}
عروض

طبّاخو الديكتاتور: "قد ينهض الوحش من النوم ويقتلنا"!

وارد بدر السالم

26 يناير 2023




"لقد أصبحتُ أعرف تاريخ القرن العشرين كما يمكن النظر إليه من المطبخ"- ويتولد زابلوفسكي.

***

وصفته صحيفة واشنطن بوست بأنه كتاب "مبهر" وناشيونال غرافيك رأت بأنه "لذيذ" و"مدمر" كما قيّمته الصنداي تلغراف بأنه "استثنائي" بينما وصفته صحيفة بلومبيرغ بأنه كتاب "مقشعر" وهذه الملخصات والإشارات تشير إلى " النوع" الذي عرضه كتاب (كيف تُطعم الديكتاتور) لمؤلفه الصحافي البولندي ويتولد زابلوفسكي، وهو نوع ما يزال هنا وهناك في القرن الحادي والعشرين، بسيادة الطاغية والديكتاتور والمستبد بين الشعوب. فهو إنتاج ظروف لشعوب مقهورة وضعيفة، تسيّد عليها هذا النوع الوحشي من البشر، وترك في ذاكرتها الكثير من الخوف والفزع والرعب.

الديكتاتور ليس شبحًا ولا أسطورة وخرافة. ولا وهمًا وسرابًا، ولا هو صناعة مخيلة جماعية شعبية. بل هو كيان بشري قائم. نعرفه بشكل حقيقي، وليس من الضرورة أن يعرفنا، فأي ديكتاتور في العالم، هو إنتاج نفسه وحاشيته وسلطته القوية، لذلك نجد ونحن نطالع حياة مثل هؤلاء، بأنها حياة سلطوية طويلة إلى حد واضح. أوجدتها القوة العسكرية والبطش بالمعارضين، وبالتالي إخضاع مواطنيها إلى الإذعان لتلك السلطة ومتطلباتها وحماقاتها التي لا تنتهي.

يأتي الكتاب (كيف تُطعم الديكتاتور: صدام حسين- عيدي أمين - أنور خوجة - فيدل كاسترو- بول بوت في عيون طباخيهم، تأليف ويتولد زابلوفسكي، ترجمة عمار كاظم محمد، 336 صفحة من القطع المتوسط، دار نشر سطور- بغداد 2023) كقراءة لقرن الديكتاتورية العشرين، الذي اختصره بخمسة رؤساء (صدام حسين- عيدي أمين- أنور خوجة - فيدل كاسترو- بول بوت) لكن عبر المطابخ الرئاسية وروائح الطعام في عيون طباخيهم، الذين يروون بعض الأحداث التي عاصروها وعايشوها في تلك المطابخ التي تكون عادة قريبة من القصور الرئاسية، أي لها صلة بَصَرية في الأقل مع تلك العوالم الثقيلة التي يمثلها الديكتاتوريون وحاشيتهم السرية والعلنية.

الكتاب يحيل القارئ إلى سنوات الرعب والخوف التي عاشتها بعض الشعوب في العراق- أوغندا - كوبا- ألبانيا - كمبوديا في سنواتها الدموية التي توصف بسنوات الدكتاتور- المستبد - الطاغية. حتى المفردات فيها تختلف ولكنها تلتقي في بؤرة خوف جماعية، مثل الحفرة الواسعة التي يُدفن فيها شعب كامل، بجريرة تفكيره أو خياله أو معارضته أو تسليحه أو ارتباطاته الخارجية. وليست تلك الدول الخمس التي أشار إليها الكتاب هي الدول التي حكمها الديكتاتور، بل نصف الكرة الأرضية هي عبارة عن سياسات ظالمة وشعوب مقهورة، وأخطاء وحروب أكثر من جسيمة. فالديكتاتور يتوزع في القارات كلها، وبالتالي ستكون أمام ويتولد زابلوفسكي فرشة واسعة من هذه الأنماط البشرية على مر التاريخ السياسي للبلدان والشعوب، لكن كما يبدو فإنه ابتعد عن التاريخ السياسي القديم؛ لعدم وجود الراوي الطبّاخ المباشر؛ وأخذ من التاريخ السياسي المعاصر في القرن العشرين نماذجه السياسية التي حملت بجدارة صفة الديكتاتور، منطلقًا من أن هؤلاء الحكّام المستبدين يشغلون الذاكرة العالمية والشعبية المعاصرة، فهي التي استحوذت على فكرته في تسجيل وقائع هذه الشعوب من المطبخ، من دون غيره من الوسائل التي يمكن لها أن تلقي الأضواء المباشرة على سِيرة الديكتاتور. على اعتبار أن المطبخ لا ينشغل بالسياسة بل بإطعام الديكتاتور وإشباعه، فالمطبخ ليس واجهة قرار سياسي. وإنما ماكينة طعام يومي مشروط، كمكان يخضع للرقابة المرئية وغير المرئية، لتعلقه بسلامة الرؤساء. لذلك اختار زابلوفسكي هذا المكان بوجوه الطباخين. لذلك فهو يتحمل صيغة صحافية استقصائية، أكثر من كونه كتاب تحليل وقراءة فاعلة في منهج الديكتاتور وسبله في الإيقاع بخصومه وغدره للمقربين منه. فمثل هؤلاء غير مؤتمنين والسلطة التي تبوأها الطاغية لا يمكن التفريط بها بسهولة. وبالتالي فإن هؤلاء الخمسة من هذا الصنف الظالم، هم نماذج مختارة استوجب تأليف هذا الكتاب أكثر من ثلاث سنوات كما يذكر المؤلف في مقدمته. وهي جولة في عيون طباخيهم، كشهود على مراحل انتقالية عاشتها شعوبهم، أدّت إلى تكريس الكتاب عن هذه الموضوعة المهمة، حتى لو كانت بالطريقة الصحافية التي عرضها المؤلف. فهي فاتحة لقراءة نفسية - سياسية لهذه النماذج البشرية الحاكمة، التي فاقت حتى الخيال في جبروتها وطغيانها وانفرادها في السلطة.


طباخ عيدي أمين

(نحن ذاهبون لمقابلة الرجل الذي طبخ لعيدي أمين ديكتاتور أوغندا الذي كان يلقي بأعدائه للتماسيح..) مع هذا الاستهلال الصادم سنكون على موعد مع أوديرا، طباخ الرئيس الأوغندي، الشاهد والراوي على حقبة طويلة من التعسف السياسي الأوغندي، فلم يكن الرجل صانعًا للأحداث أو مشاركًا فيها (لا يتوقع أحد من الطباخ أن تكون له آراء) بقدر ما كان رائيًا لسلوك الرئيس وحاشيته المقربة منه. وحتى مرجعيات حياته التي يوردها الكاتب، ليست ذات صلة بحياة القصر الرئاسي. بل حكمتها المصادفات كونه طباخًا ماهرًا تنقل في أكثر من مكان، وهي وظيفة في الأحوال كلها (بإرادة الله أصبحت طاهيًا للرئيس بعد الانقلاب) لكن مثل هذا الطباخ؛ وهو صديق رئيس الوزراء أوبوتي، يشرح الصراع الخفي والمعلن بين الانقلابيين؛ بين أوبوتي وعيدي أمين، لهذا فقد عاش بين رئيسين وطبخ لهما، وشهد صراعهما القاتل، بسبب العلاقات المتوترة بينهما (ظل أوبوتي يعتقد أن عيدي أمين أغبى من أن يهدد سلطته، ولذا كان ينظر إليه بلا مبالاة كبيرة) لكن التوقع كان في غير محله، إذ انقضّ عيدي أمين على السلطة بانقلاب (سار بسلاسة مثل قذيفة في سبطانة) وعدّ الشعب الأوغندي هذا الانقلاب بأنه (نعمة من الرب) وهذا المختصر العابر، يقودنا إلى العمل الوظيفي لأوديرا الذي يرى بأن الانقلاب السابق علمه (بأن الجنرالات موجودون هنا من أجل الانقلابات) وهي رؤية متمكنة لواقع الحال الأوغندي، لكنها يبررها بذكاء (لأنهم بمجرد أن يقوموا بانقلابهم سيصلون ببطون فارغة، وطالما كان لديك شيء جيد ليأكلوه فهناك فرصة أنهم لن يقوموا بقتلك..) ويختلف طعام الرؤساء الذين جاء عليهم الكتاب، بحسب بيئتهم ونشأتهم وأعمارهم وظروف معيشتهم السابقة، فعيدي أمين أكل في ليلة الانقلاب سمك البلطي وبيلاف بلحم الماعز (فحياتي اعتمدت على مهاراتي في الطبخ) كما يقول أوديرا.

ومن مفارقات المعلومات التي يرويها أوديرا بأن الإسلام عند عيدي أمين (اكتسب أهمية أكبر) ولكن هذا الإسلام الصوري ثمة ما يناقضه في السلوك الشخصي للرئيس (لقد كان... مهووسًا بالنساء) ولديه (الكثير من العشيقات) وإذا (أراد إخضاع امرأة متزوجة يقوم حرّاسُهُ يقتل زوجها) و(شرب من دماء أولئك الذين قتلهم، أو أكل قطعة من أكبادهم) و(المصير المأساوي لزوجته كيا... قام بتقطيعها إلى أشلاء...) كما أعطيت لتشكيلات الشرطة والجيش تعليمات (بأنه يمكنهم قتل الناس) وهذه السلوكيات التي تدل على وحشية الرئيس وغطرسته واستهانته بالحقوق المدنية، بالرغم من قلة ما أورده أوديرا، تتنافى والمسؤولية الشخصية التي كان يجب أن يحملها عيدي أمين، ما ننظر اليه بأن الرجل كان بعيدًا عن تعاليم الدين وأبجديته المعروفة في الرحمة والرأفة والسلام. وما رواه أوديرا لا يبتعد عن هذه الأعمال المتوحشة التي مارسها الرئيس الطاغية بحق خصومه ومعارضيه وشعبه.

ويتولد زابلوفسكي 


بقرة كاسترو الوطنية

ليس مهمًا أن نعرف المرجعيات الاجتماعية لطباخَي فيدل كاسترو؛ إيراسمو وفلوريس؛ فهما من عامّة الناس، لكنهما امتازا بمهارة الطبخ الرئاسي، مع أنهما شاهدان على جرائم كثيرة وقعت أثناء وظيفتيهما الرئاسية في المطبخ الكاستروي، وعرفا مزاج الرئيس المدمن على السيجار الكوبي والكحول الجيد وقد (تعلم أن يأكل في أوقات مختلفة من اليوم) بسبب الفترة الطويلة التي قضاها مع رجال العصابات قبل أن يكون رئيسًا. وموضوع الطهو لم يكن يشغل باله كثيرًا بسبب التفاوت في النظام البيولوجي في يومه، ومع أن طباخيه كانوا يجتهدون في إعداد الوجبات الرئاسية غير أن (والدته كانت طاهية رائعة، كما أن زوجة كاسترو الثانية... كانت خادمته...) وليس هناك ما يلفت في موضوع الطعام للرئيس، سوى أن تفضيله للطعام كان الجبن واللبن، كونه منشغلًا (بالثورة) وهذا الجنون الثوري قاده إلى تربية بقرة (حطمت الرقم القياسي في الإنتاج) ليس كهواية شخصية في ظاهر الأمر، لكن باطنه أكثر من هذا عندما تحولت البقرة إلى ظاهرة وطنية يمكن إجمالها بما يلي:

  • تحولت إلى رمز من رموز الثورة الكوبية.
  • كانوا يغنون عنها ويكتبون القصائد.
  • قدم المخرج الكوبي أنريكي فيلمًا وثائقيًا عنها.
  • لديها ضرع ممتلئ وكبير، وتنتج أكثر من مائة لتر في اليوم.
  • لا تأكل العشب العادي بل عشب برمودا وعصير البرتقال.
  • المسؤولون عن وضعها الصحي والغذائي خمسة عشر شخصًا.
  • كان الجنود يحرسونها على مدار الساعة.
  • لديها متذوقون خاصون لطعامها.
  • العشب والفاكهة المخصصة لها يتم أكلها من قبل حيوانات أخرى أولًا لبيان خلوها من السموم.
  • دخلت بيضاء الضرع موسوعة الأرقام القياسية باعتبارها أكثر بقرة في إنتاج الألبان في العالم.
  • يصفها كاسترو بأنها من رموز الثورة الكوبية.
  • بعد ولادتها الثالثة أصيبت بمرض خطير وتوقفت عن إنتاج أرقام قياسية من الحليب.
  • الفكرة الثورية تقول إن البقرة التي تنتج حليبًا أقل لا تساعد الثورة. بل تخدم الإمبرياليين كدليل على توقف الثورة. لذلك لم تكن كوبا بها حاجة إليها وهي مريضة غير منتجة.
  • عام 1985 أصدر كاسترو بنفسه قرار قتلها الرحيم.

هذه السيرة البقرية- الكاستروية - الثورية - الوطنية هي إنتاج الصفحة المظلمة من العقل البشري الذي يستهين بغيره، من أجل بقرة، أمام دولة ذات كيان متعدد الأطراف من فقراء ومعارضة هاربة أو متخفية.

لا يعجبني طبخ الرئيس صدام حسين

(كان صدام مولعًا بالأسماك والطعام المشوي والشوربة والكباب والشاورما ومرقة الكوسا وشوربة العدس ومرق البامياء) وهذه المأكولات هي الشائعة في المطبخ العراقي، ولا جديد في ما يطعمه الطباخ الرئاسي إلى الرئيس وأسرته، غير أن صدام كان في بعض الأحيان يتدخل في إعداد وطبخ ما يشتهيه له ولرفاقه في جولاته في بغداد والأماكن السياحية أو في مسقط رأسه في تكريت، غير أن "أبو علي- طباخ الرئيس" يقول (لا يعجبني صدام حينما يطبخ) منطلقًا من أن الطبخ هو فن وإبداع ومهارة مطبخية في تحويل الطعام الخام إلى وجبة دسمة ومشتهاة فـ "أبو علي" درس فلسفة الطبخ على يد جون البريطاني وصلاح اللبناني وتفوق على منافسيه بأن يكون الطباخ الأول لقصر السلام الرئاسي. ولهذا وُضعت فيه الثقة التي مكّنته من أن يكون قريبًا من الرئيس، ويتعرف على نشأته الأولى ومروره إلى الحياة خارج قريته التكريتية.

قد نعرف الكثير مما رُوي في سيرة صدام حسين عبر المؤلفات السيرية التي كانت في حياته الرئاسية، ولا جديد في ما يرويه الطباخ سوى تأكيده على أن صدام حسين ربما كان سينتهي في بواكير حياته إلى أن يكون (لصًا صغيرًا لولا خاله خيرالله طلفاح) ونظرته الشاملة على أسرة الرئيس في أكثر من مكان؛ عندما يتم استدعاؤه لطبخ وجبة معينة، أو ما يجتهد به من إبداع مطبخي، أو مرافقة الرئيس في جولاته الدولية "المغرب. الأردن. الاتحاد السوفياتي" حتى ساحة الحرب أثناء المعارك مع ايران (كونك طباخًا أمر يشبه إلى حد ما المكوث في الجيش) وكان اقترابه من أسرة صدام حسين أجبره على أن يكون شاهدًا اضطراريًا على الكثير مما حدث فيها، لا سيما حادثة قتل "كامل حنّا" خادم الرئيس ومؤتمنه على أسراره الشخصية، وتقريبه ومحبته له (من أسباب حب صدام لكامل حنّا هو أنه كان يجلب له النساء) وكان الوحيد الذي يعرف بزواج الرئيس من سميرة الشابندر، السيدة الجميلة والفاتنة التي طلّقها صدام من زوجها، أما عن طريقة مقتل كامل حنا فتعددت الروايات في هذه الحماقة التي ارتكبها نجل الرئيس، لكن رواية "أبو علي" تشير إلى أن القاتل والمقتول كانا في حالة سُكر، وأن عدي كان الوجه السيء للنظام والرئيس، ومرةً (لمح عدي... فتاة جميلة كانت تسير إلى جانب جندي وهما يمسكان بأيدي بعضهما، فأوقف سيارته وقام باختطافها، بينما أخذ حراسه الجندي، وبعد أن حصل عدي على ما يريد من الفتاة، أقدمت على الانتحار بعد فترة وجيزة فيما قُتل خطيبها بإطلاق النار عليه...) ويمكن أن تصح هذه الرواية وغيرها على هذا الابن الرئاسي المستهتر، وما يشاع عنه في الشارع العراقي أكثر من هذا.



أنور خوجة: قاتل زملائه في المدرسة

قبل أن يولد السيد "ك" كان أنور خوجة رئيسًا لألبانيا. وهذا الكاف الذي أصبح طباخًا رئاسيًا، يُعد من الجيل الذي لم ير غير الجو الخوجوي النافذ في البلاد الذي عاش الفترة الرئاسية المقاربة لخمس وعشرين سنة، وتتقدم حكايات كثيرة عن هذا الرئيس الطاغية قبل أن يكون الطباخ راويًا لها، وهو ما اعترض مؤلف الكتاب قبل لقاء الطباخ من قبل المؤرخ "أروين حاجي" الذي استعاد بعضًا من سيرة الرئيس الدموية:

(كان يقتل كل من يقف في طريقه)

(قتل حتى صهره على الرغم من أنه كان يحميه)

(كان لديه زملاء في المدرسة... يتذكرون كم كان طالبًا فقيرًا فقام بقتلهم كلهم)

(قتل الفتيات في المدرسة اللاتي رفضن تقدمه إليهن)

(قتل نحو ستة آلاف شخص رميًا بالرصاص)

ونرى هذه الإيجازات من قبل هذا المؤرخ تكفي لرسم الصورة الوحشية لخوجة، لذلك كان الطباخ على علم بهذا الطاغية وسلوكه الإجرامي بالرغم من صغر عمره (عشتُ في خوفٍ دائم) وليس غريبًا أن يقول إن فريق العمل معه كانوا خائفين على مدار الوقت، فقد ينهض الوحش من النوم (ويأمر بقتلنا) ويورد (انتحر أول طباخ... ولاحقًا اختفى أحد الطباخين...) لذلك كانت أفكار الطباخ الذكي هو كيف يأمن شر الطاغية من خلال إطعامه، فهو النافذة الأخيرة لكسبه. وليس هناك غير المرأة التي تعلمه أسرار معدة الرفيق خوجة، وهكذا كانت أخت الرئيس "سانو" مفتاحًا للوصول إلى معدته، فهي التي تدرك شغفه بطعام أمه وتعرف كيف تطبخ له طعامًا من بيئته الأولى كما كانت تطبخ أمه له (إذا أصبحت بديلًا عن أمه فلن يستطيع قتلي).

طباخة بول بوت

تختلط وجبة الطعام المعتادة عن غيرها من المفردات في الحالة الكمبودية. فقائمة العمليات الأميركية سُميت "وجبة طعام" وهي مجموعات من القنابل الفتاكة التي استهدفت كمبوديا عام 1969 في أوقات الفطور والغداء والعشاء والتحلية بما يقارب 110 ألف قذيفة مع أن الحرب انتهت على فيتنام، إلا أن كمبوديا نالت حصتها بنصف مليون طن من القذائف بعد الحرب على فيتنام. وهو رقم إجمالي كارثي أدى إلى مقتل 100 ألف كمبودي. وهذه خلفية أولى تشير إلى أن حزب الخمير الحمر الكمبودي عاش تلك السنوات الصعبة كمقاومة ضد الأميركان. وقد ولّف المؤلف بين مفردتي "الطعام" لتكون دالّة على طعام القنابل والمقذوفات، والطعام بوصفه إشباعًا لغريزة الجوع، ومن هذه الغريزة المطبخية تأتي المعلومات إلى أن قادة الخمير الحمر يختارون زوجاتهم من الطاهيات حصريًا. ومن ثم تأتي تأثيراتهن التالية ليتولى أزواجهن مراكز مهمة في السلطة، لهذا (لا يوجد في العالم كله بلد يتشابك فيه عالم الطهاة مع عالم السياسة كما في كمبوديا).

فصل "الحلويات" الخاص بالرئيس الكمبودي بول بوت يحكي عن (قصة) الطباخة مونغ يون، ولو ابتعدنا عن قصتها الشخصية في البلاط الرئاسي، وهي متداخلة مع الجو العام لتلك الحقبة وتأثيراتها الرئيسية والجانبية، لكنها أخرجت إلى الصين مع زوجها السفير، لتبتعد عن جو السياسة والطبخ. وكشاهدة مطبخية على أيام القسوة التي مر بها الكمبوديون عامة في أيام الخمير، فإن الجماهير كانت تأكل (الجراد والصراصير والديدان والنمل الأحمر والعناكب المائية... ولفّوا الضفادع بأوراق الموز... لقد أكلوا الفيلة والسلاحف وثعابين الماء... وصنعوا الحساء من بيض النمل الأبيض وأكلوا الخفافيش المسلوقة والمخبوزة حتى أنهم شربوا دماءها... وكل الناس تقريبًا كل دلافين نهر إيروادي...).

ملاحظات ختامية

  • يمكن حذف نصف الكتاب من دون أن تتأثر الأحداث الموصوفة فيه، لا سيما المرجعيات الاجتماعية لسِيَر الطباخين، فهي حشو غير مهم في كثير من الأحيان، ولا علاقة لها بسيَر الرؤساء الوحشية.
  • نعرف أن الجهد المبذول في الكتاب ميداني شاق للمؤلف، لتجوله في أكثر من بلد وأكثر من قارّة، إلا أن الكتاب توقف عند خمسة رؤساء مستبدين، والحقيقة يمكن للمؤلف أن يتقصى الكثير من الطغاة والديكتاتوريين في الشرق الأوسط على وجه الخصوص؛ ما يجعل الكتاب موسوعة ذات أهمية كبيرة في قراءة سياسات القرن العشرين، عبر حكم الأنظمة الشمولية ذات الاتجاه الواحد.
  • في سِيَر الرؤساء الخمسة الواردة بعض التفصيلات عن سلوكهم الوحشي، لم يقف المؤلف محللًا لسيكولوجياتهم الدموية، مع أنه أشار إلى شيء من الخلفيات الاجتماعية لبعضهم، ولكن هذا لا يكفي لتوسيع دائرة التشخيص الفعلي لأفكارهم الشاذة.
  • كل نقاط الضعف الشخصية عند الرؤساء الذين تقصاهم المؤلف في هذا الكتاب هي المرأة. وهذا وحده يكفي إلى إمكانية التحليل النفسي والاجتماعي لهم. وتفكيك عقدهم الذاتية وهوياتهم الاجتماعية من خلال نافذة المرأة.
  • نرى أن الكثير من الشهادات الواردة عبر طباخي الرؤساء تحتاج إلى توثيق من مصادر أخرى غير التوثيق الشفاهي الذي قرأناه. فهذا غير دقيق كليًا. وقد خضع لخيالات كما نعتقد، أو مسموعات، أو تصورات شخصية غير فاعلة في جعل الدراما الرئاسية ذات موثوقات مهمة. فما ذُكر في الكتاب قليل جدًا بحقهم. وحتى القليل يبقى مثار شكوك طبيعية أملتهُ ظروف الطباخين الذين تخفى بعضهم برموز أو كنيات أو أسماء وهمية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.