}
عروض

"حيفا في الذاكرة الشفوية": سرديّةُ الصمودِ وأحياء الزّمان العتيق

محمد جميل خضر

28 يناير 2023


تتذكّرُ حياة فياض حسن مصلح، تمامًا، عندما كانت تقف مع أشقائها قبل عام 1948، في شرفة بيتها الحيفاوي في حي القشلة/ شارع ابن الأثير، وتشاهد القطار المصري مارًّا، وكذلك القطار الذي كان محمّلًا بحجّاج بيت الله الحرام العائدين من الديار المقدّسة، يرمون بالهدايا من شبابيك القطار للأطفال.
حياة المولودة في حي محطة الكرمل الحيفاوي (القشلة) عام 1936، شقيقة الكاتب الفلسطيني توفيق فياض، هي واحدة من عشرات الحيفاويات والحيفاويين الذين قابلتهم الباحثة الفلسطينية روضة غنايم في سياق إعدادها وتأليفها لكتابها "حيفا في الذاكرة الشفوية: أحياء وبيوت وناس" (2022) الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
مقابلات استقت منها غنايم مؤلّفة الكتاب الواقع في 472 صفحة من القطع الكبير، شهادات حيّة، ورسمت، عبرها، معالم ذاكرات شفويّةٍ ترى أنها تضيف إلى كتابة التاريخ "أبعادًا إنسانية خاصة" (صفحة 28)، فالتاريخ الشفوي، بحسب غنايم، "يكشف ما لا تغطيه، أو تقوله، الأرشيفات" (ص 28)، وصولًا إلى مرحلة الدمج بين "السردية الشفويّة والتأريخ المكتوب" (ص 29)، وهو الدمجُ الذي يخلق، بحسب غنايم، "توازنًا".
44 سرديةً شفويّة يتضمنها الكتاب، تمثل شهادات دامغة تشهد على تهجير العرب قسرًا، وحتى إن "هرب" بعضهم، فإن هروبهم كان قسريًا في حالة حرب، وكانوا على يقين بالعودة، فالهروب في تعريف القانون الدولي يُعد طردًا، أو تهجيرًا؛ إذ يُعرّف التهجير القسري بأنه "إخلاء غير قانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها، وهو يندرج ضمن جرائم الحرب، وجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية. فالتهجير القسري هو ممارسة ممنهجة تنفذها حكومات شبه عسكرية، أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعات عرقية، أو دينية، أو مذهبية، بهدف إخلاء أراضٍ معينة، وإحلال مجاميع سكانية أخرى بدلًا منها، ويكون التهجير القسري إما مباشرًا، أي ترحيل السكان من مناطق سكناهم بالقوة، أو غير مباشر عن طريق دفع الناس إلى الرحيل والهجرة".


التاريخ الشفوي




تقول غنايم في الصفحة 40 من الكتاب: "في كتابة التاريخ الشفويّ، لا قاعدة محددة واحدة، ولا أسلوبًا محددًا واحدًا، بل ثمّة معايير أخلاقية، وأخرى بحثية وتقنيّة، نحو تحديد هدف المقابلة وموضوعها، وطرق التسجيل خلالها، وكلّما قلّت التقنية تكون المقابلة طبيعية أكثر، والأهم، هنا، هو الحصول على موافقة السّارد في تسجيل سرديّته/ روايته، وإعلامه بما يريد الباحث منها، وبعد ذلك، التحقق من مدى دقّة المعلومات التي أدلى بها السّارد، وسلامتها"، فهل أدق من هكذا منهجية، وهل من طريقةِ جمع شهادات، ورصد ذاكرات شفوية، أعمق من هذه الطريقة.




إن التاريخ الشفويّ يجنح، عادة، نحو الجانب الاجتماعيّ المعيشيّ من تاريخ الناس، وفي حالة "حيفا في الذاكرة الشفوية"، فإن التركيز ذهب نحو التاريخ العام للمدينة، في سياقاتها الإنسانية والاجتماعية والمدينية، وبما يؤكد، من دون أيّ مجال للشك، أن حيفا كانت قبل عام 1948، وخلال النصف الأول من القرن العشرين، والقرنيْن: التاسع عشر والثامن عشر، مدينة عامرة بأهلها المتنوّعين، المستفيدين من تطوّر مينائها وتقدمه بعد أن كان يحل في المرتبة الثالثة بعد مينائيّ يافا وعكّا.
غنايم ترى أن المنهج المعتمد في كتابة التاريخ الاجتماعي يختلف عن المنهج المعياريّ الصارم، لأنه (أي المنهج الاجتماعي الشفاهيّ) يجمع المعلومة ويحلّلها ويربطها بالمكان والزمان الذي وقعت فيه، "من دون التوقّف مطوّلًا عند التواريخ والأرقام، بل يمتد إلى تفاعلات الناس والعلاقات الاجتماعية والإنسانية، باستخدام أسلوبٍ إنسانيٍّ واضحٍ سلس" (ص 40).
بدأ اهتمام غنايم بالتاريخ الشفوي في منتصف تسعينيات القرن الماضي، كما توضح في سياق تمهيدها لكتابها، حيث استهلت هذا المنهج البحثيّ بجمع قصصٍ لنساء من مدينة "باقة الغربية" التي تقع جنوبي مدينة حيفا، مواصلة هذا الجهد العابق بمنظور إنسانيّ، من خلال عملها مع جمعية حقوق الإنسان في مدينة الناصرة. بالنسبة لحيفا، فقد ركّزت الباحثة، منذ بداية عملها في الأحياء الخمسة التي اختارتها داخل حيفا: العتيقة، الكولونيّة الألمانية، عبّاس، وادي النسناس ووادي الصليب، على المشهد البشري في المدينة الذي "تغيّر ويتغيّر باستمرار مع مرور الزمن" (ص 41)، كما تكشف سرديّات الناس.
تقول غنايم في تمهيدها: "لأن الشوارع والبيوت مرتبطة بحياة الناس، شرعتُ في البحث عن تاريخ تلك الشوارع والبيوت، فكثير من شوارع المدينة كانت تحمل، قبل عام 1948، أسماءً عربيةً. وثمّة بيوت عربية فلسطينية هُدمت، أو أصبحت خرابًا، وبيوت رمّمت وتستخدم لأغراض أخرى، مثل مرافق تجارية وسياحية، ومنها ما أصبحت بيوتًا سكنية لغير السكّان الأصليين وأصحاب الأرض والحق والمكان. جميع هذه البيوت كانت أملاكًا لعائلات فلسطينية وعربية هُجّرت في عام 1948" (ص 41).


طمس وتهويد

وادي الصليب 


احتلال فلسطين الذي وصل ذروته عام 1948، حوّل كثيرًا من الفلسطينيين إلى لاجئين. وإضافة إلى من أصبحوا لاجئين في بلاد الآخرين، أو في مدن فلسطينية أخرى، داخل الخط الأخضر وخارجه، فإن هنالك من أصبحوا لاجئين داخل مدينتهم نفسها، خصوصًا أولئك الذين كانوا يقطنون وادي الصليب، فبعد أن أخلي الحي من معظم سكانه، تعرّض لجريمة طمس وتهويد عاتية التفاصيل.
يقع حي وادي الصليب في المنطقة السفليّة للمنحدر الشماليّ الشرقيّ لجبل الكرمل. أُسّس خارج أسوار المدينة التي بناها ظاهر العمر الزيدانيّ في البلدة التحتى. وقد شُرع ببناء بيوت الحي نهاية القرن التاسع عشر نتيجة الاكتظاظ السكانيّ داخل أسوار حيفا. تبدأ حدود وادي الصليب من منطقة جامع الاستقلال شرقًا (ما كانت تعرف بأرض البلّان، النبتة الشوكيّة البريّة الجبليّة)، حتى منطقة البرج غربًا.
وبعد فترة طويلة من البؤس والإهمال، وغياب مظاهر النظافة العامة في الحي، بحسب وصف محمد رفيق التميمي، ومحمد بهجت، في كتابهما "ولاية بيروت"، فقد بدأ الحي يحتل مكانةً ما، بعد افتتاح الميناء الجديد في عام 1933، تقول غنايم: "بدأ حيّ وادي الصليب بالتطوّر والازدهار، إذ انتشرت فيه كثير من المقاهي (...)، وأصبح رحبًا، وداخل تفاصيله توجد محطة قطار حيفا المتصلة بخط محطة قطار الحجاز. كما تنتشر قوارب الصيد على امتداد شاطئه (الميناء التركي). وإضافة إلى شارعه الرئيسي (شارع وادي الصليب)، يوجد فيه شارع رئيسي آخر هو شارع عمر بن الخطاب، وهنالك شارع الأفغاني، والمقبرة الإسلامية القريبة من جامع الاستقلال" (ص 412).
تشير غنايم في الفصل الخامس من كتابها إلى أن عمليات الطمس والتهويد التي تعرّض لها حي وادي الصليب تعمّقت، وأخذت أبعادًا خطيرة بعد عام 1959، حيث تورد غنايم معلومات عن انفجار ثورة في شهر يوليو/ تموز من ذلك العام، عرفت باسم "عصيان وادي الصليب"، وهو العصيان غير المسبوق داخل الكيان الصهيوني لليهود الشرقيين "احتجاجًا على الظروف المعيشية الصعبة، وعلى سياسة التمييز التي مارستها وتمارسها الحكومة تجاه اليهود القادمين من الدول العربية، حيث أوضحت تلك المظاهرات الصاخبة مدى الفجوات داخل كيانٍ مغتصبٍ واحد، بين اليهود الأشكناز (الغربيين) والسفاراديم (الشرقيين). بعد تلك الأحداث، أفرغت حكومة الاحتلال الحيَّ من سكانه ووزّعتهم على أحياء أخرى، وتدريجيًا، سعت الحكومة بعد ذلك إلى تدميرٍ منهجيٍّ مستمرٍ ومتواصلٍ لمختلف ما يكتنزه حي وادي الصليب من مبانٍ تاريخية، وطمس طابعه الثقافيّ العربيّ الفلسطينيّ وهويته العمرانيّة المميزة" (ص 414).
ضمن معطيات هذا الفصل أيضًا، وفي إطار تدبيجها تعريفًا جامعًا مانعًا لمفردة الطمس/ obliteration، تقتبس غنايم ما تورده الكاتبة محاسن عبد الجليل في كتابها "نحو مداخل منهجية وأدوات جديدة لكتابة تاريخ المطموس، تأريخ النّبذ والإقصاء أنموذجًا"، منتقلةً من الدلالة اللغوية "التغيير من حالة معيّنة إلى أخرى" نحو تعريف عبد الجليل: "إزالة شيء ما بشكلٍ كاملٍ من اعتراف الذاكرة. كما يعرّف أنه تحريك، وتغيير، إزاحة كلية، تشويه جزئي، محو، تدمير كل إشارة، أثر دال على الأشياء الحسيّة، أو الشعورية، أو إحلال أخرى مكانها، أو تغطيتها وطمرها إلى الحد الذي لا يمكن أن تُرى" (اقتباس محاسن عبد الجليل، وارد، أساسًا، في الصفحات 885 و886 من كتاب "التأريخ العربي وتاريخ العرب، كيف كُتِب وكيف يُكتب؟ الإجابات الممكنة" (2017)، من تأليف إبراهيم بوتشيش وآخرين، وإصدار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات).




غنايم تخلص، وبعد كل هذه التعريفات، إلى أن هذا ما يحدث فعليًا فوق أرض الواقع لحيّ وادي الصليب الحيفاوي الفلسطيني. تقول الباحثة إن بلدية حيفا الصهيونية أصدرت في سبعينيات القرن الماضي خريطة هيكلية لمدينة حيفا يُلاحظ في مخططها "محو المعالم العربية" (ص 415). لا تكتفي غنايم بما تكتبه، بل تلحقه بصور توضيحية جويٍّة وغير جوية، من تصويرها، ومن تصوير غيرها، وفي هذه الصور تظهر عمليات الهدم والمحو والطمس جليةً للعيان.
ومن مظاهر المحو والطمس والتغييب ما جرى من تغيير لأسماء الشوارع والأزقة في حي محطة الكرمل (القشلة) داخل المنطقة التي تعرف باسم "حيفا العتيقة". فعلى سبيل المثال شارع ابن الأثير، شطب بعد النكبة، وصار اسمه: شارع زيسو.
ولعل أوجع قفل لهذا الجزء من الكتاب (الجزء المتعلّق بالطمس والمحو)، هو إيراد غنايم لقصتها مع درج عجلون داخل حي وادي الصليب، ففي زيارتها الأخيرة للحي قبل نشر كتابها، وتحديدًا بتاريخ 10 مارس/ آذار 2022، تبيّن لها أن هناك مشروعًا يحضّر لذلك الدرج، بدءًا من تغيير اسمه من درج عجلون (اسم كنعاني) إلى درج (عغلون) باللغة العبرية، وليس انتهاء بجهل القائمين على المشروع الإحلاليّ، الاسم القديم للدرج، وجهلهم تاريخه. ومع ذلك تمنح تلك الجهة اليهودية بيتًا فلسطينيًا هو "بناية بيت الأقواس" لجعله مقرًا لمشروع دخيل عليه، وعلى ذاكرة المكان وروحه وأنّات حيطانه، ومع كل هذا الجهل، يعرضون عليها أن تشارك بالمشروع من خلال تناول موضوع التاريخ الشفويّ وكتابة السرديات! تقول روضة حول تلك المرارة: "كل ذلك كان كافيًا لأعتذر بصمتٍ مجروح وأنسحب. حين خرجتُ من العمارة، استنشقتُ الهواء، كدتُ أختنق مرّتين في تلك الزيارة؛ الأولى جلوسي في مكان طمْسِ معالمٍ من هوية الحيّ الجميل، والثاني استباحة البيوت الفلسطينية لمصالح يهودية" (ص 421). غنايم تختم بالقول إنها تابعت هذا الهدم، على وجه التحديد، منذ بداياته الأولى وحتى نهايته، موضحة بصور خاصة بها مختلف تفاصيل ما جرى؛ صور عام 2011 قبل الهدم، وأخرى عند بدء الحفريات والهدم، وبعدها في قلب عمليات الحفر، وصولًا إلى المبنى الجديد وإلى جواره بيت قديم ما يزال قائمًا وشاهدًا وشهيدًا.


شهود الذاكرة

حي محطة الكرمل 


في حي وادي الصليب تدوّن الكاتبة ثلاث سرديات: واحدة للفنان الفلسطيني عبد عابدي المولود في حارة الكنائس في حيفا عام 1942، وأخرى مع الكاتب الدكتور سميح مسعود الذي ولد عام 1938 في حيفا وترعرع فيها، حيث سكنت أسرته في شارع الناصرة، وما يزال بيتها قائمًا هناك ينتظر عودة أهله. وبحسب غنايم، وبموجب مقابلتها مع مسعود، فقد درس الدكتور سميح حتى الثالث ابتدائي في مدرسة البرج الحيفاوية الواقعة في شارع البرج المتاخم لحيّ وادي الصليب. المقابلة/ السردية الثالثة كانت مع الفنان أديب جهشان المولود في مدينة حيفا (وتحديدًا في حي وادي الصليب) في عام 1943.
إضافة للسرديّات الثلاث التي تضمّنها الفصل الخاص في حي وادي الصليب، فقد حاولت غنايم توثيق سردية رابعة خاصة بالكاتب والحقوقي الفلسطيني عبد اللطيف كنفاني (1926 ـ 2019)، إذ أجرت اتصالًا معه ومع أسرته حيث يقيمون في بيروت، ولكنّ الوضع الصحّي لِعبد اللطيف حين اتصالها في عام 2017، لم يسعفه من المشاركة الفاعلة بالاتصال، فاكتفت روضة بالحديث مع ابنه فؤاد. غنايم استعاضت عن شهادة عبد اللطيف كنفاني (كنفاني أسرة عكاوية كانت تقيم في حيفا) بتوثيق مراحل ترميم بيت أسرته في شارع البرج داخل حي وادي الصليب في حيفا، والتقاطها بكاميرتها صورًا للبيت من الخارج ومن الداخل، قبل (عام 2011)، وبعد (عام 2017).


ما هو الوطن؟

حدائق البهائيين في حيفا 


لا تغادر روضة غنايم حي وادي الصليب قبل أن يستعيد وجدانها الفلسطينيُّ الحيُّ تأملات الأديب الشهيد غسان كنفاني (1936 ـ 1972) في روايته "عائد إلى حيفا" (1970) حول مفهوم الوطن؛ هل هو "المقعدان اللذان ظلّا في الغرفة 20 عامًا؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسيّ؟ شجرة البلّوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوّة؟ أهو صورة آيةٍ معلّقة على الجدران؟ إنني أسأل فقط" (الرواية، الصفحتان: 171 و172). في دورها، تبني روضة من تساؤلات غسان وأسئلته الوجودية أسئلتها: "وأنا أسأل نفسي أيضًا كما سأل غسان نفسه قبل 48 عامًا: ما هو الوطن؟ أهو حجارة يابسة؟ نقوش على الجدران؟ بلاط نابلسيٌّ مزخرف؟ شبابيك خشبية؟ أعمدة؟ أبواب؟ شرفات مطلّة على الميناء؟ تراب؟ طفل يلعب في الحارة؟ أهو نبتة بريّة نبتت من بين شقوق الأدراج؟ ما هو الوطن؟" (ص 433).




ولعلّ في كل حرفٍ من حروف أسئلتها وأسئلته إجابات: الوطن هو كل هذا وذاك، وأكثر. هو الأسماء بإطلالتها العربية الفصحى، أو الملحّنة بلهجة حيفاوية، يافاوية، عكاوية، ناصرية، جليلية دامغة. هو شاهد قرب نسيم البحر نسي الغاصبون شطب معالمه، أو لعله نبضٌ في عروق معمّرة تركت وجدانها الشفويّ أمانةً لدى موثّقة من طراز روضة غنايم. إنه، كما أرى، الجيل الرابع للنكبة، يستعيد روايته، يحرّرها من لعبة التعايش المخادعة القائمة على اختلالٍ صنعه الاحتلال.


وادي النِّسناس
في الفصل الرابع من الكتاب (فصل حيّ وادي النسناس) توثّق الباحثة في أطول فصول الكتاب وأدسمها (من صفحة 267 إلى صفحة 403)، ما يقترب من نصف السرديات الشفوية المضمّنة في الكتاب (يتضمّن الفصل الرابع وحده 18 سردية من أصل 44، هي مجموع سردياته الشفوية جميعها).
ومنذ الصفحات الأولى للفصل الخاص به، يظهر جليًّا أن وادي النسناس يحظى بخصوصية وجدانية لدى الباحثة روضة غنايم. كيف لا والحي يحظى بأغلبية فلسطينية، ويحافظ، بمعظمه، على هويته العمرانية والحياتية والثقافية التي عُرِف بها قبل عام النكبة.
قبل شروعها باستعراض سرديات أبناء حي وادي النسناس، تورد غنايم ما وثّقه المؤرخ الفلسطيني بولس فرح (1910 ـ 1991)، في كتابه "من العثمانية إلى الدولة العبرية" (1985) حول مدى الدمار والنهب والعبث والتخريب الذي تعرّض له الحي من العصابات الصهيونية خلال معاركها لاحتلال حيفا: "وجدته مقلوبًا رأسًا على عقب، البيوت مفتوحة ومنهوبة ومهجورة... بعض ساعات الحائط اخترق الرصاص ميناءها، ومتوقّفة عند الساعة الثانية عشرة من منتصف الليل". غنايم تؤكد على ما جاء في شهادة فرح، وتزيد عليها أن بعض البيوت نهبت رغم وجود أصحابها فيها تحت تهديد السلاح وإرهاب مجرمي العصابات الصهيونية "ومن بين هذه البيوت، بيت عضو البرلمان توفيق طوبي في حي وادي النسناس" (ص 269).
توثّق غنايم في هذا الفصل شهادات وسرديات والذاكرات الشفوية لـِ: فيروز دانيال ـ كركبي، فؤاد صهيون حفيد إبراهيم أحد أركان الحي وملّاك حيفا وأعيانها، حيث كانت الأسرة جميعها تقطن في فيللا رجا صهيون في شارع الجبل، وهي الفيللا التي هدمت بعد النكبة وبنيت مكانها عمارة.
سردية فؤاد على وجه الخصوص تحمل وجعًا خاصًا، فالبيت الذي ولد فيه داخل الحي وقضى فيه سنوات عمره الأولى قبل أن ترغم أسرته على مغادرة حيفا، تقيم فيه حاليًا أسرة فلسطينية هُجّرت من قرية "كفر برعم" قضاء طبريا. فؤاد يتذكر البيت جيدًا، ولديه في ألبومه الخاص صور له داخله، وعند شرفته، ومع عصفوره الذي كان صديقه قبل النكبة ومغادرة البيت. أول زيارة لبيته الذي كان وتعرّفه على أسرة جورج مارون موسى (أبو مارون) المقيمة فيه، كانت في عام 1994، وبعدها انتظمت زياراته لبيت طفولته وذاكرته، وحين رافقته روضة في زيارة للبيت خلال تدوينها سرديته، تبيّن لها أن أهل البيت (بيته سابقًا وبيتهم حاليًا) يعرفونه جيدًا، وتربطهم علاقة وجدانية متداخلة.
ومن السرديات أيضًا سردية نائلة حنّا نقارة. ومن أكثر سرديات الفصل شجنًا ودلالات سردية أوجيني خليف (1910 ـ 2003) التي روتها ابنتها لمياء، حيث تحتوي السردية على أبعاد إنسانية ومحبة وعطاء وروح فلسطينية لافتة. كذلك سردية الحيفاوية المعمّرة أنييس بلوطين (1914 ـ 2019)، وقد تسنّى لروضة إجراء المقابلة معها قبل رحيلها بعامين ونصف العام، وتحديدًا في  21 أبريل/ نيسان من عام 2017، علمًا أن تاريخ رحيلها كان في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، عن عمرٍ زاد على مئة وخمسة أعوام.
وفي الفصل، إلى ذلك، سردية الشاعر رشدي الماضي، وجورج فرح، وعباس زين الدين وزوجته هيفاء، وجان زهر وزوجته نايفة، وعفاف فرح (أجرت معها المقابلة في بيتها في شارع قيسارية)، ومقابلة محمود منصور وزوجته مريم، وعبلة العباسي، وأميرة صنبر ـ سمّور، والفنانة التشكيلية رشيدة شيتي. وَلِعمق الوجدانيةِ التي ربطت بين روضة وحي وادي النسناس، قدّمت في الفصل الخاص به شهادة عن نفسها هي شخصيًا، ساردةً تقديمها في نهاية عام 2014، عرضًا تعبيريًا حمل عنوان "شو العلاقة" معبّرة فيه عن رفضها لمهرجان "عيد الأعياد" رائية أنه "لا يمثّل الموروث الثقافي الفلسطيني لمدينة حيفا، ولا علاقة له بتاريخ وادي النسناس" (ص 398).
في الفصل الثالث (فصل حي عبّاس)، تورد غنايم 11 سرديّة، وتفرد مساحة لبيت الأديب الفلسطيني إميل حبيبي (1922 ـ 1996)، مجرية مقابلة مع شقيقته ندى، وأخرى مع ابنته الفنانة التشكيلية جهينة حبيبي ـ قندلفت.
في بداية الفصل الثالث، تتحدث غنايم عن جمال بيوت حي عبّاس وعراقتها العربية الفلسطينية. كما توضح نوع الحجارة التي بنيت منها بيوت الحي: الحجر اليابس ذو الطابع العربي، بشبابيك البيوت الخشبية الملوّنة بالأزرق والأخضر، وحولها سلاسل تعود إلى عقود ممتدة في عمر الزمان (ص 163). كما توثق أهم معالم الحي، مثل درج عصام العباسي، وشارع المتنبي، وشارع ابن المقفع، ومعالم أخرى. تتحدث فيه عن البهائيين، وعن المناضل والصحافيّ الفلسطيني الغزّي علي عاشور (1925 ـ 1997) الذي عاش حياته ومارس نضاله اليساريّ متنقلًا بين حيّي عباس ووادي النسناس. ومن سرديات الفصل الثالث واحدة لعنان العباسي، وأخرى للمحامي علي رافع، وكذا سردية إيمي موريس بشارة مدوّر، وغيرها، وغيرها.
ويكفي بالنسبة للفصل الثاني الخاص بحي الألمانية إيراد سردية جورج ابن حفيد إلياس حبيب شحادة المولود في حيفا عام 1901، وفي تلك السردية يوضح جورج كيف سرق الصهاينة أراضي جدّه الأكبر إلياس: "كان جدّي أميًّا، وبمراوغة من محامٍ يهوديٍّ سرقوا ملكيات إلياس وأراضيه في حيفا، قطعة تلو أخرى" (ص 140).
يتضمّن الفصل الأول من الكتاب الخاص في حي حيفا العتيقة/ محطة الكرمل، سردية لجانيت مطر (أم ذيبو)، وفيها تذكر أسماء عائلات عربية فلسطينية كانت تقيم قبل النكبة في حي حيفا العتيقة: مصلح، منصور، سويدان، نجّار، الخولي، عطا الله، الطوباسي، الزرقا، بدران، صويلح، بندر وعائلات أخرى كثيرة.


سردية الصمود
لعل السردية الأكثر بلاغة التي تضمنها الكتاب ولم يذكرها شاهد بعينه من شهوده ومدوّني ذاكراته الشفوية هي سردية الصمود التي أحالت عليه الشهادات جميعها، وصدحت به السرديات كلها. أوليس من مظاهر الصمود أن يظل زقاق ظاهر العمر الزيداني، على سبيل المثال، داخل حي (القشلة) يحمل الاسم نفسه رغم كل جرائم المحو والطمس والتغييب؟ وأن يحافظ زقاق الإدريسي على اسمه العربي الفلسطيني المعتّق؟
أوليس من مؤشرات الصمود أن تختم غنايم كتابها المهم بسيناريو متخيل لسرديةٍ جامعةٍ بنتها مخيّلتُها في نهاية الفصل الرابع (فصل حي وادي النسناس):
"بدأت أتحدث في مخيلتي مع هؤلاء الناس الغائبين عن المكان، الحاضرين في ذاكرتنا، فذاكرة هؤلاء الناس محفورة بأسمائهم على مداخل البيوت. بعد مروري من جانب بيت الشاعر حسن البحيري، أصغيت بداخلي لقصته الصعبة، وتذكرت أشعاره التي وصف فيها حبّه لحيفا. تقدمتُ في مسيرتي حيث وصلت بيت المناضل داود تركي (أبو عايدة)، فأصغيتُ من خلال حجر البيت لقصة نضاله، ...، أكملت مسيرتي نحو فرن أبو أنطون النجار، ليس بعيدًا عنه دعاني الشاعر أحمد دحبور إلى شقّته خلف الفرن لنشرب الشاي، وسرد لي قصص أمّه أمينة عن حيفا، وعن جبل الكرمل الذي كان يمشي كل عام سبعة أمتار. كان حديثًا شائقًا لم أكن أريده أن ينتهي. استأذنتُ وأكملت مشواري، وإذ بالشاعر الثوري والمقاوم ضد الظلم نوح إبراهيم، عائدًا إلى بيته، فسلّمت عليه وتبادلت معه أطراف الحديث عن أبطال سجن عكا، وعن الثورة في عام 1936" (ص 402).
نعم، إنها سرديّة صمود من بقي من أبناء حيفا، يعيدون تشييد مخبز (أبو محمد)، يجددون الروح في مطبعة صحيفة "الاتحاد"، ويضخّون عروق الحياة في مضخة ماء الحاج حسن بكير.
كتاب عن الصمود وسردياته وأشواقه، "يشبه البحر، واسعٌ، عميق، ويمتد إلى ما وراء الأفق" (ص 19)، كما يصفه، في سياق تقديمه له، الكاتب الفلسطيني ميخائيل توما.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.