}
عروض

"الشعر جرحُ الغيب": كتاب لزمن القصيدة ولبيروت والجنوب

دارين حوماني

6 يناير 2023





الكتاب الذي بين أيدينا لا يمكن اعتباره حوارًا عابرًا بين شاعرين أحدهما يريد أن يوثّق حياة الآخر وتجربته في هذا العالم، كما يحدث عادة في مثل هذه الكتب، فكتاب "الشعر جرح الغيب" لمحمد ناصر الدين (دار الرافدين، 2023) هو كتاب لزمن القصيدة، وكتاب لمدينة بيروت، وكتاب للجنوب اللبناني، يجمع الشاعر ناصر الدين بالشاعر محمد علي شمس الدين، الذي رحل في 11 أيلول/ سبتمبر الفائت، على جغرافيا الفلسفة والشعر منذ أفلاطون وأرسطو إلى أبي نواس وابن عربي وكانط ونيتشه وأنسي الحاج وأدونيس وشعراء اليوم وآخرين. ثمة فضاء فكري رؤيوي وتدوين للوجود يسحب الزمن من الماضي لما هو آتٍ إلى داخل هذا الكتاب الذي يضم أربعة حوارات بين الشاعرين منذ عام 2017، وكان الحوار الأخير بينهما قد جرى خلال الفعالية السادسة عشرة من موسم الرافدين الثقافي عام 2020. ويضم الكتاب أيضًا مقالة للشاعر أنسي الحاج عن شعر شمس الدين، وآخِر مساهمات الشاعر الراحل في ملحق "كلمات" في جريدة الأخبار اللبنانية، إضافة إلى عدد من قصائده التي تناولها ناصر الدين في حواره معه. وعنوان الكتاب هو أحد العبارات التي أطلقها شمس الدين في تعريفه للشعر، إذ يقول: "لماذا أقول إن الشعر جرح من أقدم جروح الغيب؟ يذكر ابن منظور والفيروز آبادي أن كَلَمَ تعني جَرَحَ، إذًا الكلمة جرح، وماذا يعني الجرح، الجرح يكشف، يفتح اللحم المصمت، يفتح الجسد المقفل، ليُنظر إلى داخله، ويُستخرج دمه أي حقيقته. وهكذا الشعر بالنسبة لكل الأشياء. أنت تقول القصيدة إذًا أنت تجرح الوجود، هذا معنى أن الشعر جرح؛ من أقدم الجروح، بمعنى أنه مرافق للإنسان الأول، ولماذا الغيب، لأن الغيب يبدأ من المستور الذي لا تعرفه، الغائب عنه وينتهي بالله ’ويسألونك عن الغيب قل الغيب من أمر ربي‘".

يستهل ناصر الدين كتابه بمقدمة رثائية للراحل، ومن الصعب رثاء الملهم الأول والمعلم الأول، يغدو الرثاء انتزاعًا للكلمات من الروح نفسها، كلمات يتسرّب منها ذلك البعد التراجيدي للفقدان، "إنه الاعتداء الوقح على طفولتي وكلماتي وذكرياتي"، يقول ناصر الدين؛ هي علاقة القربى التي تجمع الشاعرين، علاقة تمس ذكريات ناصر الدين منذ الكتاب الأول الذي قدّمه له شمس الدين عام 1983 مرفقًا بإهداء: "لمحمد الذي سيصبح شاعرًا حين يكبر"، من يومها أصيب الشاعر الصغير بتلك "الرعشة الكهربائية" التي تنذر بوحي الشعر، وصار شمس الدين الملهم والبطل، وصار صوته نبشًا في شعرية ناصر الدين، وصارت كلماته خزانًا لوقود القصيدة التي سيعتنقها ناصر الدين بشكل آخر لاحقًا. وشمس الدين ليس البطل في الشعر فقط، بل في تلمسّه لخطى الشعراء من الجيل الجديد وتقديمه النصيحة والنقد والثناء لأصغر شاعر ليرحل تاركًا إرثًا من الحب في قلوب الكثيرين من شعراء بيروت من الجيل الجديد اليوم.

كتب صاحب "آخر ما تركته البراري" الشعر الموزون وكان متعصبًا للإيقاع الموسيقي، وكتب أيضًا قصيدة نثر موسومة بالإيقاع، وفي تعريفه للحداثة يقول إن الحداثة نسبية وشبحية، فشعراء العصر الأموي والعباسي سُمّوا حداثيين لأنهم خرجوا عن نسق عمود الشعر العربي الذي كان يبدأ بالأطلال لينتقل إلى الغزل، أما أبو نواس وبشار بن برد وعدد آخر فكتبوا قصيدة الصدمة خارجين عن التراتبية وكاسرين للنسق، وبهذا المعنى هم حداثيون، أما حداثة الغرب فكانت مختلفة، وأثارت جدلًا حتى قال بودلير "يريدون منا أن نترك النظم الجميل لكلاب النثر السوداء" وتساءل عند كتابته "سأم باريس": "هل يمكن أن نشتق من النثر قصيدة"؟، ويجيب شمس الدين الذي تمسّك بالأوزان في أغلب قصائده عن سؤال بودلير "نعم، وألف نعم، ولكن الشعر ليس قصيدة النثر فقط، قصيدة النثر هي تفصيل في هوية الشعر العظيمة"، فالحداثة وفق شمس الدين "أن تأتي بالجديد المدهش"، وكل النظريات مجرورة وراء نص إبداعي عظيم، وقصائد محمد الماغوط وهو الأكثر تمسكًا بقصيدة النثر "بها من الشعرية الساطعة لدرجة أنها تفحم كل الناس". ويقول شمس الدين إن اللغة العربية لغة موسيقية وفيها ستة عشر وزنًا بينما اللغات الأوروبية لديها وزن واحد اسمه الألكسندران، "هذا يعني أن اللغة العربية بتركيبها التاريخي وأصولها وينابيعها مشقشقة موسيقيًا". ويفرّق شمس الدين بين الحداثة العربية والحداثة الغربية فالغربية ولدت بجناحين، أي أنه كان ثمة توازن بين الإبداع والمدارس النقدية والفلسفية، أما عربيًا فالحداثة العربية غير منظور لها نقديًا وما ينقص هو العرق الفلسفي للنقد الإبداعي.

منذ الكتاب الأول الذي قدّمه شمس الدين إلى ناصر الدين عام 1983 مرفقًا بإهداء: "لمحمد الذي سيصبح شاعرًا حين يكبر"، أصيب الشاعر الصغير بتلك "الرعشة الكهربائية" التي تنذر بوحي الشعر


يعتبر شمس الدين أن أهمية مجلة شعر بأنها كانت مجلة اختبارية لشعر الحداثة وأنها ترجمت مقالات نقدية في الحداثة. ويحكي كيف أنه كان بعيدًا عنها وأنه اتُهم بنرجسيته بسبب ابتعاده، وأن خلاف الشعر بينه وبين أنسي الحاج وأدونيس كان بسبب اعتداده بشعره الموزون فيما كانت نظرية رواد مجلة شعر بإطلاق الحداثة الشعرية وتحرير النص الشعري من الوزن، ولكن بعد خمسين عامًا على بدء ذلك الخلاف الشعري سيكتب أنسي الحاج مقالته في جريدة الأخبار في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013 عن شمس الدين يقول فيها: "إن محمد علي شمس الدين يفاجئني من ديوان لآخر... الشاعر شاعر في أي شكل أراد... والنازلون على شعر محمد علي شمس الدين ضيوف محسودون... لم أتوقف عن الاعتذار عما اقترفته من تنظيرات اعتباطية... وما جاء استنادنا أنا وأدونيس إلى كتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر إلا إغراقًا لنا في جملة أخطاء... نحن معشر ديوك الحداثة أجهز أولادنا على الباقي بعدما فتحنا صندوق باندورا وانطلقت منه أفاعي الكاوتشوك وعقارب القش... لننتبه أن ما نفعله هو عقاب لنا ما بعده عقاب". إذًا هو اعتراف لأنسي الحاج بأن الشعر هو كل أشكاله، ونوع من الندم لتبني قصيدة النثر كما تبناها سابقًا؛ يكتب شمس الدين "الشعرية واسعة وشاسعة وليس لنا أن نحشرها في قصيدة النثر أو اللانثر"، ويرى أن كتاب "لن" ليس شعرًا بل إشكالية شعرية والذين كتبوا قصيدة النثر اصطدموا بجدار الموسيقى.

ويستعيد شاعرنا، الحائز على جائزة مؤسسة العويس، لقاءً جمعه بعدد من الشعراء في احتفالية شعرية، منهم جابر عصفور وأحمد عبد المعطي حجازي الرافض بشكل مطلق لقصيدة النثر ودار نقاش حول الشعر بينهم، أنهاه شمس الدين باقتراح شعرية محمد الماغوط فأجمع كل المتمسكين بالقصيدة الكلاسيكية على شعريته، وفي ذلك تناقض بين ما يعلنونه وما يقع بين أيديهم من شعرية لقصائد نثر. ويقول شمس الدين "هذا أسخف تقسيم للشعر، لا التفعيلة شعرًا ولا كسرها شعرًا، الشعر هو من يصنع نفسه، هو من يعطيك الإشارة. قصيدة النثر قائمة على كسر الوزن لكنها لم تقم على كسر الإيقاع، كل قصيدة نثر لها إيقاعاتها". وفي نقاش آخر مع جابر عصفور الذي قال بزمن الرواية لأن نجيب محفوظ أخذ جائزة نوبل وهو روائي وليس بشاعر، قال شمس الدين إن تلك المقارنة بين الرواية والشعر فاسدة من أصلها وإن الشعر هو العلامة القديمة للإنسان من الأشعار المنقوشة على الكهوف وصولًا إلى أيامنا، ليقول له عصفور "سأرشحك لنوبل". لكن شمس الدين في مكان آخر سيعترف بأن الرواية اقتحمت ساحة العالم في العقدين الأخيرين "فيما كان الشعر يرقص على أحصنة عرجاء.. وأن ما يجعل الشعر معطوبًا أنه الأسرع استجابة لأمراض العصر والأكثر قابلية للجنون والصراخ"، ولينتهي بتمجيد قصيدة النثر "لتتمجد قصيدة النثر التي أنكرها أدونيس قبل صياح الديك وقال فيها أنسي الحاج في آخر أيامه ’الشعر هو كل أشكاله‘ وهجاها حجازي حتى الموت".

ابن عربي هو ليس فقط رحالة في الآفاق الإسلامية بل رحالة في النفس وفق شمس الدين، وهو الذي قال إن الشاعر يشبه الإله بفعل الخلق والخيال وإن نيتشه وهايدغر متأثران به كما تأثر غوته بابن الفارض، وأن ابن عربي هو الذي أنجز المصالحة بين النبوة والشعر. وكما هو معلوم فإن الآيات القرآنية تتضمن نقدًا ورفضًا للشعر وللشعراء، "الشعراء يتبعهم الغاوون" و"ألم ترَ أنهم في كلّ وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون"، و"ما علّمناه الشعر وما ينبغي له"، فيسأله ناصر الدين عن توجس القرآن من الشعر ليجيب شمس الدين أن في آيات القرآن روحًا شعرية، وأن "النبي الكريم أراد نوعًا من الشعر الوظيفي مثل ما يسمى اليوم الشعر الملتزم".

وبالنسبة لخياره مع مقاومة إسرائيل، يعدّ شمس الدين نفسه أنه "حر" في خياره ورفض التطبيع "إن لم تكن مع المقاومة مع من تكون؟". ويشير شمس الدين إلى تخريب الأنهار والجبال في الجنوب اللبناني، فنهر الأولي مليء بالقاذورات وبالسم، وشواطئ صيدا وصور وتلال النبطية مطامر للنفايات، ويدعو إلى تطهير الداخل من فساد السلطة المزمن والسلطة الحاكمة "لأنه أخطر من العدو الخارجي".

ويعتبر شمس الدين أن قول ثيودور أدورنو "إن الشعر لم يعد ممكنًا بعد أوشفتز" هو سفسطة ليس لها مكان، وأنه إذا كان ثمة استحالة للشعر فهي استحالة افتراضية والشعر هو الكائن بكل تحولاته، إذًا الشعر لا يموت بنظر شمس الدين، والأنثى في الشعر كرائحة التراب بعد الشتوة الأولى حيث نحس بأنوثة الأرض، "وهل يمكن أن تصنع حياة، أي حياة، بدون أنثى". و"في البدء كان الخوف... النار بنت الخوف... الدين ابن الخوف... الخوف هو السرداب... وبالطبع يأتي الحب بعد الخوف"، والشعر هو العبث المطلق فثمة خيط بين اللاشيئية واللاجدوى ينخر في جوف الكائن.

سيحكي شمس الدين أيضًا عن أول كتاب قرأه، "الغريب" لألبير كامو، وما أحدثه فيه، وعن غرفته السوداء حيث مكمن الشعر، وعن جينات "الشاعر"، وعن أعمى المعرة الذي رأى أنه كان من الأفضل عدم الوجود على الوجود، وعن شارل بودلير الذي قال "أن تعرف يعني أن تتناقض" والذي أطلق على الحياة اسمًا آخر "الانتحار" والذي يتلاطم في جسد شمس الدين. سيحكي أيضًا عن عام 2020 وعن كورونا وعن الذكرى العشرين لتحرير الجنوب اللبناني وعن انفجار 4 آب/ أغسطس وعن الجثث التي طافت على المياه المحمرة، وعن موت رفيق عمره الشاعر حسن العبدالله الذي كان يحوّل كل ما يصادفه إلى شعر، سيحكي شمس الدين الكثير من حكاياته ونحن سنصغي إليه دائمًا كأطفال يتربعون على الأرض يصغون إلى حكايا جدهم في مساءات بيروتية مظلمة. 


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.