يرتفع صوت الحلم في رواية "ألواح المتنبي" للروائي المغربي نور الدين محقق الصادرة عن دار إيديسيون بلوس Editions Plus 2022، حيث يمثل خصوصية أساسية لتصريف الأفكار والمعرفة الثقافية والأدبية والشعرية لدى الكاتب نفسه حول شخصية أدبية تراثية أثارت جدلًا واسعًا في زمنها وما زالت تثيره على مستوى الأدب العربي عامة إلى يومنا هذا، ألا وهي شخصية الشاعر العظيم أبي الطيب المتنبي الذي وصلت شهرته إلى العالم كله.
ليس من السهل أن يكتب روائي عن شخصية المتنبي وعن تجربته في الحياة والأدب والسياسة والفروسية؛ كما أنه ليس من اليسير الإحاطة بحياته المفعمة بالتجارب والمواقف والأفكار في نص روائي قصير مثل هذه الرواية، إن لم يكن الروائي نفسه قد اختار لنا جزءًا أو أجزاء أساسية من حياة الشاعر، لأنه يعرف أن هناك الكثير من الكتابات الفكرية والنقدية والأدبية والتخييلية قد تناولت الشاعر أبي الطيب المتنبي وحياته.
تستقطب حياة الشاعر الكثير من الكتابات وأشكالها المتعددة، حيث تقف كل واحدة منها على تفصيل من حياته أو على تفاصيل متعددة تمثل شخصيته المتعددة على مستوى الإبداع والمواقف والنظرة إلى العالم. فكل كاتب يحرص على موضعة مشاعره وأحاسيسه تجاه الشاعر، ونقل مستويات تفكيره حولها إلى مجالات من التفكير النقدي وتأويل الأحداث والمواقف، وكأننا بالروائي المبدع يتحوّل إلى وسيط أدبي ينقل لنا حياة شخصية تراثية مؤثرة بشكل تخييلي تارة، وبشكل واقعي تارة أخرى ليقول لنا إن هذه الشخصية قد أسيء لها وإليها في مراحل معينة، وهي في حاجة إلى الإنصاف.
اختار نور الدين محقق شخصية الشاعر العظيم المتنبي لأنه، كما يقول: "يمثل قوة الكتابة، تلك القوة الرمزية التي تتركها نار الكتابة الحقيقية خلفها دون أن تستطيع الالتفات لترى أثرها الكبير في أولئك القراء القادمين من رحاب المستقبل حتى وهي تستشرف قدومهم، يبقى حاضرًا وبعمق في التفكير الإنساني برمته" (الرواية، ص 3). فصوت المتنبي، وهو يحضر في الحلم، يقدّم نفسه كصوت إنساني يمثل نقطة تحوّل في إعادة تمثيل الوعي العربي تجاهه وتجاه تراثه العربي عامة؛ بل هو هروب من نوع مختلف يعبّر عن فهم جديد لتراثنا العربي ومحاولة قراءته من جديد وتصحيح العديد من الأشياء التي تسيء إليه وإلى شخصيات ثقافية وأدبية وسياسية تحتاج إلى هذه الخطوة الجريئة ومنها الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي بالطبع.
إن حضور المتنبي كشاعر وإنسان من خلال ألواحه وحكاياته العجيبة والمثيرة في النص الروائي، تدفعنا إلى القول إن كاتبًا روائيًا من حجم نور الدين محقق الذي أبدع نصوصًا كثيرة في الرواية بالخصوص ليس بالترف الأدبي أو الفكري كما يعتقد البعض، وإنما هو عمل إبداعي سردي حاول أن يصحح العديد من المغالطات والمواقف السلبية التي أُلصقت بالشاعر من طرف الحاسدين والحاقدين والخصوم، سواء من طرف الشعراء الغيورين والمنافسين له، أم من طرف السياسيين المغرضين الذين كانوا يخافون على ذهاب مكانتهم عند الملوك والسلاطين والأمراء وأصحاب الجاه والمال والسلطان.
جميعنا قرأ شعر المتنبي وعرفه سواء من خلال ما كُتب عنه، أم من خلال ما تركه المؤرخون من كتب وأفكار حوله؛ في حين لا نعرف العديد من التفاصيل الحياتية الخاصة به مثل علاقته بجدته رغم تخليده لهذه العلاقة شعريًا، فتعلقها به وخوفها الهستيري عليه أدى إلى موتها مباشرة بعد سماعها أخبارًا سارة عنه عندما غاب عنها مدة طويلة من الزمن. يقول السارد الذي يمثله الشاعر نفسه في الحلم: "هكذا غبتُ عنها ذات فترة، غيابًا طويلًا اشتاقت إلي كثيرًا وتعذبت كثيرًا من خوفها أن يصيبني أذًى، أنا الشاعر المتجول بين القبائل والمغامر الباحث عن مجدٍ كبير لا حدود له، وحين وصلتها رسالة مني أخبرها فيها بأنني حي يُرزق، وبأنني أعيش في أتمِّ صحتي، قبلتِ الرسالة ووضعتها على صدرها، بالقرب من قلبها، ثم أعادت تقبيلها ووضعها على صدرها بالقرب من هذا القلب الأمومي الكبير، إلى أن سقطتْ مغشيًا عليها وفارقت الحياة" (الرواية، ص 15).
الذاكرة الحلمية وصوتها الآسر
تمثل الذاكرة الحلمية في رواية "ألواح المتنبي" تلك الرغبة الفكرية لدى الروائي في الكشف عن الأبعاد السياسية والثقافية والأدبية في حياة الشاعر؛ إضافة إلى محاولة فهم العلاقات السياسية والإنسانية لدى المتنبي في ارتباطه الوثيق مع الشخصيات المؤثرة فيه وفي ثقافته وأدبه. وكأننا بالذاكرة، ذاكرة المتنبي الحلمية، تسعى إلى إيهامنا بشكل أو بآخر بمدى قصور معرفتنا به وبحياته وشعره أيضًا.
إن عمل الذاكرة الحلمية في النص تعمل على تصحيح أوهامنا وأفكارنا المغلوطة حول شخصية الشاعر، وتمنحنا دلالات ومؤشرات ورموز تفرض علينا فك مغاليقها وفضح أسرارها للوصول إلى الحقيقة؛ حقيقة حياة أبي الطيب المتنبي وتجربته الشعرية وعلاقاته المثيرة للجدل. ومن بين الحقائق المفروض علينا معرفتها تعلقه بالكتب وقراءتها والبحث فيها؛ ففي تجربته الشعرية لم ينطلق من فراغ أو من سليقته ومن كونه من البيئة العربية الغنية بالشعر والأدب، وإنما أيضًا مما اكتسبه من معرفة وثقافة. وشاعر مثل هذا، قارئ كبير ومبدع عظيم، يستحيل أن يوصف بالسارق أو يُتهم بالسرقة الشعرية، وكل من يتهمه بذلك فهو السارق واللص الخطير؛ يقول في سرده الحلمي: "... فاستغل حسادي ذلك واتهموني ظلمًا وعدوانًا من خسة نفوسهم المريضة بالسرقة الشعرية كما سبق أن اتهموا من قبلي العديد من الشعراء الكبار أمثال امرئ القيس وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وغيرهم. ولقد نسي هؤلاء الحساد وأغلبهم يدعي كتابة الشعر أنهم هم من أغاروا على شعري واستفادوا منه، والأمر واضح فيما كتبوه بعد اتصالهم بي من كتابة منتحلة أسموها شعرًا وهي بعيدة كل البعد" (الرواية، ص 25).
تمثل الذاكرة الحلمية في الرواية بالنسبة للروائي شكلًا تقنيًا في الكتابة وفي عملية السرد معًا، حيث يتأكد لنا بعد القراءة أنها حيلة منه لمواجهة الواقع أو التاريخ بحد ذاته، التاريخ الذي يحمل إلينا العديد من الأفكار المتناقضة حول حياة الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي. هذا النوع من الذاكرة يحاول استدعاء الحلم من أجل إعادة بناء وعينا الثقافي وذاكرتنا الأدبية وقراءة تراثنا بشكل مختلف وبطريقة جديدة تتنافى والفهم السائد والرائج في مدونتنا الشعرية على الخصوص.
إن رواية "ألواح المتنبي" تمثل تلك الصورة المشرقة لشاعر مثير للجدل في عصره وما زال كذلك، حيث تؤكد على أهمية إعادة النظر في شخصياتنا وثقافتنا العربية وفي تراثنا الجميل ومحاولة تنقيته وقراءته وفق نظرة جديدة ورؤية فكرية تستدعي الانفتاح الثقافي والفكري على العالم.
* كاتب وناقد مغربي.