}
عروض

"القط المنتظر": مقاربة المجتمع البشري باستخدام ثيمة الحيوان

باسم سليمان

19 أكتوبر 2023


ليست ثيمة السرد على ألسنة الحيوانات جديدة، بل قديمة قِدم المخيال البشري، وهذا القِدم حمّال أوجه، فقد لعب الحيوان أدوارًا مهمّة في التاريخ البشري، فمن الأصل الطوطمي الحيواني للإنسان، إلى تجليات الألوهة بأشكال حيوانية، كما رأينا مع زيوس الذي تحوّل إلى ثور، كي يغوي أوروبا ويخطفها إلى القارة التي سمّيت باسمها. مرورًا باستخدام الحيوان كأضحية تعضد المجموعة البشرية وتحقّق تماهيها مع إلهها، وصولًا إلى أن أصبح الحيوان رمزًا في التخييل البشري، وذلك عبر تحميله رسائل من الحكمة، كما مع إيسوب الإغريقي، إلى نصائح الحكيم بيدبا للحاكم دبشليم في صيغتها التي عرفناها مع ابن المقفع. وأخيرًا تعبيرًا عن المجتمع البشري في "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل.

وما يعنينا هنا، ونحن نقارب رواية "القط المنتظر" (الفائزة بالجائزة الوطنية في الصين زينغ ينغ لعام 2023 والصادرة عن دار The Grand Library للنشر والتوزيع في بريطانيا) هو جانب الرمز في الحيوان كأسلوب لتمرير ما يراد قوله بدبلوماسية من دون أن تمانع الرقابة أكانت دينية أو سياسية، لكن هذا الرمز أصبح مفضوحًا، فتشبيه الحاكم بالأسد والشعب بالثور يكاد أن يكون ضحلًا. ومن هذه الرؤية يأتي السؤال، لماذا ذهبت الروائية المصرية منى برنس إلى تسريد حياة قط، يحلم بأن يصبح رئيسًا لجزيرة دائرية، تحكمها قطة بيد من حديد ورثت السلطة عن أمها؟

أتى اختيار برنس لرمز القط، لربط مكان جزيرتها غير المسمّاة بمصر حيث كان القط إلهًا ومعبودًا للجماهير. ولتنطلق منه لمقاربتها للحظة الحاضرة، مستدعية الدلالة الجديدة له التي ترتبت على تغيّر الأحوال وانقلابها رأسًا على عقب، فالقط  ليس كائنًا اجتماعيًا، أكان بين أبناء جنسه أو مع البشر، إذا قسناه بالكلب، فكما يقول المثل عن القط: "أكّال نكّار" وهو بذلك يشبه الحكّام الذين ما إن يستلموا السلطة حتى يتنكّروا لكلّ وعودهم!

ومن جانب آخر، اختارت برنس قطًا ذكرًا يسعى لإزاحة إحدى الحاكمات الإناث، حتى لو في التخييل، ضاربة بعرض الحائط ما تسعى إليه الإناث من كل الأنواع والأجناس لانتزاع السلطة من الذكور، بعد أن تسيّدوا عليها لأكثر من خمسة آلاف عام، فما الذي تفعله برنس، وهل هناك أصعب من خيانة المرء لبني جنسه!

بهذه الدلالات المضمرة المذكورة أعلاه، والتي يشي بها عنوان رواية برنس"القط المنتظر"، وما تحيل إليه من أفكار وعقائد دينية؛ تبدأ روايتها بتوطئة لتعرّف القارئ بهذا القط العجيب والذي يدعى (راجي – الذي يأتي اسمه من الرجاء) الذي لم يبق من أرواحه إلّا السابعة، التي يحيا الآن بموجب طاقتها؛ خائضًا جدالًا مع أرواحه السابقة، فالأولى التي ذهبت بحادث سقوط عن شجرة على الرغم من خبرتها الحياتية وحكمتها، قالت له: "لن يتركوك" فيما روحه الثانية التي قتلت في عراك مع كائن غامض أخبرته بحدسها: "سيحاربونك بضراوة" أمّا الروح الثالثة العاشقة للمغامرة، فشدّت على يده موافقة على فكرته، لكن روحه الرابعة المصابة بوسواس قهري وتعتقد بأنّ هناك من يتجسّس عليها، فقد أحجمت عن منحه أفكارها خوفًا. لم تخالف الخامسة رأي الروح الأولى والثانية، لكن السادسة الكسولة ماءت وتثاءبت ضجرًا من هذا الجدل البيزنطي.

لم يكن راجي القط الأول، الذي فكّر بالترشح للانتخابات الرئاسية، بل كانت هناك قطط إناث قد سبقهنه، وكان مصيرهن السجن أو القتل أو الاختفاء، إلّا أنّ ميزة راجي، بأنّه قط ذكر، جنس من رتبة أدنى يعاني ما تعانيه الإناث في عالم البشر، فكثيرًا ما تعرض للتحرّش وحتى الاغتصاب وتشويه وجهه، فقد قامت إحدى القطط بنزع شاربيه وقضم شفته، لكن هذا يحدث كثيرًا لغيره من الذكور، فلماذا التأفّف!

 اختارت برنس قطًا ذكرًا يسعى لإزاحة إحدى الحاكمات الإناث  


حسم راجي أمره، وانطلق في رحلته يجوب البلاد، معلنًا عن نيته الترشح للرئاسة مستهديًا بقول الشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود: (إمّا حياةٌ تسر الصديق.. وإمّا ممات يغيظ العدا). لقد عارضته عائلته، لكن أخته تلك القطيطة الصغيرة دعمته، فهناك الكثير من القطط الإناث يرغبن بتداول السلطة بينهن وبين الذكور، لكن سطوة القطة الحاكمة، لم تكن تسمح حتى بترشّح قطة من ذات جنسها، فكيف بذكر من القطط.

وصل راجي إلى منطقة جبلية، وهناك يتعرّف على القطة الجميلة روكا، ويكتشف مقدار تردي الخدمات المدنية، وما تواجد السلطات القططية، إلّا لقمع أي تحرّك مضاد نحو القطة الحاكمة. يعيش راجي في الجبل لحظات عميقة من التأمّل، ويكتشف أنّ بلده متعدّد الأعراق والأجناس ويعرف قصة الصخرة النائحة، التي كانت قطة قتلها أخوها، لأنّه اشتبه بحملها من دون زواج، فتحوّلت إلى صخرة تبكي. كان ذلك منذ زمن بعيد على ما يبدو، حيث كان القطط الذكور هم الحكّام ويمارسون عنفهم الخاص. يقع راجي في غرام روكا ويترك في بطنها بذرة صغيرة ويغادر، ليكمل رحلته في أنحاء البلاد لتتضح صورة أخرى له، لا تقدّمها وسائل إعلام القطة الحاكمة، وكيف أنّها تعاهدت مع دول أخرى للتعاون في قمع أيّة حركة احتجاجية على حكمها وحكم القطط الإناث في تلك الدول.

من جبل إلى سهل، ومن وادي إلى صحراء، ومن غرفة في فندق ينام فيها راجي بعد تجوال طويل، إلى النوم في سيارته على الطرقات وحيدًا، مرورًا بالتعرّف على الكثير من القطط من إناث وذكور الذين ثمنوا خطوته في الترشح إلى الرئاسة ووعدوه بأن يمنحوه توكيلاتهم وأصواتهم. تتابعت جولات راجي إلى أن يلتقي بصديقته أستا، فيتبادلان الأخبار وما آلت إليه حياتهما. لقد كانت القطة أستا دكتورة في الجامعة تبذل جهدها لتنقل المعرفة إلى طلابها، لكنّ النظام لم يكن مرتاحًا لها، فدبّر له شركًا، بأن أخذت لها صورة وهي تلوك العلكة؛ وهذا يعتبر خروجًا عن السلوك العام، فتم فصلها من وظيفتها الجامعية. هذه القصة المتهكّمة من قبل برنس تذكّرنا بقضيتها التي فصلت بموجبها من التعليم إثر نشر صورٍ لها وهي ترقص!

يطوف راجي في بلاده معيدًا اكتشافها، فيجد غناها باختلاف الأعراق والأجناس التي تسكنها، فهناك على سبيل المثال، جنس أبيض من القطط استعبد قديمًا من القطط الملونة وإن تحصّل على حريته أخيرًا، لكن ما زال التعامل معه فيه الكثير من العنصرية. وراجي بذاته كقط ذكر، لم يكن أحسن حالًا، حيث تؤنّبه إحدى القطط على أحلامه، فمكانه البيت، والعمل على إنجاب قطط أخرى تسبّح بحمد الحاكمة القطة.

في إحدى رحلاته داخل البلاد كاد أن يموت، لولا مساعدة من عائلة قطط استضافته. وهنا يتحقّق ما كان يأمله بأنّ له روحًا تاسعة، ونادرون هم القطط الذين يملكون تسع أرواح، فيملأ الأمل قلب راجي وخاصة أنّه دار على مزارات البلاد المقدّسة يطلب من خلالها أن تستجيب السماء لسعيه، ليس ليكون أول حاكم ذكر، بل ليفتح الطريق لتداول السلطة، فقد كان منهجه في الدعاية بأنّ الرئاسة هي تعاون بين الحاكم والمحكوم، فالحاكم ليس إلهًا ليعرف كل شيء. لربما دوره الأكبر يكون في التنسيق بين الوزارات والإدارات المختصّة، فهي أعلم وأكثر خبرة بما تتطلبه البلاد لتنهض.

يستغل نظام القطة الحاكمة جولة راجي، لإظهار نفسه للرأي العام العالمي، بأنّ البلاد تُدار عبر الديمقراطية، لكن كثرة السجينات من القطط يفضح هذا الإدعاء. ينهي راجي رحلته، فيلقى استقبالًا حافلًا من أسرته، لكنّهم ينفضّوا عنه ما إن يتأكّدوا من أنّه سيترشّح فعلًا، في وجه القطة الحاكمة، فلا يجد أي داعم من أسرته، إلّا أخته الصغيرة. ومع ذلك لا تلين عريكته، فيتابع إجراءات الترشّح وتقديم التوكيلات، إلّا أنّ الواقع يزدري حلمه بأنّ لا أحد سيكون معه، فهل تغلّب طبع القطط الأناني؟ لكن هناك استثناء، إنّه القط راجي! في النهاية يدخل راجي في غيبوبة تحيّر الأطباء ولا يستفيق منها، إلّا عندما يخمشه قطيطه الصغير الذي أنجبه من القطة روكا وهي تقول له: "هذه بذرتك. بذرتك التي ستكمّل الدرب من بعدك".

عبر سرد سلس ومتهكّم جدًا سطّرت منى برنس قصة القط راجي، منشئة من تضاد المفاهيم معمار روايتها، فالقطط المشهور عنها أنانيتها من الممكن تخليصها من ذلك الطبع عبر فكرة المواطنة، فالمواطنة تحرّر الفرد/ القط من طبائعه ومصالحه، وتجعله يرتقي فوق صراع الذكورة والأنوثة والمصالح والعقائد والانتماءات، ليصبح الجميع سواسية أمام القانون في الحقوق والواجبات. الشيء الآخر أبرزت حكاية راجي بأنّ السلطة، هي من تخدع الطبيعة وتغيّرها، والتي زودت الأنواع وأجناسها بمميزات لا تفاضل بينها وإن اختلفت، فعندما حكمت البلاد قطة تراجع الذكور إلى المرتبة الثانية، بحيث تفرض عليهم العادات والأعراف كيفية الجلوس والمشي والكلام ونوعية الوظائف والأعمال ومقدار الطموح. هكذا استطاعت برنس عبر استخدام ثيمة الحيوان مقاربة المجتمع البشري وطرح العديد من القضايا الشائكة، أسواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، من دون استعداء الرقابة، وهذا هو نفس المنحى الذي استخدمه الحكيم بيدبا وغيره ممن استخدموا الرمز الحيواني للتعبير عن حياة البشر، فالرواية تتعلّق بسيرة قط أحمق يحلم بأن يصبح رئيسًا لجزيرة القطط، فما خصّنا نحن البشر!

شاب الرواية بعض التكرار في الأحداث، لكن ذلك لم يخفّف من تدفّق السرد والمتعة في تذوقه، فسيرة حياة القط راجي تستحق أن تحتذى من قبل البشر.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.