}
قراءات

"جحيم المثقف".. علاقة الثقافة بالأيديولوجيا في العراق

وارد بدر السالم

8 سبتمبر 2022

 

للباحث محمد غازي الأخرس مشروع بحثي ثقافي طويل لقراءة (تاريخ أفكار الثقافة العراقية)، وكنا قد أشرنا في مناسبة سابقة إلى انطلاقه في المشروع الأول "خريف المثقف العراقي" ونقف في المشروع الجديد مع (جحيم المثقف.. الثقافة والأيديولوجيا في العراق، 1945-1980) الذي يمتد زمنيًا إلى ثلاثة عقود ونصف. وهو زمن طويل بقياسات حركية الثقافة العراقية في مدها وجزرها، والذي تتحكم به الحاضنة السياسية وأيديولوجيتها على مر متغيراته الثورية.

لكن هذه الوقفة مع الكتاب هي حوار في الأفكار على الأغلب الأعم. فالمعارف المصدرية والنقدية التي انطوى عليها البحث تحتاج إلى اتساع في المناقشة، كما هو متسع في استدراجه لأكثر من ثلاثة عقود ثقافية في مواجهاته الطويلة مع الأيديولوجيا السياسية في مجتمع لم يكن بعد يمسك بتلابيب الحداثة الاجتماعية؛ إلا وأجهضته الأيديولوجيا، أو حوّرت مساراته الأدبية والإنسانية، باستغلال رموزه الثقافية والفكرية والإبداعية عمومًا. وبالتالي فإنّ التعريف في هذا الجزء من المشروع يقف على تاريخ الأفكار، كما جاء في تصدير المشروع. ونحاول فيه قراءة الموجهات الأولية له باعتبار أن تاريخ الأفكار عمومًا مرتبط "بمنظومة الأفكار الأيديولوجية" مع اعترافنا أن أي ملخص له لا يقدّم الصورة الأخيرة لجوهر المشروع النقدي الذي التزم به الأخرس. لا سيما وأن الفترة البحثية تمتد من أربعينيات القرن الماضي حتى مرحلة الثمانينيات من القرن العشرين. وهي فترة جحيمية كما يرى الباحث لاضطراب السلوك الفردي والجماعي عند الأغلبية من المثقفين، الذين عاشوا صراع الأيديولوجيات على أرض اجتماعية لم تتغير كثيرًا. لكنها بقيت حاضنة للأيديولوجيا التي جاء بها اليساريون والاشتراكيون والقوميون على فترات متقاربة أو متباعدة في سنوات الجحيم العراقي.

سنتوريون.. الكلب النبّاح

في مقدمة وبابين بمجموع اثني عشر فصلًا وخاتمة هي خريطة هذا المشروع الاستعراضي والنقدي الذي بُذِل فيه جهد بحثي واستقصائي بارز. سنتوقف بدايةً في "الخاتمة" التي لخّصت الحالة الثقافية العراقية - برمتها- تاريخيًا. والتي أوجب أن يقول فيها الباحث في خلاصة مثيرة، بأن الأمثال تُضرب ولا تقاس. وفي الحقيقة تقاس في كثير من الأحيان. وإن "الضرب" هو ابتداءً مشروع نقدي موارِب، يُراد منه الحقيقة لكن من وجهها الخلفي أو العَرَضي. فالخاتمة أشارت إلى ما رواه القاص الستيني أنور الغساني في شهادته لمجلة فراديس، من أنه جاء بجروٍ صغير "أسماه سنتوريون" ووضعه على سطح عمارة بأمل أن يكون شرسًا عندما يكبر. لكن الجرو عندما أصبح كلبًا، بقي مجرد كلب نبّاح، حتى ضجر منه سكان العمارة. فأبعدَ الكلب فيما بعد أثناء مغادرة الغساني بغداد إلى كركوك. وعندما عاد الأخير ولم يجد الكلب (لم يمعن في ردة فعله إلى أبعد من الاحتجاج اللفظي) و(لعل شأن المثقف العراقي طوال تاريخه كان كذلك، مجرد فرد متروك فوق سطح عمارة..) وهذه القسوة في التشبيه لا تشمل أيديولوجية معينة، ولا نظامًا سياسيًا محددًا منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة. وربما أراد الشاعر والروائي فاضل العزاوي أن يبررها (لم يكن أمام المثقف العراقي خيار سوى واحد من اثنين.. إما أن يكون تابعًا للسياسي.. وإما أن يحمل صليبه على ظهره..) ولو تتبعنا مسار الحركات الثقافية المناصرة لتلك الأيديولوجيا أو تلك، لفهمنا على نحوٍ واضح نوع الخطاب الثقافي الذي يشي بدوره بالنوع السياسي. حتى تكاد الهوية الذاتية تنمسخ في مصهر الأيديولوجيا، مثلما تتحول التركيبة الاجتماعية، إلى ظاهرة هي غيرها بالنتيجة، تبعًا للمسار السياسي، وبالتالي يمكن قراءة الخطاب الثقافي على ضوء هذه التشاكلات التي تولدت من الأيديولوجيا السياسية وتفريعاتها السلطوية الصارمة. ولنا في المد اليساري والمد القومي منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى بدايات الألفية الثانية؛ عراقيًا؛ ما يشير إلى هذه العلاقة المترجرجة بين السلطات وجماهيرها التي تؤدلَج مؤقتًا، طبقًا للهرم السياسي المتسلط وتوطينه لآليات استمراره، ومن بينها الثقافة والمثقفون، الذين يتشابهون في الأزمان كلها من حيث استلاب طاقاتهم وتوجيهها باتجاهات أيديولوجية محددة. وبالتالي تتغير الاتجاهات كلما تغيرت الأيديولوجيا، ويدخل السياسي إلى صلب المجتمع من أبواب مشرعة كثيرة.






صراعات فكرية

بين اليسارية الماركسية والقومية العربية التي شغلت مساحة زمنية منذ الثلاثينيات وحتى الخمسينيات، كانت الحساسيات السياسية والفكرية، تستقطب الكثيرين من المثقفين الليبراليين، بوجود وفرة من الأحزاب ذات الأهداف المشار اليها. وكان المجتمع العراقي خاضعًا لتجارب الشعراء والكتاب والثوريين، وأغلب هؤلاء ينتمون للطبقة الوسطى؛ لكن السياسة الطفولية السائدة في تلك الفترات، ومع تأثرها بالمد الماركسي والشيوعي، أرادت أن تضمن شرائح الفقراء إلى جانبها في خطاباتها الثقافية ونزوعاتها الفكرية. في جزئيات رمزية للاستبدال الطبقي الشكلي، بمناصرة الفقراء شعرًا ونثرًا ومقالات. وهو استهلاك اجتماعي للطبقة العاملة والفقراء، تغير بعد الحرب العالمية الثانية، بانهيار الطبقة الفلاحية (بسبب قوة الاقطاع) ما يعني (تكفل البرجوازية الصغيرة بقيادة المجتمع) وهذا أمر يحتاج إلى معالجات وشواهد أدبية، قد يكون الباحث قد مر على ذكرها باختصار، لتحديد سمات المرحلة ما قبل الستينية، وصولًا إلى ما بعدها. إذ كانت الأحزاب اليسارية والليبرالية توجّه خطاباتها السياسية والثقافية إلى شرائح المجتمع، متبنية سلوك المؤسسات القديمة (فأصبحت أقرب ما تكون إلى قبائل سياسية حديثة) وهذا يستدعي الكثير من صناعات ثقافية وأيديولوجية، لا نقول جديدة، لكن إعادة إنتاج خطابها الثلاثيني والأربعيني والخمسيني، ومن ثم إعادة إنتاج ثقافتها الموجهة إلى المجتمع. وقطعًا لا تكون الثقافة العامة بمواجهة بعضها، لكن الخطاب السياسي سيكون بمواجهة بعضه البعض، كما حصل عند صِدام القوميين (حزب الأهالي) مع العقيدة الشيوعية، وإلى وقت طويل وصل إلى السبعينيات البعثية كما هو معروف. وبالتالي فإن انقسام المثقفين يكون طبيعيًا في التحولات الكبيرة اجتماعيًا وسياسيًا. وهو انقسام أيديولوجي وليس مجتمعيًا؛ مع أن المجتمع في تلك المراحل الانقلابية الحساسة كان يدفع الجزء الأكبر من تلك الصدامات الفوضوية. وكانت الثقافة الأدبية الشعرية تنتج قصائد حماسية تحاكي واقع الحال السياسي للجواهري وعبد الرحمن البنا ومحمد هادي الدفتر وماهر الكنعاني وبدر شاكر السياب وغيرهم من شعراء الأربعينيات والخمسينيات.. والستينيات فيما بعد. وهي بالنتيجة - كما أشارت الخاتمة - مجرد حشو لفظي أمام المد السياسي بأنواعه المدنية والعسكرية.

صناعة الصورة الوطنية

وفي خضم الصراعات المتتالية: اليسارية والقومية بأحزابها الكثيرة وروادها السياسيين، ومع المجتمع المتحول من عقيدة إلى أخرى، أو من ظل يمسك العصا من وسطها، كان الموقف الثقافي برموزه من المثقفين أكثر خلخلةً وفوضى، مع أنه أنتج أدبًا قويًا، لكن ظلت فكرة الاستقلالية بعيدة عنه. لا سيما بتأسيس الجمعيات والاتحادات والنوادي الثقافية والفكرية. وعلاقة العراق بالسياسة العربية القومية مما كان يغذّي أفكارها بالعروبة وقضاياها المصيرية. ولكن هذا كله كان يجري على مراحل، بوصفنا أن المد اليساري الشيوعي كان هو أيضًا يتغذى من مصادره العالمية. وبالتالي كان المثقف العراقي لا يشعر بالحرية الكافية، ولا بالاستقلالية الفكرية، وكانت مثل تلك المطالب أشبه ما تكون بالوهم كما يصفها الباحث. خاصة عندما تداخلت العساكر في أوقات متعاقبة لفرض نفوذها. على أن القوميين وضمن السياقات المتتالية التي يوردها الباحث، استثمروا مؤسسات التعليم (فهذا الحقل يُعد صانع الصورة الوطنية عن الذات) وأنه (ركن أساس من أركان شروط إنتاج الخطاب) وهذه الفقرة والتركيز عليها هي من الفقرات التي أولتها الأيديولوجيا العراقية اهتمامًا بيّنا، من العهد الملكي (ساطع الحصري) حتى قيام الجمهورية في 14 تموز/ يوليو 1958 لما له من أثر فاعل وفعال في تنمية المعرفة بأشكالها، ومن ثم زرع الوعي بين الجماهير المتصارعة على أيديولوجياتها المتناقضة، وصولًا إلى صناعة (الهوية الثقافية) بعيدًا عن الهيمنة الدينية المتطرفة التي كان يمكن لها أن تتقاطع مع النظام المدني الذي أرساه التربوي ساطع الحصري وسواه من المتنورين.

هذا إذا استذكرنا إنشاء الاتحادات والنقابات التي كانت قد لعبت دورًا في تنمية الشعور بالوطنية، وأضيفت لها المقاهي الثقافية والشعبية والتلفزيون والإذاعة في فترة أواخر الأربعينيات الخمسينيات ومن ثم الستينيات التي شهدت انتفاضات جماهيرية وشعبية مختلفة، لتكون منابر ثورية وشعرية، لتهييج الجماهير ضد الأنظمة القامعة للحريات، بمختلف مسمياتها السياسية. وكانت الأغطية الأيديولوجية هي التي تحرّض الجماهير وتحركها، تحت تثوير شعري وديني في غالب الأحيان، استهدف الكثير من الحركات السياسية، لا سيما الشيوعية منها واليسارية بشكل عام.






الجماهير وعصرها

بانتهاء الحرب العالمية الثانية ولدت (حضارة الجماهير) بعدد الدول التي نالت استقلالها (104 دول) مع انهيار العالَم القديم وضمور الاستعمار الأجنبي، وتغير الثوابت القارّة والقوى الدولية متعددة الجنسيات. وكان العراق كباقي الدول العربية التي تحررت من الكثير من مخلفات الماضي الثقيلة، والاستقلال الذاتي يعني دخول البلاد في مجازات سياسية وحريات جديدة، وشعبيات متعددة الطوائف والمذاهب والقوميات. ومن أول النتائج الهجرة الريفية إلى المدينة، لا سيما العاصمة بغداد؛ هربًا من الاقطاع (ليس لدينا ما نخسره) وهو لسان جمعي ريفي، هاجم العاصمة بثقل بشري غير مسبوق. وهو ما وصفه غائب طعمة فرمان في روايته "النخلة والجيران"، ومع هذه الهجرة العشوائية، برزت أصوات شعرية وغنائية وروائية رفدت الجو الثقافي العام وكرّست تقاليد ريفية جديدة. ولم تعد الأشكال الفنية حكرًا على مثقفي العاصمة وريادييها. وهذا تسبب (ببروز صراع فكري بين رؤيتين: واحدة تقليدية... والأخرى ثورية..) لا سيما مع الحزب الشيوعي الذي وجد جماهيره بعد المتغيرات الوطنية بأنهم مجموعات من (توافه الناس) كما قال عبد الله الأمين. بينما كانت الفترة السبعينية انحسرت بين قوتين هما اليسار الشيوعي والبعث القومي، وتجلّت الثقافة بمعطيات جديدة أكثر انفتاحًا على العلوم والترجمات من اللغات الأجنبية، بعد إعلان الجبهة الوطنية. وهو أمر متحقق شكليًا، بوجود (حضارة) جماهيرية، أمكنها من إعادة صياغة الخطاب الثقافي وتحييد فكرة الأيديولوجيا ذات الاتجاه الواحد. غير أن هذا تحطم في نهاية الأمر لأسباب كثيرة، بانهيار الجبهة الوطنية، والقضاء على حلم جماهيري مشترك، كان يمكن أن يكون أكثر تأثيرًا في استتباب العلاقات الاجتماعية والوطنية.



أنماط الخطاب الثقافي

كل الفعل السياسي الذي نما وتقدم وتسلط تحدث باسم الفقراء والمسحوقين والمهمشين. مع أن معظم المثقفين من الطبقات الوسطى، أضيف لهم فيما بعد المهاجرون من الأرياف والقرى من ذوي الشرائح المتواضعة. لهذا نشأ خطاب ثقافي مغاير بعد السبعينيات بأنساق ومحمولات جديدة أكثر صلة بالواقع المستباح سياسيًا. وسنجد أن ذلك الفعل- السبعيني مثلًا- هو غيره في مراحل الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات والستينيات. فقد تنافذ بين (النمط الثوري- مستعيرًا لسان المسحوقين) و(النمط القومي- مدافعًا عن شخصية الأمة العربية) و(النمط الثالث- تلفيقي بين النمطين) وهذه الأنماط هي التي وجّهت الجماهير إلى مبتغاها الأيديولوجي والفكري وقناعاتها التي ولدتها عبر مفاهيمها الثورية. وبالتالي ثمة ما يوحي بخطاب التجديد الذي رّوج له بعض المثقفين الذين وجدوا في أفكار هذه المرحلة ما يناسبهم. وعليه أصبح هذا الخطاب سائدًا لثلاثة عقود. يمكن للجيل الحالي أن يوجه له الكثير من النقد والانتقاد، بوصفه خطابًا ذا وجهة نظر واحدة، بعدما أقصى الخصوم اليساريين بعد الجبهة الوطنية التي كانت محض شكل سياسي انتهى بالفشل الذريع.

هذا الخطاب الذي يراه في أكثر من مكان وزاوية بأنه خطاب (تلفيقي) يورد معه أدلة مصدرية كثيرة. ويحاكي الحالة الثقافية التي كانت قائمة في السبعينيات وما تلاها. ولكنه لا ينسى خطابات التلفيق الستينية (خطابات الاشتراكية العربية) في عهد عبد السلام عارف، وما تبناه الحزب الشيوعي في الستينيات، وما إلى ذلك من شواهد في هذه الدراسة البحثية - النقدية - الموثقة  كشهادة شاملة قام بها الأخرس بقراءته المصدرية العميقة لجزء واسع من التاريخ الخطابي الثقافي العراقي بمنهجية حديثة، توفرت على جماليات البحث الرصين.

محمد غازي الأخرس: باحث عراقي (1967) حاصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الفرنسية. وشهادة الماجستير في الأدب العربي. له كتب تناولت الواقع الثقافي العراقي أهمها "خريف المثقف في العراق" و"المكاريد" و"دفاتر خردة فروش" و"قَصّخون الغَرَام"، كما أن له رواية واحدة هي "ليلة المعاطف الرئاسية". كتابه "جحيم المثقف.. الثقافة والأيديولوجيا في العراق 1945-1980" صدر عن دار نشر نابو بغداد، 2021

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.