}
عروض

"نار الله": نذير النهاية

دعد ديب

11 أكتوبر 2023
الياس كانيتي  


بين هاجس الخوف على الكتب والمحافظة عليها وبين عملية إحراقها تمتد رواية "نار الله" لإلياس كانيتي الحائز على جائزة نوبل لعام 1981 والتي ترجمها إلى العربية لأول مرة كاميران حوج، وهي من إصدارات دار المتوسط- إيطاليا لعام 2023، وقد تأرجحت بين عناوين عدة على غرار كانط يحترق وكافكا يصطاد النار إلى أن أخذت عنوانها الأخير "نار الله" أما الترجمة الحرفية للعنوان The Blinding فتراوحت بين الخداع والعمى أو الوهم؛ تأملات عمياء؛ الإبهار؛ الوهج؛ التعمية... وكلها تفيد احتجاب المعنى أو العماء عن رؤية الحقائق أو المحيط المجاور.

النص في رواية "نار الله" أشبه بأخطبوط في الحوار المتداخل إذ يتوزع بين الكلام الضمني أي الشخصية عندما تكلم ذاتها وعندما تكلم الأشياء الجامدة حولها وعندما توجه الكلام للآخر، الكلام الذي يسير باتجاهات عدة عبر شخوص العمل وميولها المتطرفة التي تفتقد التواصل فيما بينها، كل في عالمه المحدود والضيق الذي يتبدى في أسلوب كانيتي الذي ينزلق عبر تناوب الأصوات السردية بليونة بالغة من خلال السماح للشخصيات المتعددة بالتعبير عن دواخلها باللغة المعبرة عن مستوى وعي كل منها وذلك في مشهدية واحدة، والمتلقي يرى البلبلة الحاصلة نتيجة سوء الفهم فيما بينها وعدم قدرة أي شخص على تفسير سلوك الآخر، فكل يسبح في عالمه الخاص.

هذا العمل هو الرواية الوحيدة لإلياس كانيتي بين سلسلة أعمال فكرية ومسرحية جسّد فيها صراع العقل المنعزل عن الواقع الخارجي في القوقعة المكتبية التي تعيش ضمنها شخصية البروفيسور بيتر كين، عالم الصينيات، حيث وزع النص على ثلاثة عناوين فرعية تشي بالمعنى المراد: "رأس بلا عالم – عالم بلا رأس- العالم في الرأس"، حيث نرى عاشق الكتب بطريقة دونكيشوتية حيث لا شيء يفوق تقديسه المرضي للكتب، فهو يقيم حوارات مع مؤلفيها في ذهنه ويختلف ويتفق معهم ضمن حالة ذهانية خاصة وكل ما عدا ذلك لا أهمية له، ومحتقرًا بذات الوقت المراتب الأكاديمية الغافلة عن المعاني العميقة للكتب، وقد دفعته ملاحظته لاهتمام مدبرة المنزل تيريزة ومحافظتها على ثروته من الكتب المقدرة بخمسة وعشرين ألف كتاب والتي تشغل جل مساحة الشقة، لأن يتزوجها بشكل صوري، ولكن المفارقة أن الأمور لم تسر كما توقع، فالزوجة التي كانت خادمة ذات طموح وجشع كبيرين إذ بدأت بالتدريج تقلص مساحته وتستحوذ على سائر غرف المكان إلى أن طردته خارج الشقة بعد أن خاب أملها بالعثور على وصيته ودفتر إيداعاته البنكية، لأنها هي الأخرى أخذت تتوهم أنها بحصولها على أمواله تستطيع الاستحواذ على البائع الجميل "السيد غروب" الذي يغازلها لإقناعها بالشراء ويسخر منها بعد إتمام العقد، وهي إلى ذلك لا تنتبه إلى عزوفه عنها واستغلال إعجابها لإقناعها بالشراء وحسب. فهي من العماء بحيث لا تستطيع أن تفهم عالم كين ولا حياته وتقتنع أن غروب يحبها رغم وضوح سخريته منها مما يؤكد على فكرة عزلة الشخصيات عن واقع الآخرين وكل يتحرك في ذهنيته الخاصة وفكرته الواحدة عن المحيط فقط دون أي تفاعل كان.

وهنا يدخل كانيتي إلى الجزء الثاني، وهو "عالم بلا رأس"، لنرى القاع الاجتماعي الآخر في المدينة حيث كذلك التواصل مقطوع بين البشر وحيث يلتقي كين الأحدب الخبيث "فيشرله" الذي يستغله كذلك للحصول على أمواله كي يحقق حلمه بالسفر إلى أميركا ويفوز ببطولة العالم للشطرنج وأحلام اليقظة التي يعيش بها ويذهب به الذهان لحياته الجديدة الضاجة بالمجد والفوز على كل من عرف لعبة الشطرنج وما يرافق ذلك من أموال طائلة والرصيد الهائل من المعجبات الحسناوات وحتى حدبة ظهره وقبح منظره سيحلها له خبراء التجميل.


يختار كانيتي شخصيات عمله من أناس متطرفين لكل منهم عالمه الخاص، والتي لا تستطيع التواصل مع الآخرين، من "تيريزة" وجشعها؛ إلى السادي "بينيديكت بفاف"؛ المعروف باسم "القطة الحمراء" الذي أودى عنفه وقسوته لفقدانه ابنته وزوجته؛ إلى القزم "فيشرله". فجشع تيريزة وتوحش بفاف يقودهما إلى الاستفادة من مكتبة البروفيسور برهن الكتب والتخلص منها وهو الرابض هناك كدون كيشوت آخر يدافع عن الكتب بدفع ثمنها مقابل احتفاظ أصحابها بها ويلتقي الجميع هناك ويحصل الاصطدام وسوء الفهم يبلغ ذروته ويأخذ طابعًا كوميديًا ساخرًا في مركز الشرطة حيث كل شخص يفهم المواقف والجرم بطريقة مختلفة.

الفكرة الهامة هي عدم قدرة الشخصيات على فهم بعضها، وهذا يوضح عزلة الفرد في خضم تيار الحداثة الجارف في مشهد مثول البروفيسور كين أمام نقطة البوليس وذلك الاشتباك الساخر في أسلوب فهم كل من المشتكين والمتنازعين للمشكلة التي تفجرت فيما بينهم مما يثير الضحك والبكاء معًا.

كين الذي يتحول وهمه إلى يقين بأن الزوجة قد ماتت وهو الذي قتلها وقد نهشتها الكلاب وهو لشدة كراهيته لها لا يريد الاعتراف أنها هي ذاتها الماثلة أمامه وإنما هو شبحها، أما "تيريزة" فيتأكد اعتقادها بأنه قاتل لزوجة سابقة وهي بحالة خوف من مجرم يهددها وتطلب الحماية منه، أما الحارس "بفاف" وهو الشرطي المتقاعد فيفكر بالمنحة النقدية التي كان يتقاضاها منه لذا فمن مصلحته أن يقر بأنه لا يوجد جثة هناك وأن البروفيسور إنسان متعلم وتلك هي العاهرة التي سرقته.

الشخصية الوحيدة بالنص التي لها بعض الصفات الإيجابية هي لأخ جورج كين، الطبيب الذي يشرف على مصحة للمجانين ويتعامل معهم بشكل إنساني متفهم، يدخل إلى مسرح الأحداث في الجزء الثالث وهو "العالم في الرأس" ليعيد الأمور إلى نصابها وليرتب حياة أخيه ويبعد الخبثاء عنه ويعيد بعض الاتزان والرصانة له على الرغم من أن عالم الصينيات لم يكف عن مهاجمة أسلوب حياة الطبيب محافظًا على عناده ورفضه لأي مساعدة منه ومتمترسًا بفكرته القديمة عن عبث أخيه وعشقه للنساء وعدم اكتراثه بالكتب، الأخ الذي يغادر مطمئنًٍا لتتصاعد حالة البروفيسور المرضية وينتهي بالحريق الذي يلتهم كل شيء.

الحريق بدلالته الرمزية كارثة تحيق بالجميع وأولها الكتب بإشارة مضمرة الى اقتراب النازية وآثارها المحتملة والحرب العالمية الثانية التي دقت طبولها بعد أربع سنوات من كتابة الرواية مما جعلها أشبه بنبوءة لخراب قادم من خلال انتقاده لمجتمع القاع ومجتمع المثقفين معًا وانفصال أفراده عن الواقع وعدم وجود لغة مشتركة للتواصل، واعتبره بعض النقاد بمثابة تحذير من الشمولية التي درسها كانيتي بمؤلفات أخرى مثل "الحشد والسلطة" الذي صدر عام 1960 كدراسة أنثربولوجية عن الجماهير والسلطة.

كتب كانيتي سيرته الذاتية في ثلاثة أجزاء. وقد حظيت باهتمام النقاد الذين اعتبروا آراءه الخاصة حول الجندر متأثرة بالفكر المعاصر والخلفية الشخصية، كعامل هام في التمثيل الأدبي للجندر في الرواية، فهو لم يكن متأثرًا بأفكار أوتو وينينغر وكارل كراوس حول الجندر وحسب وإنما في توقع هذا الأخير لصعود النازية ونهايتها بعد ذلك في كتابه "الأيام الأخيرة للبشرية".

ولعل تشابه العمل مع سيرته الذاتية يدفعنا للتساؤل: هل يسخر كانيتي من نفسه ومن المغالاة المفرطة لغرامه بالكتب ببداية حياته، أم كان يحلل واقع المجتمع على شفير الحرب وواقع الظروف المحيطة بما يعنيه من العجز عن فهم الواقع أو العماء والانسحاب من التواصل العام، وذلك الفصل الكامل بين من ينتمي لعالم الثقافة وبين من ينتمي لعالم البحث عن المال والمصالح المادية والأمور الدنيوية والغرائزية حيث كل شيء مباح مقابل المال، بحيث ننظر إلى العالم ولا نراه، عوالم منفصلة عن الأخرى؛ نماذج بشرية لا تشبه بعضها في تجسيد اللامبالاة التي يعيشها الأفراد تجاه الشأن العام؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.