}
عروض

أدونيس يصدر "أدونيادا".. ثنائية النفس

محمود شريح

13 أغسطس 2022


أدونيس، علي أحمد سعيد، النازل من قصّابين إلى اللاذقية، فدمشق، وبيروت، الصاعد إلى باريس، يصدر، طال عمره، وقد  أتمّ الثانية والتسعين "أدونيادا" (دار الساقي، 2022، في 425 صفحة من القطع الوسط، ولوحة غلاف بريشته)، ليسجّل فيها تاريخه المتعرّج التضاريس شعرًا يعبق بالحنين إلى المسقط، ومتسائلًا فيها عن طيش الوجود، فيما عقله يحسّ وقلبه يفكر، فيعجب للقاء الماء والجمر فيها "فيما الناس يستسلمون لما يلمسون"، وجوابه "أن ترى وردة تتفتح يكفي أن تحبّ"، رغم أن مدنًا يتطاير منها دخان، فيذهب أدونيس صاحب هذه الملحمة الشعرية "إلى آخر الموج في آخر الظلمات، إلى ما أسميه نفسي وأنا ضد نفسي معه" من منطلق ديالكتيك الكشف عن نوازع النفس في تطوافها:
أهوَ الشرق خلفي، والغرب ليس أمامي
ضفتان لنهر واحد
سندبادٌ يتشرد في بحر عوليس في بحر قدموس
في كوكب ليس جزأين شرقًا وغربًا، ولكن
جسدٌ واحدٌ لأحواله طبقات
تتعدد في وَحدة..

لكن أدونيس القلق لا يفتأ أن يحب النجوم التي تترصّد ليل السرير الذي يتقلّب فيه ويقلب تاريخ حزنه، فيغار من الضوء وينزل سرًا عليه، فيتساءل:
تراهُ السرير بلادٌ
للأحبّاء من كل ليل ومن كل عطر؟
أنتِ، يا هذه الصبوات البعيدةُ،
يا هذه الذروات.
الينابيع كوني شغفًا خالصًا
يوقظُ الكون من نومهِ.





في هذه الإحالات المكثّفة إلى الجذور، حيث الهناء الأول في فردوس مفقود، يرتدّ أدونيس إلى بيروت، في ضوئها، وفِي ظلها، فيتشرّد هوىً ما بين نفسه وبينه، في دمشق ـ الكتاب وتاريخه.
هذا الارتداد إلى دمشق وبيروت في لغة الحلم الواعية لذكرى منارة بيروت وقاسيون دمشق:
أتقدّم في الصالحية من نقطة إلى نقطة
اتقدّم من رأس بيروت، في لُجّة.
ورغم هذا الحنين إلى دمشق وبيروت، فإن أدونيس يعجب لهاتين المدينتين اللتين يتآلف فيهما ما يؤسّس باسم النظام، وما ينقُضُ النظام، فيرى فيهما الذات جرحًا وتيهًا وثورة الحسّ، وحبًّا وموتًا، أي لغة الوصول إلى آخر الكلام، فيصبّ أدونيس في أدونياداته حرقة الساكن ولهفة المنفي، والارتداد إلى الثابت والمتحوّل، وإلى لغة العودة الأبدية، من دون أن يغيب عن باله أنّه قبض ريح، وهو في كل هذا شاعر الإيقاع والموسيقى في نفس أسطوري:
أقفرتْ مرة طريقي إلا من أزاهيرها
فشكتها السماء إلى نارها
السماء تسنّ السهام وترمي صدور البشر
بنعيم الخرافات حينًا، وحينًا
بجحيم الشرر.
فيما يدرك واعيًا أنه العصر: أوركسترا لمثاقب نفطٍ وغازٍ، لأنابيب موصولة بالكواكب. إنه أوركسترا إلكترونات علمٍ وفتكٍ. وإذا كانت هذه هي الحال فلا دفّة ولا سفينة، بل أرضٌ يباب، وتبقى شكواه ما قاله المعري: "كلُّ وجه سرابٌ لآخر والماء في جرة لا مكان لها". وعلى هذا النحو، أخرج أدونيس الشعر من مائه صورة، وترحّل فيها، أي وظيفته في "أدونيادا".




لا تغيب عن أدونيس مفردات الطبيعة، وقوانين التكوين، فنحنُ مع صعتر بريّ يرئس التوابل، وأزهار يتصاعد منها بخور الأيام، وسماء تتشكّل من كيمياء النجوم، ولا يغيب عنه صورة أيلان الطفل السوري المكبوب على وجهه وحيدًا، بين الموج والرمل:
على شاطئ سوري ـ تركي
تركي ـ سوري
تستطيع الآن أن تكون مهاجرًا حرًا.
ما يحيل هذه النهاية العبثية إلى فاجعة أزلية، إذ تكاد الأبجدية أن تصرخ من هول صدمة الرؤية، فهذا الطفل المكبوب عرف كيف يحوّل قدميه إلى جناحين لا مكان لأي شبه بينهما وبين أجنحة الملائكة، إذ يطيران من جدار إلى جدار إلى جدار في سجون العالم، فيعترف له أدونيس:
وكنتُ في سنّك، عندما بدأتُ أعشقُ الليل
وهو يخلع نعليه ويخفيهما على شاطئ البحر.
يدرك أدونيس في منفاه أن الزمن العربي يلتهم فضاء الإنسان وفضاء المنفى، وليس فيه إلا سيّد الأشياء الغائبة مستويًا على عرشه، ومن هنا لا تاريخ لهذا الزمن. إنه تاريخ خرافي كمثل قمر يربّي الأرانب في غابة الذئاب. تشغله على الدوام مأساة غيابه عن المسقط، لكنه يعلم أن الوطن ليس وطنًا ما دام فيه، إذ يجب أن يرحل أحدهما، لكن لا يغيب عن ذاته ياسمين دمشق، دمشق مدينة الياسمين تتفتّح وردة تتكئ على جفن الصباح:
هذه الياسمينةُ أحببتها
شجر الياسمين كثير في الحديقة لكن وحدها
هذه الياسمينة أحببتها
كلما قلت أحببتها
نبتت حولها زهرة.
وأدونيس الحالم أبدًا منذُ نعومة أظفاره في الجبال المطلّة على اللاذقية والمتوسّط، يدرك تمامًا أن الحقيقة ضيقة، فيما أن الصّور واسعة، لكنه يسمع أيضًا الحزن يقرع في كبدهِ طبلَه. هي ثنائية النفس في سفرها من الشك إلى اليقين.
يعترف أدونيس فيما يعترف أن حاجته الآن للحبّ لا لكي يتذكّر، بل كي ينسى، فحبّه طفلٌ وشيخٌ يعيشان في جسد واحد، وهنا مصدر حريته:
دهشتي أن حبّي يجلسُ الآن
في هذه اللحظات على مقعد
جلستُ عليه
عندما كنتُ طفلًا.
يشنُّ أدونيس حملة شعواء على هذا العصر، عصرنا، إنه العلم، مخبرٌ للإبادات، "لا لفتةٌ ولا غضب، إنه العلم قردٌ على فرسٍ من ذهب".
في "أدونيادا"، يعود أدونيس سرًّا من باريس إلى قصّابين عبرَ بيروت ودمشق واللاذقية، إثر تطوافه في عواصم الكون الأوسع، فأسطرَ تاريخه الشخصي وثيقًا بتاريخ أمّته السورية المجيدة، مع إقراره بما في الآخر من مرارة اعتراف، فكأنه ما غادر حرفة الشعر قيدَ أنملة منذُ سبعين عامًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.