}
عروض

مساهمة عزمي بشارة الفلسفية في مسألة الدولة ونظرياتها

عمر كوش

13 أكتوبر 2023

نالت الدولة، فكرة ومفهومًا، عنايةً خاصة من طرف الفلاسفة والمفكرين والمؤرخين، منذ عهود الإغريق، وصولًا إلى أزمنة الحداثة وما بعدها، وتناولوها ليس بوصفها تعبيرًا عن حاجة الكيانات البشرية إلى منظومة تدبِّر لها عيشها وديمومتها، بل لأنها أيضًا تعبّر عن حاجتها الأساسية، وبما يُشعر الجماعات بوجودها وهويتها الجمعية والحضارية، فراح فلاسفة وعلماء الاجتماع يستجلون مفهومها وتعيناتها، ويضعون تصوّرات لها، وكان السؤال عن ماهية الدولة وبداهة حضورها في تاريخ الحضارات سؤالًا فلسفيًا بامتياز، فيما أخذ مفهوم الدولة، بما هي دولة، يُدرس على مستوى الفكرة والظاهرة، سواء من جهة كونه قضية أنطولوجية، تتعلق بالجماعات البشرية، أم بنظم عيشها وعلاقاتها في التاريخ.
لم ينقطع النظر في مفهوم الدولة، وممكنات تطويره، خاصة وأن الحقل الفكري العربي يفتقر إلى مساهمات نظرية كافية في هذا السياق، حيث لم يول الفلاسفة والمفكرون العرب الدولة جهدًا كافيًا، من أجل تطوير مفهومها، خاصة الدولة بمفهومها الحديث، التي لم تنل ما تستحقه من الدراسة والبحث العلمي، إذ لم يتناولوها بوصفها قضية مستقلة من خلال تطورها التاريخي، الأمر الذي جعلها مضمرة في الوعي العربي المعاصر، وأفضى إلى جعل مفهومها إشكاليًا في الفكر السياسي العربي الحديث، ومختلطًا بمفاهيم أخرى، مثل النظام والسلطة والحكم والإدارة وغيرها، وظل تابعًا لمفاهيم هجينة وغير مقيدة.
غير أن هذا المجال عرف مساهمات نوعية، بدأت تتواتر في السنوات الأخيرة من طرف بعض المفكرين العرب، وكان أبرزها المساهمة النظرية التي قدمها المفكّر عزمي بشارة في كتابه "مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023)، والتي تكمن أهميتها ليس على مستوى تلبية حاجة المكتبة العربية إليها، إنما على مستوى تناوله موضوعًا شديد الإلحاح والراهنية، والأهم هو تقديم مساهمة نظرية، غايتها تطوير تعريف الدولة من منظور نقدي، من خلال ربطها بالمواطنة، ومراجعة ونقد ما تراكم من جهد نظري غربي بشأن الدولة، والتمييز بين الدولة ونظام الحكم، وتبيان العلاقة بين مفاهيم السيادة والشرعية والمواطنة، وكذلك مسألة العلاقة بين الأمة والقومية وسوى ذلك.
يبدأ بشارة نقاشه الفلسفي حول ماهية أو جوهر مفترض للدولة يحدد مفهومها، كما تجسد لدى هيغل وماركس وأنغلز، وعند الليبراليين، وفلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر وسواهم، وذلك كي يبيّن أن فلسفة الدولة ونظرياتها، كان هدفها التوصل إلى تصور معين لطبيعة نظام الحكم، فيما يطمح هو إلى تقديم تصور ينتمي إلى حقل الفلسفة السياسية والنظرية السياسية، التي تنهض على اعتبار الدولة مفهومًا، ينبغي النظر إليه وفهمه بوصفه كيانًا حديثًا، يجمع بين النخب الحاكمة والمحكومين، الذين ينتمون إليه. وأهم تجسيداته هي المواطنة، التي تعني عضوية الحكام والمحكومين فيه، وعليه، فإن الدافع للكتاب وهدفه الأول، حسبما يحدّده بشارة، يكمن في الإسهام في بلورة، أو لنقل تطوير، مفهوم للدولة، وبحث مختلف مسائلها، وخاصة تلك التي تميّز الدولة الحديثة عن سابقاتها، فيما يتمثل الهدف الآخر في أن موضوع الدولة حاسم بالنسبة إلى الانتقال الديمقراطي.




تكوّنت الدول، ونمت، عبر عمليات تاريخية طويلة المدى، وهي نتاج عمل بشري جماعاتي متضافر، أي أنها لم تكن حكرًا على الإرادات الفردية، حتى وإن وجه دفتها الحكام، إلا أن ذلك لا يحدث بسهولة أو بشكل فعال، لكن البحث يدور هنا عن مقاربة نظرية للدولة، تستفيد من عمل المؤرخين في نشوء الدول، والبحث في حقول العلوم السياسية وعلم الاجتماع وعلم القانون والحقوق، بغية التوصل إلى فلسفة تكوين الدولة واجتراح نظرية الدولة، أو بالأحرى نظرية في الدولة، بالاستناد إلى الفلسفة الأخلاقية واعتماد محاجاتها، بحيث يمكن صياغة مفهوم نقدي وإنساني للدولة، وفق منهج يركن إلى التأمل الفلسفي، من دون أن يكتفي به، بل يلجأ أيضًا إلى استخدام الأداوت العلمية، وفق ما يقتضيه البحث العلمي التاريخي والأمبريقي، من أجل الخوض في تاريخ نشأة الدولة، وعرض طبيعة المجتمع ونظام الحكم والمؤسسات البيروقراطية وسوى ذلك.
تشكلت الدولة الحديثة في أوروبا خلال العصر الحديث، وهي تحوز على أبوّة كاملة لنماذج الدولة في باقي أنحاء العالم، التي تحولت إليه من خلال تبني نموذج الدولة الأوروبي، أو فرضه بشكل قسري عليها، من دون المرور بمساري تشكلها، اللذين يحدد أولهما بشارة نتيجة نشوء بيروقراطية ومركزة السلطة وتمايز وظائفها، وتحولها إلى دولة إقليمية، وثانيهما تمثل في تطوّر المدن الحرة الأوروبية وثقافتها منذ نهاية العصور الوسطى، حين بدأت تمارس المواطنة فيها بوصفها عضوية فاعلة في المدينة، وكانت حصرية وإقصائية.



غير أن الدولة ليست نتاج البيروقراطية المدنية والعسكرية، وهي لا تختصر فيها، ولا في النظام السياسي، الذي يتضمن مصادر القوة وممارستها داخل أجهزة الدولة، وبينها وبين المجتمع، وبالتالي تأسست الدولة من جملة مؤسسات تكونت ونمت بفعل ظروف تاريخية متفاوتة زمنيًّا. وتفترق الدولة عن النظام السياسي من جهة أن النظام يشير إلى مجموعة قواعد تحدّد من يحوز على سلطة الدولة، لكنه يمسّ أيضًا علاقات القوة بين مجموعة من المؤسسات والكيانات والأفراد، وعليه، يجري تمييز الدولة من النظام السياسي، إذ إن لكل منهما مساراته التاريخية الخاصة المستقلة عن الآخر، حتى وإن تقاطعت في كثير من الأحيان، لذلك لا يتمّ التركيز على أنظمة تشكّل الدولة، بل على مؤسساتها التي تتوسع وتتمدّد باستمرار، وبعضها يتمتّع باستقلالية نسبية، فيما تسعى الأنظمة المتعاقبة للسيطرة عليها، وقد تنجح في أحيان وتفشل في أحيان أخرى.
القول الجديد لدى بشارة في نظرية الدولة يتمحور في ربط تعريف الدولة بالمواطنة، على أن تتحقق المواطنة الحديثة في عضوية الفرد المباشرة في كيان يجمع السلطة والمجتمع الذي تحكمه، ويؤسس للسيادة، بوصفها الحق في ممارسة السلطة الحصرية على الإقليم والناس في الدولة المستقلة، التي تشرع باسمها القوانين، وتمارس السلطات في نطاق سيادتها، والتي يبيّن بشارة أنها تتحول إلى سيادة القانون، ومشروطة بوجود شعب، ووجود مشتركات بينه وبين الحكام. وهنا يميز بشارة بين الدولة كمفهوم، وتعينات أو أقلمات الدولة على أرض الواقع، حيث توجد دول أكثر تركيبًا وتعقيدًا من المفهوم، والأمر ذاته ينسحب على مفهوم المواطنة وتعيناته، لكن في جميع الحالات، فإن منطلق التعريف يُبنى على فرضية السيادة، التي تعني الحق الحصري في التشريع، وتنفيذ التشريعات والقوانين على إقليم معين محدد سياسيًا. وعليه، فإن أهم فرضيات الكتاب ترى أن المواطنة من أهم مكونات تعريف الدولة الحديثة الأساسية، بصفتها تلك العلاقة المركبة من الحقوق والواجبات، التي لم تشملها التعريفات السابقة، فيما كان القاسم المشترك بين تعريفات الدولة السابقة هو احتكار العنف الشرعي، حسبما اجترح مقولته ماكس فيبر، التي تميّز الدولة بالقدرة على استخدامه أو احتكاره من غيرها من المؤسسات والكيانات.
غير أن الدولة الحديثة تفترق عن الدول السابقة عليها بما يتجاوز ممارسة السيادة من خلال احتكار التشريع والقدرة على ممارسة العنف الشرعي ضمن إقليم معين، على أن نفهم الإقليم ليس جغرافيا فقط، إنما بشرًا وبيئة مكتنفة، ليطاول الوجود المشترك بين الحكام والمحكومين، الذي تعد المواطنة آخر تجلياته، والتي تتجاوز الانتماءات والهويات الأخرى، لتغدو المكون الرئيس للأمة ذات السيادة في الدولة، وبالتالي بات من غير الممكن تعريف الدولة الحديثة من دون المواطنة التي أصبحت الوجه الآخر للسيادة، حيث أن فهم السيادة بوصفها سلطة الدولة على إقليم وسكانه لم يعد كافيًا، ولا تفي بالغرض مصطلحات غائمة مثل سيادة الشعب، كونها لا تدخل في تعريف الدولة، بل في تبيان طبيعة نظام الحكم، لذلك يرى بشارة أن الديمقراطية ليست شرطًا للمواطنة، لكن المواطنة شرط الديمقراطية، بما يعني أن المواطنة تصبح عضوية في الدولة ومساواة قانونية في المكانة، ولا تفترض المساواة الاجتماعية ولا تستلزم الديمقراطية، ولا حيوية المجال العمومي.




يسخر بشارة من الأيديولوجية التي تنبأت بانحلال الدولة وذوبانها في مجتمع المساواة الكاملة ونهاية الملكية الخاصة، أو تلك التي دعت إلى حلّها، إذ تبين أن الأحزاب التي تبنت مثل هذه الإيديولوجيات أشادت أشد الأنظمة تمسكًا بحكم الدولة ودورها، وأكثرها تضخيمًا لبيروقراطيتها، وكانت شمولية وتسلطية، هيمنت على مختلف مفاصل المجتمع ومجالات الحياة. كما ظهر أن بديل غياب الدولة هو الحروب الأهلية وسيادة العصبيات ما قبل المدنية، وفي المقابل، بينت التجارب أن غياب الدولة ليس رديف الحرية، بل قد ينطوي على فوضى عدم الخضوع للقانون وفوضى السلاح والعنف. وعليه، يحذر بشارة من خطورة غياب الدولة، في البلدان العربية، وخطورة وهم الاستغناء عنها، ونتائج هذا الغياب المروعة لناحية الفوضى التي تظهر آفات المجتمع. وعلى الرغم من التغيرات والتحديات التي واجهتها الدولة خلال القرن العشرين، إلا أنها بقيت بوصفها كيانًا حديثًا، وازدادت أهميتها، ونشأت بنى جديدة ووظائف جديدة، وجرى الحفاظ حتى على سيادة الدول الفاشلة، وغير القادرة على فرض سيادتها داخليًا، وتنهشها النزاعات والصراعات.
ويعد بشارة بأن يخصص كتابًا، سيصدره قريبًا، يتناول الدولة العربية، وبانتظار ذلك، يرى أن نموذج الدولة في العالم العربي، ومعه ما يسمى دول العالم الثالث، لم يشهد عملية متدرجة لمركزة السلطة والعنف، وسابقة على تأسيس الدولة الحديثة، كما حصل في الدولة الأوروبية، إذ أن الدولة الحديثة عربيًا نشأت في إثر عملية مركزة، قامت بها قوى أجنبية محتلة، أو وصية، أو غيرها. وعندما قامت الدولة العربية، كانت هنالك قوى أخرى تقليدية أهلية تعاونت الدولة معها، أو استغلتها في البداية، فيما تشهد الدولة العربية المعاصرة في كل من العراق ولبنان وجود ميليشيات طائفية مسلحة، حيث لم تعد الدولة تحتكر العنف وحدها، فيما تحول النظام السوري إلى ميليشيا في الحرب التي شنها ضد السوريين بعد ثورة 2011. وفي مطلق الأحوال ابتعدت الدولة العربية عن مفهوم الدولة الحديثة، بالنظر إلى عوامل عديدة، تشمل تحول النظام الرئاسي المستبد في بعض الحالات إلى نظام شبه سلطاني، وضمور المواطنة في علاقة الفرد بالدولة، وبروز قضايا الشروخ الاجتماعية العامودية، وضعف مؤسسات الدولة غير الأمنية، وتآكل ثقافة الدولة في مقابل صعود الفئوية والطائفية والجهوية والمحسوبية والزبائنية في اعتبارات الحكم والسلطة، وقرن الأنظمة السلطوية الولاء للنظام السياسي القائم بالوطنية وعدم الولاء بالخيانة الوطنية، وأخيرًا ضعف الإجماع على الدولة.

أخيرًا، يشكل الكتاب امتدادًا لمشروع بشارة الفكري، واستكمالًا لما بدأه في كتبه السابقة، وخاصة "المجتمع المدني" (1996)، الذي يرى فيه الدولة شرطًا للمجتمع المدني، وكتاب "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" (2022)، الذي تناول فيه نشوء فكر الدولة في نهاية العصر الوسيط وبداية عصر النهضة في أوروبا، وكتاب "المسألة العربية" (2007)، الذي ميّز فيه بين الأمة والقومية، وكتاب "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته" (2020)، الذي بيّن فيه شرط رسوخ الدولة كأحد شروط نجاح الانتقال الديمقراطي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.