}
عروض

وباء الأوبئة في رواية "كايميرا 19"

نبيل سليمان

15 يناير 2023




من الروايات ما يَتَعَنْوَنُ باسم مرض نادر، ومنه وبه تقوم لعبة الرواية، وتكون لها قضيتها، كما فعل إبراهيم الجبين في روايته (عين الشرق ـ 2016)، التي جعل لها عنوانًا ثانيًا هو: (هايبرثيميسيا 21). والهايبرثيميسيا مرض لا يفتأ المبتلى به يتذكر تفاصيل ما عاش ويعيش، حيث تحكمه متلازمة فرط الاستذكار، ويكابد من ذاكرته الخارقة. وقد ذكر الجبين أن من أصابهم هذا المرض المكتشف في بداية هذه الألفية عشرون، وقد يكون هو الحادي والعشرين، لكن ثمة من ضاعف عدد المرضى إلى واحد وستين مريضًا، وربما أكثر.
أما الرواية التي يتعلق بها القول هنا فهي رواية سميحة خريس "كايميرا 19" (الآن ناشرون وموزعون، 2022). وهذا العنوان هو اسم مرض اكتشفت الحالة الأولى منه عام 2002، وكانت لكارين كيغان، التي لا يمكن أن تكون جينيًا أمًا لأطفالها، فلماذا؟
تصيب الكايميرا الإنسان والحيوان والنبات. ويحمل الإنسان المصاب بها دمًا من فصيلتين مختلفتين. إنه (توأمان) أصبحا واحدًا جّراء ابتلاع بويضة لأخرى، فشكلت بويضة واحدة ستصير جنينًا كانت جيناته لشخصين، كان يُفترض أنهما توأمان غير متطابقين. وقد ترى المريض بالكايميرا بفتحتي أنف، أو بعينين، حتى ليحق السؤال هل لهذا المريض روح واحدة، أم روحان؟
في إلياذة هوميروس، كايميرا وحش من صلب تايفوس الذي امتلك مئة رأس ثعبان، وإيكيدنا التي من نصف امرأة ونصف ثعبان. وقد طلب الملك أيوباتس من البطل بيليرفون القضاء على كايميرا الذي حرق جنوب الأناضول. وانتصر البطل بعون من الحصان المجنح بيغاسوس، وقتل كايميرا الذي نزف دمًا أخضر.
تلاعب سميحة خريس في روايتها "كايميرا 19" هذه الأسطورة، فإذا ببطل الرواية أوس البيرق مصابًا بالمرض العجيب، وهو يقصد لندن للعلاج. ويشرح الدكتور إيرفينغ للمريض أن ما به ليس مرضًا، بل حالة تكثر في الحيوانات، وتندر في البشر. وهذا الاسم (كايميرا) قادم من الأسطورة، وقد ظهر في الإلياذة مخلوقًا لا يقهر، من سلالة الخالدين، ترسله الآلهة ليحارب مع من اصطفتهم. وللكايميرا "رأس أسد، وجسد عنز، ومؤخرة أفعى، تنخر زفيرًا مرعبًا ونيرانًا كالبراكين، ولا يمكن الاقتراب منها". ويضيف الطبيب أن كايميرا هي في الأسطورة اتحاد مخلوقات كثيرة معًا. وأن أوس البيرق حالة غريبة، فهو مزيج مذهل من الجينات البشرية والحيوانية، وهذا لن يؤثر في حياته وصحته، وإذا كان أوس يشكو من أنه لم ينجب، فلا علاقة لعلّة كايميرا بالإنجاب، وما لدى أوس هو نقص بسيط في الحيوانات المنوية، سيعالج. لكن وعي أوس لذاته يجزم بأنه كايميرا: وحش خرافي بلا أصول، وأنه توليفة للبشر. وفي وعي أوس للعالم كله أنه قطيع كايميرا، منافق وكاذب.




عاد أوس من رحلته العلاجية اللندنية إلى المحجر الإجباري الذي فرضه وباء كورونا. وإذا كان الناس، ومنهم رجاء زوجة أوس، يجزمون أنه ما من شيء سيبقى بعد كورونا كما كان، فأوس يذهب أبعد: "لقد انهار العالم كله". والعالم الذي نعرفه يتفكك وينزلق من بين أذرعنا. ولعل الأجدر أن يفنى. وأخيرًا، في ختام الرواية، يتوحد الكايميرا بكورونا لتنفجر أسئلة أوس: "ماذا ستفعلون بهلعكم حين تتساقطون وتتناهشون وتدمرون معابدكم فوق رؤوسكم؟ حين تكتشفون السيد كايميرا يعيش بين ضلوع كل واحد منكم سيدًا قادرًا مطاعًا؟". أما هو، أوس البيرق ففي 1/ 5/ 2020 والهلال ابن ثمانية: "انتشر صوتي الشجي مرددًا صدى يعم الآذان، رفعت رأسي عاليًا أوووووووو".
بين وصول أوس إلى لندن للعلاج، وعودته إلى المحجر على البحر الميت، تنساب رواية سميحة خريس (كايميرا 19) نهرًا من الذكريات، توقفه لحظات من الحاضر العلاجي، أو المحجري. وقد بلغ ذلك بأوس أن هجس بأن الذكريات توهت جسده وذهنه. وبالطبع عبر ذلك يصبح الماضي هو زمن الرواية الأكبر، ابتداءً من طفولة أوس في الخيمة: مغرم بقتل القطط والكلاب، وتخشاه الشياه والغنم، وتفقد خيل شيخ العشيرة أبو كايد رشدها حين يقترب أوس من الإسطبل. وفي المدرسة ينتبذ الآخرين وحيدًا مقابل عصبة التلاميذ حول كايد ابن الشيخ، فلجأ إلى الكتب إلى أن حل تفوقه أمام زملائه محل السخرية منه. أما الأساتذة فقد ظلوا يفضلون ابن الشيخ الذي حضّ والد أوس (صباب القهوة في مضافة الشيخ)، على أن يعلم ابنه: "شايف الديمقراطية اللي بقولوا عليها، بكرا غير تقلب عاليها واطيها، إي إحنا الشيوخ لو ما تعلموا ولادنا بننداس من أولاد الرعيان والفلاحين اللي بيحملوا شهادات". لكن صوتهما كان ينخر جلد أوس، فكرههما، وهو من شبه أباه بتيس عجوز هزيل، وشبه وجه أمه بالسنجاب المذعور.
حين نجح أوس وكايد في الثانوية، غار هذا التيس من إرسال الشيخ لابنه إلى لندن، ووقف الموقف الشجاع الوحيد بزعم أوس الذي يروي الرواية بضمير المتكلم، ومن ذلك أن والد "هذا الخانع" انكشف عن إقطاعي، فباع أرضه ليرسل ابنه إلى لندن "سيعود من هناك رجلًا"، وأوس يعقب وهو يسترجع ذلك أن لا بد من لندن لتكتمل رجولته. وهو ابتداءً من هذا المفصل اللندني الحاكم سينتقل بالولاية إلى فضاء الروايات العربية التي تمحورت على وعي الذات والآخر (الفرنسي، أو الإنكليزي، أو ...)، بالأحرى: وعي الذات العالم.
في بدايته اللندنية، نزل ابن صباب القهوة عند ابن الشيخ، لكنه أسرع بالفرار من الضيافة الموجعة إلى السكن الطلابي، وقد فقد حرية ابن الخيمة مذعورًا. ومن لحظة السرد الراهنة (الحاضر) يعبر أوس عما عاناه منذ بدأت كلاب لندن تلاحقه بعوائها حتى يختفي، ومنذ أخذ انتباه الناس له يزعجه، فالكايميرا التي تسكنه جعلته هذا الذي تنفر الكائنات منه.
وهو يعبر عن ذلك بأن الصدمة الحضارية بالإمبراطورية التي استعمرت بلاده، والتي وقر في باله أنها رافعة الحضارة، قد ابتلعته. وأوس يصف لندن منذ لقائه الأول بها بالمدينة الغامضة والمبهمة، المدينة الكئيبة الغارقة في الضباب، المدينة المثخنة بماضيها وحاضرها، ذات المذاق الدبق البارد المرّ التي يكرهها ويتمناها ركامًا على ركام.
يتساءل أوس عما يجعله يشعر بالضآلة وهو الطالب في كلية لندن التي انضمت حديثًا إلى جامعة لندن، وخرّجت كثيرين ممن حملوا نوبل. ويعي أوس أن حياته قبل لندن تركت في روحه ندوبًا بحجم القمر: إنه إرث الكراهية كما يعبر، فهو يكره عمان كما يكره لندن. ومن ذلك الزمن البعيد إلى الحاضر في فندق سافوي تبدو لندن مشهدًا يُحتضر كأنها مخلفات التاريخ، وليست سيولته كما يراها أستاذ التاريخ البريطاني جون بيرنز. وعلى سنن رواية (الشرق والغرب)، أو (الرواية الحضارية)، أو التجنيس الروائي لذلك، كما استنّها جورج طرابيشي، تمضي رواية (كايميرا 19)، بلقاء زملاء وزميلات الدراسة، ناظم العراقي، وساندي، وهو وجولي التي تحول معها إلى رجل متمدن لأجلها، بينما ما كان ينشد الجنس إلا في دور المتعة مشترطًا ألا تكون المرأة عربية. ولأنه لا يريد صداعًا، ولا حبًا، لا يعاشر امرأة مرتين إلى أن جاءت جولي تؤنسن من يمنح كل ما يراه صفة حيوانية، وهوايته هي أن يتتبع الشبه بين البشر والحيوانات، وينظر إلى نفسه على أنه "جمع من الحيوانات، والأجدر بالتتويج". وقد أدارت جولي له أخيرًا ظهرًا.




يروي أوس أنه قضى عمره في لندن منشغلًا بالصوت المزعج لفناجين والده صباب القهوة، وبسخرية أقرانه الصغار في المدرسة. لم تشغله السياسة "كنت أبيض تمامًا إذا تعلق الأمر بالسياسة"، بينما آمن أن المجد للاقتصاد، وما عداه نافل. وكأنما قد هيأه ذلك إلى المضي مع زميله عبد الكريم الأفغاني في توزيع المخدرات بين الطلبة، ولكن من دون أن يهمل الدراسة. وقد دبر له الأفغاني جواز سفر إماراتي باسم حمدان، وأضاف توزيع السلاح إلى المخدرات، لكنه ظل حازمًا: "لم آت لأكون حمدان، بل لأعتني بأوس". فلما عاد إلى البلاد، وأخذ يبحث عن غسل أمواله، أمعن في السرية والتنكر، غير عابئ باسم عشيرته، وإن كان يستخدم الاسم وقت الحاجة.
من قبل، ولإضاءة شخصية بطلنا، تحضر شخصية الدكتور ريتشارد سينيث، أستاذ أوس المولع بالحديث عن طفولته الفقيرة في شيكاغو. وفي الرواية حوار فذ بين الأستاذ والطالب المعارض لآرائه. وإذا كان الأستاذ يخاطب طالبه: "روحك برية، كأنك راغب في معاداة الجميع"، فأوس سيعي أنه صورة لبدوي بسيط غيّر مستقبله بعلمه، وسيصف نفسه بأنه انتحاري يسعى إلى الانفجار الكبير. ولئن كان الحداثيون مغرمين بتعبير السيلان، فهو قد خبر سيلان الأسباب على النتائج، والمتشابهات على الأضداد.
من حمدان يتحول أوس البيرق في بلاده إلى حمدانات، كلما لاح له طيف صفقة ما، وقد أقام في مأدبا مصنعًا للشوكولا ليس غير غطاء لصاحبه الذي يبدأ الرواية في مطار الملكة علياء في عمان، معلنًا أنه غير معني بكوفيد التاسع عشر، وأنه يكره الأجهزة الذكية، ويخدعها، ويطير بأسماء مختلفة، ويضع عدسات لاصقة ليخدع بصمة العين. ويحدث أنه خرج برزم الهيروين عبر مطار بيروت، ويبرم اتفاقيات في إسطنبول لتوريد الأسلحة إلى جماعة متمردة، بينما يشرف على استيراد الكاكاو من كوالالامبور من أجل مصنعه الصغير. أما كايد فقد غدا محاميًا كبيرًا في عمّان. وفي عرسه يؤخذ أوس بمن سيصادفها بعد حين في العقبة، فيتزوجها، وينتزع أباها المحامي من مكتب كايد.
تبرع الرواية بالسخرية في رسم شخصية هذا المحامي وابنته رجاء التي تتعجل الانتساب إلى عالم الأثرياء في عبدون من عمان، وإذا كان رسم الشخصيات يأتي كذلك، فهو يتّقد ويتألق في رسم شخصية أوس ذي العينين اللتين لكل منهما لونها.
ويتتوج في ذلك وعي الذات عبر تطور الشخصية وتبدلاتها وأطوارها. فبعد الطفولة والنشأة التي رأيناها، هوذا أوس يحمي فرادته وفردانيته، لا تغريه شهوة السياسة ولا سعادة المال، يخشى أن يبدو فاحش الثراء، ولم تصبه لوثة استعراض ثرائه كما أصابت كايد. إنه يورد السلاح إلى ميليشيات وفدائيين ليسوا غير أوباش متعصبين وعصابات صغيرة، لا يعنيه لون راياتهم ولا شعاراتهم. ولا يحمّل نفسه إثمًا، فإذا لم يقم هو بكل ذلك فسوف يقوم به غيره. ولأوس البيرق أسلوبه في التحري عن كل من يعمل معه، من الخادمة والعاملات في المصنع إلى القتلة المأجورين التابعين لدول، إلى المتنفذين في صفقات السلاح. ولأوس أسلوبه الخاص في اختيار المهمشين المنسيين، يُعمِل حواسه مثل حيوان في غابة، وله حاسة شم مثل خلد شرير، يعامل الناس بالشك وبالمنطق، ويقدم حدسه ومصلحته.
لقد تشظى حمدان الإماراتي إلى رستم الإيراني، وطوني اللبناني، وحيدر السوري، وجهاد الفلسطيني. لكنه لا يوسخ بيته بكل الذين يكونهم في عمان، كأن أوس الأردني غير مرئي البتة بينهم. وهذا المعجب بنزاهته وحمايته لعائلته، ومرق من ثقوب الشبكة العالمية كجرذ ذكي، يقول: "راوغت أميركا وروسيا وتركيا وإيران وإسرائيل، ألست كبيرًا؟ ألست عظيمًا؟".
في الجنس المشبوب مع رجاء بدأت تبدلات أوس، فالقلق يقضم روحه، وهي حزينة تتمنى الحمل. لكنه يتساءل عما سيفعله طفل في زمن الخوف والكراهية والحروب والمؤامرات، لذلك تراجع إلى الهامش، بينما يتسع سوق المخدرات، كأن حربًا وقعت، أبطالها تجار المخدرات وأنظمة سياسية ودول كبيرة وصغيرة، وأوس لا يريد أن يكون طرفًا فيها، ليس عفة، بل لأن السأم اجتاحه بعنف.
يأتي هذا المآل الأخير لأوس بينما تجتاح حركات الاحتجاج العواصم العربية الساكنة. وتعتور الرواية هنا ملخصات سردية لسنوات ما يصفه أوس بجنون الربيع العربي، حين رقصت الشعوب في الميادين، بينما ينتظر هو فرصته ليمرق بين أفراحها. وسواء في هذه النهاية، أم في كثير سبقها، تبدو الرواية كأنها ترسل أشعتها/ دلالاتها، فإذا بالكايميرا هي كورونا، وإذا بهما، كما هو أوس البيرق، تشوهات الطبيعة والجسد والفرد والجماعة، في منجز فني بديع تضيفه سميحة خريس إلى تجربتها الروائية المميزة الكبيرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.