قد يُصنّف كتاب "التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور" للدكتور مصطفى حجازي (المركز الثقافي العربي، بيروت، طبعة 2016)، ضمن علم اجتماع الفضائح، والذي يعرّي ما يعتمل في باطن إنسان المجتمعات النامية من غصص وقهر وكبت، وهو متوارٍ تحت أعراف وقوانين وشرائع دينية وألوان من قيود أخرى ما أنزل الله بها من سلطان. إنه الواقع لا محالة! فالمجتمعات الشرقية تعيش في استسلام شبه متناهٍ وهي ترزح تحت سطوة إقطاعية مستبدة تربّعت على عرشها زمرة من طغاة تستفرد بالقضاء والقدر كآلهة شر، ويخضع الأفراد لجبروتها خانعين كأمة من المقهورين، قد أبلسوا من رحمتها، لا حول لهم في ذلك ولا قوة. بيد أن المعضلة لا تكمن في الغفلة عن تناول التخلف بالبحث والدراسة من جانب التنمويين، ولا في تجاهل الساسة عن الوجود الفريد لهكذا نمط إنساني له تفاعلاته العقلية والنفسية، بل في التأثير الفعّال للإنسان المتخلف ذاته نحو تعزيز هذه الصيرورة وترسيخ أركانها ومقاومة أي بادرة نحو التغيير، في إصراره بالمحافظة على توازنه النفسي الذي أصلّت له في الأساس تنشئة بيئة اجتماعية يسودها التخلف، تشترك فيها قوى طبيعية غيبية في بسط ممارساتها الاعتباطية عليه وتشكيل الطابع العام لتركيبته النفسية، وقد أضافت له قهرًا مضاعفًا.
وبينما يعرّف د. حجازي كتابه بأنه (مدخل)، فهو يأتي بمثابة مبحث متكامل يتعرّض فيه بموضوعية إلى تسع مسائل يحدد من خلالها المشكلة والحجة والأعمال المقترحة، تسترسل من خلال قسمين رئيسيين؛ الأول: الملامح النفسية للوجود المتخلف، وفيه يتطرق إلى تحديد وتعريف السيكولوجية المتخلّفة ضمن إطارها النظري، لينتقل إلى سرد الخصائص النفسية للتخلّف ووصف العقلية المتخلّفة والحياة اللاواعية التي تُعد أحد سماتها. الثاني: الأساليب الدفاعية، ويتعرّض فيه إلى الأشكال المتعددة التي تتخذها، وتظهر أساسًا في: الانكفاء على الذات، التماهي بالمتسلط، السيطرة الخرافية على المصير، العنف، ثم وضعية المرأة التي تظهر أشدها وضوحًا وبؤسًا.
د. مصطفى حجازي لبناني عالم نفس وأستاذ أكاديمي حاصل على درجة الدكتوراه في علم النفس من جامعة ليون في فرنسا، وله العديد من الأبحاث العلمية، وقد بدأ إصداراته الفكرية بالكتاب الذي بين أيدينا عام 1981، وهو الكتاب الذي لا يزال محط اهتمام ونقاش ومراجعة المهتمين حتى الوقت الحالي. وله في نفس الحقل كتاب العصبيات وآفاتها: هدر الأوطان واستلاب الإنسان وكتاب الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الرابعة عشرة للكتاب الصادرة عام 2016 عن المركز الثقافي العربي في بيروت، والتي أعرض من خلالها أبرز ما جاء في مآزق الإنسان المقهور، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي: على الرغم من تسليط الضوء على الفئة الأكثر قهرًا في المجتمع المتخلف تحت سلّم السطوة والخضوع، يعتقد د. حجازي أن الفئة التي تبدو أكثر حظًا لا تخلو أيضًا من قهر، مع اختلاف درجة الحدّة. يقول: "فبينما يتماهى الفلاح بسيده ويشعر بالدونية تجاهه، نرى السيد يتماهى بدوره بالمستعمر أو الرأسمالي الأوروبي ويشعر بالدونية نفسها تجاهه". ثم يتطرق وهو يتحدث عن التخلف العقلي إلى طابع "الخصاء الذهني" الذي يتلبّس الإنسان المتخلف اجتماعيًا كحالة ضعف عقلية زائفة. ففي حين يتشكّل هذا الخصاء عمومًا كعجز عن تأكيد الذات أمام العالم في هيئة مقاومة الفهم، يأتي هذا الخصاء اجتماعيًا في هيئة رضوخ الإنسان المتخلف لأساطير قوى الطبيعة وسطوة أصحاب السلطة، فيبدو المتخلف دائم التردد في الاقبال على أمر ما خشية الفشل، أو قد يصرّح بعدم قدرته عليه قبل بذل أي محاولة، بل قد يشطّ البعض ويصدر أحكامًا تعسفية على هذا الأمر متبجحًا بموهبته السريعة على الفهم. ويقول: "يتذبذب الإنسان المتخلف ما بين الشعور الشديد بالعجز عن استيعاب العالم، وبين طغيان مشاعر السيطرة على الواقع من خلال الحذق (الفهلوة) الذي يعتدّ به الجمهور كوسيلة مفضلة للفهم".
ومن ملامح المجتمع المتخلف ما يطلق عليه د. حجازي بـ "التوتر الوجودي العام"، حيث الاستنفار النفسي العام لأي صراع محتمل! إذ ما يلبث اثنان أن يتحاورا حتى يختلفا في وجهات النظر، لتحلّ السباب وشتائم الأعراض محل الجدال الموضوعي، وحيث تطغى العاطفة الانفعالية على كل ملكات النقد والمنطق والعقلانية. يستزيد فيقول: "وأحيانًا ينفذ التهديد باستخدام العضلات أو السلاح بسهولة مذهلة في فورة غضب. ذلك أن هناك إحساسًا دفينًا بانعدام فعالية اللغة اللفظية وأسلوب الاقناع، فيتحول الأمر بسرعة إلى الحسم السحري (العضلي أو الناري) من خلال الإخضاع". يؤمن الإنسان المقهور بطغيان قوى خارقة للطبيعة تتلاعب في مصيره، كتلبّس الأرواح والجن والعفاريت، وتحكّمها في فرص الخطوبة والزواج والعلاقة الجنسية والإنجاب، بالإضافة إلى إصابات العين القاتلة وطاقة الحسد وغيرها من شرور الماورائيات. لذا، يسعى هذا الإنسان جاهدًا إلى اتخاذ ما يلزم من تدابير وطقوس تكفيه شرورها وتضمن له نوعًا من التحكم في مصيره، كالاستعانة بخدّام المقامات وتحضير جلسات الزار، وتخبئة المولود، وإخفاء الأثاث، والتكتم على حجم الثروة، وإفساد كل مظهر جميل. يخلص د. حجازي بقوله: "ليس هناك إذًا أكثر تضليلًا من إلقاء المسؤولية على الكائنات الخفية ثم البحث عن ذلك الحل من خلال مختلف ضروب الشعوذة".
أما عن المرأة في المجتمعات المتخلفة، فقد تحدّث د. حجازي عنها ولم يتملّكه حرج، فهي أفصح النماذج تعبيرًا عن الوجود الإنساني المتخلف في كافة أوجهه، لا سيما في عجزه ونقصه وتبعيته ورجعية تفكيره، والذي يظهر جليًا في تغلّب عاطفة المرأة وإنكار ذاتها وإحلال الخرافات محل التفكير الجدلي. تظهر المرأة عادة بين نقيضين، حيث تتفاوت مكانتها لدى الرجل في المجتمع المتخلف: "بين أقصى الارتفاع: (الكائن الثمين، مركز الشرف الذاتي، رمز الصفاء البشري الذي يبدو في الأمومة)، وبين أقصى حالات التبخيس: (المرأة العورة، المرأة رمز العيب والضعف، المرأة القاصر، الجاهلة، المرأة رمز الخصاء، المرأة الأداة التي يمتلكها الرجل مستخدمًا إياها لمنافعه المتعددة)". يستطرد ويقول: "في الحالتين تُستخدم المرأة كوسيلة للتعويض عن المهانة التي يلقاها الرجل المقهور اجتماعيًا، وللتعويض عن قصوره اللاواعي بإسقاطه على المرأة". وهي في العادة محل ترقيع لذلك الخرق الإنساني. فيقول: "كلما كان الرجل أكثر غبنًا في مكانته الاجتماعية، مارس قهرًا أكبر على المرأة".
إن المرأة في تكوينها البيولوجي كأنثى لا تختلف عن الذكر، بل إن تكوينها هو الأكثر متانة ومناعة، غير أن التبخيس الجسدي في لغته وحركته أدى إلى ارتداد طاقته داخليًا على شكل مازوشية، تفجّر فيها المرأة عدوانها على ذاتها، والذي قد ينطلق خارجيًا على هيئة ممارسات تشي بالحقد والحسد والكيد والدسيسة. تظهر هذه المرأة كذلك حبيسة المنزل، كصورة من صور حرمان التعاطي مع واقع المجتمع الذي يزخر بفرص التدريب الإنساني الحي، فضلًا عن التجهيل المتعمد الذي يسمح بتسلّط الخرافة على حساب تنمية ملكة التفكير لديها، والتصرف بحكمة وعقلانية. إنها أيضًا في المجتمع العشائري جسد يُقتل بالمصاهرة والإنجاب، وعقل يذهب طي النسيان.
أخيرًا، إنه كتاب قد يواجه فيه أحدنا نفسه وقبل الجميع رزايا قهره وضعفه وخنوعه وتخلفه بموروثه الاجتماعي المسموم، غير أن أشدنا بؤسًا هو حقيقة ذلك المغبون الذي تجرّع السموم كعدل وحق مستحق وما علم أنها فُرضت عليه قسرًا وجورًا، فبات إنسانًا مقهورًا من حيث لا يدري!
(قطر)