}
عروض

"خشخشاتٌ تنقر النافذة".. غفوة ناي على شرفة القمر

صدام الزيدي

7 أغسطس 2022


صدرت حديثًا عن دار "الشنفرى" في تونس المجموعة الشعرية "خشخشاتٌ تنقر النافذة"، هي الثالثة للشاعرة السورية، رماح بوبو، متضمنةً 46 نصًا في 144 صفحة من القطع الوسط.
تكتب بوبو قصيدة النثر. أما ما يميز مجموعتها الثالثة عن السابقتين ("تفاحتي وقد سرقتُها"، و"البحر يبحث عن أزرقه" الصادرتان في 2018) أنها تحتوي نصوصًا تفاعلية تكتبها الشاعرة متماهية في فضاء التواصل الاجتماعي، حيث نقرأ نصوصًا حملت عناوين: فيروس1؛ فيروس2؛ فيروس3؛ صفحات..؛ بلادٌ في "الموبايل"..؛ العودة إلى الألبوم.
في المجمل، تكتب الشاعرة بلغة تتعالق مع الأشياء والأسماء والرموز والأمكنة، وتستحضر الطقوس الدينية، فيما تستنطق مداخل مدن تعيش يوميات الحرب، فأمام مدخل اللاذقية، مثالًا، تكتب: (ما أكثر القادمين/ ما أكثر الراحلين/ زحامٌ عند كوّة المفقودات). وفي مدخل طرطوس: (عاشقان أمام البحر/ يتقاسمان برتقالة/ تجاهلا لسعة الملح/ على جروحهما).




تستهل رماح المجموعة بمفتتح تقول فيه: (برهبةٍ/ كمن عثر على فرخ ماء/ أحضنها/ثم أنحني/ وأضعها في عش هذا البياض علّني/ أهديكم بعض الزقزقة). وهو استهلال يكشف مدى انغماس الشاعرة في عالمها الشعريّ، إذ تشبِّه قصائدها بالبيض الذي يتطلب الاعتناء به ليصل أخيرًا إلى زقزقة طيور تخرج من مخابئها الأولى.


"سرّنا البعيد"..


أول نصوص المجموعة يحمل عنوان "سرّنا البعيد"، وفيه تعيد الشاعرة إلى الأذهان حكايات وأساطير ونصوصًا مقدسة حول بداية الخلق، لكن في أفق شعري مختلف: (قبل انكشاف الجرف/ كان صوت الماء أنثى/ كان كحل الماء.. ماء)، وفيما تستمر في خلقها الشعري، تشير إلى ضفدع كان في قعر الكون، صار كوكبًا، وقفز غائصًا في فجوة في المدى السحيق، ليصير أرضًا، بعد أن استوى على لجّة الفراغ، لكن نقيق الضفدع سموه "إنسانًا"، وهنا تجلد الشاعرة هذا الإنسان الذي يعيش على الأرض، عادةً كل تصرفاته العبثية وفساده مجرد نقيق لضفدع...



وفي نص عنوانه "سيدة الدوبامين"، نقرأ: (على يمين الذهول/ فوق الضلع الثالثة بقليل/ أربّي فهدًا مصابًا بالتوحد/ كلما زأر/ أُسدِلُ الآذان/ وأشقُّ صوتي نصفين)... ولا بد أنه التأثر بقصص الخلق والتكوين، فالنصف الذي انشقّ من الصوت، تخيط به الشاعرة فمها، والنصف المتبقي، تطلقه ليحصد رؤوس (المافيات) من الشوارع الخلفية للمهزلة، كما تقول. ولكي تقفل النص، ثمة مفارقة بأسلوب شعري جميل ومباغت: (سيدة "الدوبامين" أنا/ متى أكلت نفسي/ تعشقوني!).
وتقف الذات التائهة، على شرفات الحيرة والوجع، تاركة لخيالها السفر في الأنحاء، حيث ترى وتكتب وتبكي في سياق يوميات خلاصها في الشعر، الذي نذهب إليه لكي نعثر علينا، ولكي ننجو من حياة مليئة بالمفارقات التي لا يراها غير الشعراء، ربما: (رأيت في البعيد/ مدنًا تقفز كالأرانب/ وأزهار توليب تعانق مدخنة/ رأيت نهرًا يكتب وظيفته على مدخل البار/ وامرأةً.. تبيع مقبرةً بدرهم/ رأيت حروفًا تفيض عن جسد اللغة/ وترتدي مريولةً مدرسية/ رأيت.. بكيت/ بكيت.. رأيت../ بكيت حتى أزهر مرج الشعر).
ومثل "وعل" شارد في جبل، يطلّ على (شرفات) صيحاته وتنهداته الداخلية، في لحظة المغيب؛ اللحظة التي تعيشها الشاعرة مصغيةً إلى (غفوة الناي)، وهو ناي مطفأ يتجه بعيدًا إلى القمر.. وتمضي الشاعرة متماوجة مع أحزانها وآهاتها، عاجزة عن فعل شيء، يحرر الذات المتشظية التائهة من انكساراتها، حالها حال "بنفسجةٍ قصيرة الساق"، أو عشبة موعودة بمطر، ذبولها واضح للعيان: "محض عشبةٍ رشّها جنون الفصول، فلم تجد ما تقول".
وتجترح القصيدة المتشظية الحائرة أفقًا مغايرًا عدّته الخيال المرتبك في فضاء يدوِّن للأيام البعيدة المتصرمة، في لحظة استذكار للطفولة التي كانت وأيام الصف المدرسي: (أردت أن أكون عريفة الصف/ لكني/ كتبت أسماء رفاقي/ الساكتين/ ففوجئت أن معلمتي تحب السكوت/ وتكره خطي المائل).
ويستمر اتكاء الشاعرة على أناها الداخلية، مصغيةً لما يعتمل بداخلها من أفكار وخيالات في استعادة ذكريات تشتبك فيها مع الآخر، الذي، بتخلفه وعبثيته، يقف حجر عثرة أمام كل شيء: (أردت أن أكون سيدةً أنيقةً/ لكنهم/ نظروا إلى خدوش ركبتيّ/ وصاحوا: هذه ماعزٌ!)، ويا للأسف، هكذا تبدأ تشردات الذي لم يتفق مع رفاق الدرس (المجتمع إجمالًا)، ولا بد أن النهاية ستكون قطعًا مع كل هذا: (شرّدوني إلى التلال).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.