (لدى دار المواسم، عام 2012) ومجموعة قصصية تحت عنوان "على أراضي جمهوريتي" (لدى دار الفارابي، عام 2015).

                                                                          

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.