}
عروض

"معرفة الصورة...": حفرٌ في تربة الفكر البصريّ

أشرف الحساني

13 يناير 2023


بعد "الخطاب السينمائي: بين الكتابة والتأويل" (1988) و"الصورة والمعنى: السينما والتفكير بالفعل" (2019) يتحفنا الباحث المغربي محمد نور الدين أفاية بكتاب جديد "معرفة الصورة: في الفكر البصري، المتخيّل، والسينما" (المركز الثقافي للكتاب، 2021) مُوجّهًا رسالة فكرية إلى المشهد السينمائي العربي، على أساس أنّ السينما تتعدّى كونها مجرّد فنّ جماهيري أو وسيلة ترفيهية معاصرة، لما تُضمره في طيّاتها من صناعة فكريّة تُطوّع المتن السينمائي وتجعله مُختبرًا للكتابة والتفكير والحلم. فالسينما المعاصرة ذات طابعٍ تركيبي تختزن الكثير من الإدراكات والدلالات والرموز والصُوَر القادرة على تغيير نظرة الكائن إلى ذاته والعالم الذي يحيط به.

والحقيقة أن كتاب "معرفة الصورة" لا يخرج في تشكّلاته الفكرية عن النّمط الذي يقيم فيه المؤلّف منذ ثمانينيات القرن المنصرم، طالما ينظر إلى الفيلم عمومًا، بوصفه ظاهرة سينمائية. وهذا أمر هام جدًا في فهم النّسق الذي به يشتغل محمّد نور الدين أفاية وعليه يقيم متنًا فكريًا جادًا تكثر فيه السياقات التاريخية والمفاهيم الفلسفية ويتداخل فيه التاريخي بالفلسفي. فهذا الأخير، يستحوذ على معالم وفصول الكتاب ويُوجّه فعل الكتابة صوب مفاهيم تتعلق بـ"المسألة البصرية" و"الإدراك" و"المتخيّل"، حيث تتلاحم فيما بينها مشكّلة ترسانة فلسفية لمقاربة السينما وتحوّلاتها التقنية على مدار نصف قرن من اهتمام الفكر الفرنسي بها.

إنّ ما ينبغي التأكيد عليه أنّ كتاب "معرفة الصورة" ليس استكمالًا لكتاب "الصورة والمعنى" كما روّجت لذلك بعض الصحف، فهو يختلف عنه كليًا ومن جميع النواحي المعرفية. فالأوّل بحثٌ نظري في المتخيّل البصري وفي مفهوم الإدراك وتمثلاته داخل مشاريع فلسفية لدى كل من ميرلوبونتي وبرغسون وسيرغيه إيزنشتاين وأندريه بازان وجيل دولوز. من خلال الوقوف عند أسس إبستمولوجية رافقت تشكل مفهوم الإدراك داخل التراث الفلسفي. ومع ذلك فإن المفهوم الذي يستند عليه أفاية، يخدم الثقافة بمفهومها المركّب (إدوارد تايلر). لأنها تساهم ضمنيًا في صياغته وبلورة دلالاته النفسية. هذا الأمر، هو ما جعل ميرلوبونتي يعتبر بأن الثقافة أضحت بمثابة مفهوم يُدرَك.

لكن صاحب "صور الوجود: في السينما والفلسفة" لا يقف عند هذا الحد، بل يقوده حدسه الفكري إلى التوغّل أكثر في تشريح المفهوم واجتراح أفق آخر لما سمّاه بـ "الإدراك البصريّ" الذي سيجعل منه بوصلة فلسفية وبراديغمًا فكريًا للحفر عميقًا في آليات وميكانيزمات تشكّل مسار الوعي البصريّ. لذلك يعتبر أفاية أنّ السينما هي المختبر الحقيقي لبلورة إدراكاتنا البصرية، إذْ منه تنبثق الأفكار والصُوَر والأحلام والرؤى والمواقف، باعتبار أنّ السينما في تمظهراتها التقنية تُقدم لنا العالم بشكل شذري يقوم على الرمز والإضمار والتكثيف، حيث الصورة تقيم في شرودها الفكري وغُموضها الرمزي للقبض عن فيزيونومية للعالم وتحويلها إلى متخيّل رمزي. وهنا يتدخّل اللاوعي مُمارسًا لعبته الآسرة في تغيير حقائق الصوَر ومعها صورة الواقع العيني المباشر. إذْ يغدو النظام الفكري محمّلًا بسيل من السيمولاكر وركام الإكليشيهات البصريّة، التي لا تزيد الصورة إلا غموضًا. على هذا الأساس، يقترح أفاية أكثر من مرة بأن تفكيك أنطولوجية الصورة يخضع بالأساس إلى شروط تاريخية تختلف حسب مقاييس وشروط ومواضعات تمركز الصور في وجدان المُشاهد. فالصورة السينمائية خاضعة إلى سياق تاريخي كرونولوجي، كلما اقتطعت صورة واحدة، فإنّها تُخلّ بنظام بناء المَشهد ويصعب تركيبه بغياب تلك الصورة/ السند. إنّها تظلّ ضائعة ومجهولة المصدر الأيقونيّ الذي ساهم في بروزها وتغلغلها داخل المشهد البصريّ ونسيج البنيوي.




أما كتابه الثاني، فكان عبارة عن استشكال قضايا أخرى، تتعلق بالوجود والصورة والجسد والتحرر والمرأة والذاكرة والتاريخ داخل المنجزين السينمائيين الغربي والعربي. وفيه أعطى الأستاذ أفاية أهمية كبرى لتشريح الأفلام السينمائية ومنطلقاتها المفاهيمية والفلسفية والجمالية. بما جعل عملية الكتابة تمزج بين النفس الفلسفي التجريدي والهمّ النقدي المُستند على تفكيك الأفلام وسياقاتها وتوثيقها وأرشفتها. ولأنّ "معرفة الصورة" كتابةٌ تغوص بشكل هوسي في المجرّد الفلسفي، بدل الإقامة في تخوم النقد السينمائي، فإن ذلك، انعكس بشكل مُضمر على مفهوم الكتابة. حيث بدت داخل الفصول الأولى وكأنها تُقيّد الأستاذ أفاية داخل قوقعة موريس ميرلوبونتي شكلًا ونسقًا وتفكيرًا. لكن مع توالي الفصول وتحرّر أفاية من المداخل النظرية، التي صاغت وبلورت مفهوم الإدراك داخل المنجز الفلسفي الغربي، يُطلق الباحث العنان لمُخيّلته الفكرية وترسانته المفاهيمية، مُعيدًا ابتكار سياقات جديدة للإدراك البصريّ بطريقة تجعله يتحرّر تدريجيًا ونهائيًا من المتن الفلسفي. إذْ يصبح خط الكتابة أكثر وضوحًا في ذهن القارئ. وفيه تتبدّى مجهودات الباحث في تأصيل الذائقة الجمالية واجتراح مشروعٍ فكري يستند على السينما ومُتخيّلها.

يحظى أفاية باحترام كبير داخل عشاق الفنّ السابع بالمغرب. لا لأنه من أوائل النقاد الذين انشغلوا بالهمّ السينمائي داخل "الجامعة الوطنية للأندية السينمائية"، أو لكونه ينتمي إلى رعيل من المفكّرين المغاربة، الذين انشغلوا بالفكر العربي المعاصر مثل عبد الإله بلقزيز وموليم العروسي وعبد السلام بنعبد العالي وغيرهم، إنما أيضًا لأنه يبقى الوحيد بين المفكرين المغاربة عناية بمفهوم الصورة السينمائية إلى جانب الراحل نور الدين الصايل. إذْ حتى بذهابه إلى أنماط أخرى من الكتابة الفكرية في موضوعات أخرى تتعلّق بالغرب والنقد والنهضة والمتخيّل والفضاء العمومي، تظلّ السينما تشغل الباحث، على خلفية كونها من أبرز وسائط ودعائم إرساء الحداثة داخل البلاد العربيّة.

وفي الوقت الذي يقتصر فيه نظر النقاد المغاربة إلى الفيلم، باعتباره روحًا مُستقلّة عن الجسد وكافة أعضائه، يُعمّق أفاية نظرته في البناء الإبستمولوجي لبناء الفعل السينمائي، كنتاج لسياقات تاريخية وعوامل فكرية ووجدانية. إنه يبني المفهوم لا من داخل الفيلم نفسه، وإنما من السياقات البرانية، التي تؤثر ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا في نظام الفيلم. لكنّ عملية القبض على هسيس صوره السينمائية، تبقى ذات علاقة بتمثلاتنا ونظرتنا إلى مفهوم السينما نفسه.

من ثمّ يتدخل مفهوم "الإدراك البصري" وينزع عن العقل صرامة الديكارتية الجامدة وميثولوجياتها ويصوغ مفهومًا جديدًا للذوق الجمالي، حيث يُعطي أفاية في كتاب "معرفة الصورة" قيمة أكبر لمفهوم "الحساسية" كما بلورها إيمانويل كانط في تمثله للذائقة الجمالية التي تشكّل طريقًا لتحرر الصورة وجعلها تمتطي سيرة اللامرئي.

ينتمي كتاب "معرفة الصورة" إلى فلسفة الصورة، سينمائيًا وفوتوغرافيًا وتشكيليًا، هذا المجال البكر الذي لم ينشغل به المفكرون العرب، مقارنة بالفكر الفرنسي المعاصر مع كل من ميرلوبونتي وجيل دولوز وريجيس دوبريه ومارك فيرو ورولان بارت وناتالي إينيك عبر زوايا نظر مختلفة المنطلقات ومتنوعة المقاربات. لكنّها تبقى ذات دلالات غنية تقود إلى إبراز المكانة المركزية، التي غدت تحتلها الصورة في نظام المعرفة المعاصرة. فقد غيّرت الكثير من أنماط تلقّي المعارف والفنون، وأضحت تلعب دورًا بارزًا في تشكيل النخب الثقافيّة والتأثير على العقول وصياغة الوقائع الاستراتيجية السياسية والاجتماعية داخل العالم. في حين أن الاهتمام بها عربيًا ظلّ مُغيّبًا من لدن الاهتمامات الأكاديميّة. أوّلًا بسبب صعوبة تملّك براديغم الصورة ودلالتها وتاريخيتها وقواعدها وميكانيزماتها وفلسفتها. وهو أمر يعود أساسًا إلى زئبقية المفهوم وتحوّلاته الإبستمولوجية الدائمة، التي يشهدها بشكلٍ دائم بخاصة على المستوى السينمائي، حيث الصورة (المتحركة) سريعة التبدل والانتشار، ما يصعب عملية أو محاولة القبض على بريقها الفكري المُنفتح بقوّة على التجريب الفنّي.

أما الجانب الثاني، فله دلالات أنثروبولوجية عميقة في طبقات الثقافة العربية والعداء التاريخي الذي ظلت تُكنّه لمفهوم "الصورة" في علاقتها بعملية التجسيد منذ فترة العصر الوسيط وقبلها بقليل. كلّ هذا في مقابل إعطاء قيمة أكبر لكل ما هو كتابي وشفهي من شعر وقصة ورواية. فهذا المنع التراجيدي الذي رافقها من لدن الفقهاء، ساهم بشكلٍ مُضمر في تغريبها وتهميشها كمجال حيوي قادر على إنتاج مشروع فكري عربي ينبني على الصورة ومتخيّلها داخل سياق التاريخ العربي. فحجم الكهوف واللقى الأثرية والكتابات المنقوشة والمعالم العمرانية، تؤكد السطوة المعرفية التي مارستها الصورة على مخيّلة الإنسان القديم والذي قاده سحرها منذ مرحلة ما قبل التاريخ إلى الرسم على جدران الكهوف والمعابد والنقائش الصخرية وتدوين يومياته الصعبة مع تقلبّات الطبيعة ومناخها وكائناتها.

لم يفكر مفكّرو العصر الوسيط في أهميّة الصورة، وإمكانيّة أنّ تتحوّل إلى مفهوم فكري نظري يُشيّد عليه الفكر العربي المعاصر كما يرصد أفاية ذلك في كتابه الجديد، وذلك في مقابل إمكانية كتابة تاريخ جديد للبلد، انطلاقًا من براديغم الصورة ومكبوتها الرمزي. لكون الصورة حمالة أوجه، فهي لا تكتفي برصد الأشياء الرسمية من التاريخ، وإنّما تحفر في تربة وطبقات التاريخ المنسي وإعادة إبرازه إلى السطح وفق ميكانيزمات تخييلية وفنية وجماليّة بحيث تهتم بالمهمّش والعابر والمنسي في سيرة الوجود الإنساني على الأرض. لذلك يعتبر أفاية أنّ السينما تبقى أهم فنون الصورة قدرة على رصد الوقائع والظواهر. مع أن السينما، لم تكُن بإمكانها أنْ تحقق هذه الملاذات الجماليّة والفكرية، بمنأى عن الطفرة التكنولوجية التي شهدتها منذ منتصف القرن العشرين. وهو ما يجعل مفاهيمها صعبة القبض ودائمة التحوّل والاشتباك مع قضايا الوجود والهوية والرمز والتاريخ والذاكرة. ففي الدقيقة الواحدة يُمكن للسينما أنُ تبلور أكثر من مفهوم للذاكرة، لأنّ كلّ صورة تُحيل إلى تاريخها وذاكرتها وحقيقتها ووجودها، لا باعتبارها سيرورة مُكوّنة من الصورة الأصل، وإنّما بوصفها نظامًا من الرموز العصيّة على الانتماء وسهلة التلاشي والذوبان والإمحاء.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.