}
عروض

"حنَبات": قصص ساخرة و"مشفرة" من اليمن

صدام الزيدي

16 أكتوبر 2023


في مجموعته القصصية "حنَبات"، الصادرة حديثًا عن دار "عناوين بوكس" في القاهرة، يقدم الكاتب اليمني، فكري قاسم، نمطًا جديدًا في كتابة القصص، منقلبًا على الفضاء الذي اعتاد الناس قراءته لمجاميع قصصية تصدر هنا وهناك، فهو أولًا، ينجز قصصًا ساخرةً تمضي سردياتها وفق استدراكات تجعل من كل قصة فضاءً مفتوحًا على الاحتمالات ضمن لعبة سردية تنبني على خلق "حنَبات"/ مآزق جديدة كلما انتظمت متونها، وهنا يمكننا التحليق مع 6 قصص مبثوثة على امتداد كتاب من 100 صفحة، وثانيًا، يستطيع الكاتب بأسلوبه البسيط وغير المتكلف إقناع القارئ أن يمضي في قراءة القصة متشوقًا لما سيتداعى من حبكات ومآزق وانتقالات تختلف عما هو مألوف من قصص محكومة بالانطباع والاشتغال المسبق الذي يفيد بأنها "قصص قصيرة"، حيث يتجاوز قاسم كل هذه التوقعات ويخلخل النمط المرسوم في ذهن قارئه عن حدود ومضامين الفن القصصي، إذ كل قصة يمكنها في المجمل أن لا تزيد عن 5 صفحات، لكن في كتابه قد تصل القصة إلى 15 صفحة.
ومن يقرأ مقالات فكري قاسم، المنشورة في الصحافة، والتي تتسم بالأفق السياسي البحت، يجد في كتابه "حنَبات" اختلافًا بسيطًا في السياق، فهو هنا يقدم نفسه قاصًا متمكنًا، لا كاتب مقالات رأي، ما يعكس قدرته على تنويع منجزه الإبداعي، بين مقالات سياسية، وأخرى اجتماعية، وأخرى قصصية، تناقش في مجموعها حياة الناس في اليمن ومعاناتهم اليومية، ليس في غضون فترة الحرب الدائرة حاليًا، وإنما منذ ما قبل الحرب، حيث تتكرر صور وأشكال المعاناة، وتتضاعف نسب الفقر، وتتداخل الهموم وتتشابك من فترة لأخرى، وكلما حدث تغير سياسي، انعكس بالتالي على منظومة متغيرات، من بينها ما هو طارئ تفرضه اللحظة الراهنة، غير أنه يمكن القول إن كل كتابات فكري قاسم تلتقي في زاوية "الكتابة الساخرة" وهي نافذة يطل منها صاحبها على أحوال أبناء مجتمعه صانعًا بينه وبين القراء جسرًا متينًا يقوم على الشغف واستحسان كل ما يكتبه، بل ومتابعة كل جديد له، وهذا ما جسدته حالة الاحتفاء (الشعبية والرسمية) الواسعة بكتابه القصصي عندما ارتفعت لوحات دعائية في جزر الشوارع الرئيسية بمدينة تعز، قبل فترة، ضمن الدعوة لفعالية توقيع لـ"حنَبات"، نظمها مكتب الثقافة هناك، والحال أن كاتبًا بحجم فكري قاسم جدير باحتفاء كهذا، ولا بد أن في جعبته كثيرًا مما يخفف من عناء القلوب المكسورة حينما تلوذ بمقالة أو قصة أو كتاب لكاتب ما زال يشغل الناس ويتملك قلوبهم بلغته الساخرة وبكلمته المعبرة عن همومهم وأشجانهم، وليس ببعيد عن ذاكرة القارئ، تلك الأعداد الأسبوعية كل خميس من ملحق "الثقافية" الذي صار صحيفة أسبوعية في ما بعد تصدر عن مؤسسة "الجمهورية" للصحافة في تعز، المتضمنة أجمل كتابات ساخرة لذيذة تشهدها الصحافة اليمنية تحت إمضاء فكري قاسم.




يكتب قاسم ببساطة مستخدمًا اللهجة اليمنية الدارجة والشعبية، التي تمكنه من الانتشار في قلوب البسطاء والغلابة، مستغنيًا عن الكتابة بلغة فصحى، وهو أسلوبه المعتاد الذي جعل منه نجمًا للكتابة الساخرة في بلد تضيق فيه مساحة الحرية ومساحات الترفيه والفرح رويدًا رويدًا في خضمّ يوميات عاصفة وتشنجات في المشهد السياسي تلقي بظلالها على كل شيء.

قصص "مشفّرة"...
وسيتعين على القارئ العربي (أو على الأقل القارئ الذي ليس على تواصل بيمنيين هنا أو هناك) أن ينأى بنفسه عن قراءة كتاب "حنبات"، هذا لأن كثيرًا من مفرداته "مشفرة" غير مفهومة، لكن ذلك لا يعني عدم الاستمتاع بجماليات النص القصصي وعوالمه المتضاربة والمتناقضة وشخصياته المثيرة والخطيرة بدءًا من السارد البطل (الذي يكون هو الكاتب نفسه وتارةً يكون فأرًا متسللًا إلى المطبخ طقوسه رومانسية بحتة، لا يفكر في إشباع جوعه كما تفعل كل الفئران، بل في المغازلة والمواعدة والرقص مستفيدًا من صوت العصّارة الكهربائية كموسيقى تستدعي الرقص والعناق)، أو شخصيات ثانوية يمكنها القيام بكثير من مهام وأدوار البطل، مثل شخصية "بهلول" الرجل المتطفل في سلوكه مع كل من أراد أن يحصل على مكرمة من رجل الخير المعروف هائل سعيد أنعم، الذي أسس لأكبر مجموعة شركات اقتصادية يمنية، عندما تنتهي القصة بتأكيد من الكاتب يبرز فيه مكانة الحاج هائل بين قلوب اليمنيين وعطاءاته الكبيرة، وفي الوقت نفسه، تؤكد أن هنالك متطفلين لم يسلم منهم حتى كبار التجار والصناعيين ورجال الخير الطيبين. وفي قصة أخرى، يتشارك الكاتب دور البطولة مع فأر متيم عاشق ومغامِر أيضًا وأحيانًا مع مجموعة فئران كما في قصة "العصارة" التي تستثمر تقنية الحوار بين الكاتب والفئران في مناقشة غير مباشرة لهموم انقطاعات الكهرباء، وشظف العيش، ووضع المطابخ في البيوت الفقيرة التي تستوطنها الفئران، لا لتأكل (فلا يوجد فيها ما يسد الرمق أصلًا)، وإنما لتمرح وترقص كلما اشتغل صوت "العصارة" الكهربائية، حيث مواعيد غرامية بين الفئران تتشكل هناك، ويستلف الكاتب من الأفلام الهندية مفردات على لسان الفئران مثل: (بيااااااااه؛ نيهيييييه)، على أن متوالية السرد ـ في مجمل قصص الكتاب ـ تمتح من المفارقة والمفاجأة، إذ تنفتح مآزق جديدة كلما انتهى مأزق حياتي يخوضه الكاتب، مثل قصة "التوأمة مع البودي"، التي تبدأ بمأزق ضياع شنطة الكاتب من خزانة باص النقل البري الذي استقله من مدينة تعز إلى العاصمة صنعاء في بداية مشواره الجامعي والتحاقه بكلية الإعلام في صنعاء، وفي ليلة وصوله اندلعت فكرة جميلة في رأسه هي فكرة "التوأمة" مستفيدًا من خبر سريع بثته إذاعة وطنية بينما كان يستقل الباص من فرزة الركاب إلى "شارع الرقاص" للالتحاق بمجموعة من شباب الحارة عمالًا وموظفين صغارًا، وجاء في الخبر أن هنالك تواصلًا أكاديميًا يجري حاليًا بين جامعة صنعاء وجامعة السوربون الفرنسية يهدف إلى تنفيذ "توأمة أكاديمية"، وهي الفكرة التي أصبحت ممكنة للتنفيذ أيضًا من قبل الكاتب الذي شرع بالتوأمة مع بدلات وملابس في سكنه الأول، وشعوره بالخجل بسبب ظهوره أمام زملائه طلاب وطالبات الإعلام ببدلة واحدة لا تتغير. وينتقل الكاتب من سكن إلى آخر وتتطور أدوات وأحلام التوأمة من فترة لأخرى، وصولًا إلى التوأمة مع صديق من الطلاب يبدو حاله ميسورًا عن سالفيه، إذ يرتدي بدلات رسمية من ماركات عالمية شهيرة، وهنا "يتوئم" الكاتب معه مستفيدًا من خزانة ملابسة الممتلئة بالبدلات والألبسة والكرافتات والجوارب والجزمات ونحو ذلك، ما جعل من فرصته الأولى للسفر خارج اليمن ممثلًا للبلد في مؤتمر للشباب العرب في ليبيا سيقام في "جزيرة مالطا"، لكن مأزق ضياع شنطة السفر يحدث مجددًا فور وصول الوفود المشاركة التراب الليبي، وعلى مدى عشرة أيام، يخسر الكاتب فرصة الذهاب إلى مقر الفعاليات اليومية للمؤتمر، ويظل حبيس غرفته في الفندق، ولا يمكنه سوى النزول إلى مطعم الفندق ثلاث مرات في اليوم لتناول الوجبات مرتديًا فنيلة خفيفة وشورت سباحة، وحدث ذلك بسبب سفر عامل المغسلة الطارئ إلى قريته البعيدة في الصحراء الليبية، وهو الذي استلم منه بدلته الوحيدة بغرض غسلها وكيّها، وفشل العامل المناوب الجديد في العثور على بدلة وحيدة ضاعت في ردهات مغسلة، وصارت حكايتها غامضة محيرة، وهكذا يعود الكاتب إلى وطنه الأم شبه عارٍ، بينما تتوالى قصص فكري قاسم مشعة بوهج الكتابة الساحرة، ومضيئة بصخب الكلمة الساخرة التي صار أبرز نجومها بلا منافس.
حملت النصوص الستة عناوين: من سرق حذاء هائل سعيد؟؛ إيش بعد آي لاف يو؟ توأمة مع البودي؛ العصّارة؛ زد عدمنا البرميل؛ بخت المداكي. وسيشتبك القارئ غير اليمني للعناوين السالفة مع مفردات تبدو عصية على الفهم، مثل: (إيش. وتعني: ماذا؟)، (البودي: المساحة المخصصة للحمولات والبضائع في السيارات)، (زد عِدِمنا: فوق ذلك خسِرنا).....
وفكري قاسم مولود في 10 يونيو/ حزيران 1975 بمدينة تعز (جنوب غربي اليمن)، متخرج في كلية الإعلام، جامعة صنعاء سنة 1999. اتجه إلى الكتابة المسرحية في بواكير مشواره الإبداعي، وهو أحد مؤسسي ما عرف بـ"مسرح الشارع" في اليمن. صدرت له قبل "حنبات (قصص ساخرة، 2023)": "بلد في حارة (مقالات اجتماعية ساخرة/ 2008)"؛ "علم الزرّة (مقالات اجتماعية ساخرة/ 2012)". له قيد الطبع مسرحيتان كوميديتان. قبل سنوات قليلة من اندلاع الحرب كان أصدر "حديث المدينة"، وهي صحيفة أسبوعية شاملة تصدر من تعز، كان مصيرها الاحتجاب شأنها شأن عديد منابر إعلامية وثقافية يمنية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.