}
عروض

حكاية مدينة حيفا من مخزون ذاكرات أهلها

يوسف الشايب

28 أكتوبر 2023

 تتتبّع الباحثة الفلسطينية روضة غنايم، في كتابها الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان "حيفا في الذاكرة الشفوية: أحياء وبيوت وناس"، تاريخ خمسة أحياء في مدينة حيفا، هي: العتيقة، والكولونيّة الألمانية، وعبّاس، ووادي النسناس، ووادي الصليب، من خلال روايات ذاتيّة لأفراد سكنوا الأحياء الخمسة يسردون فيها تاريخ عائلاتهم، وتفاصيل حيواتهم اليومية. تجمع هذه المرويّات ما بين سير الناس وسيرة فلسطين عامة، ومدينة حيفا على وجه الخصوص، علاوة على صور من ألبوماتهم الشخصية، في رحلة تعقب لتاريخ المدينة، والتطورات التي طرأت عليها، وما شهدته من أحداث منذ نهاية الفترة العثمانية إلى أيامنا هذه.
ويلفت ميخائيل توما، في تقديمه للكتاب، إلى أن للأحياء الخمسة التي تحكي عنها الباحثة طابعًا قوميًّا ودينيًّا وطبقيًّا مُعيّنًا... ومع ذلك، نكتشف من خلال قصص سكّان الحي أن الأحياء لم تكن مغلقة تمامًا، وأن الحدود بينهما كانت ليّنة، ففي حي النسناس، مثلًا، عاش العرب واليهود أثناء الانتداب البريطاني، و"بعد قيام إسرائيل"، بجوار بعضهم بعضًا، جيرانًا، في أحيان كثيرة، في المبنى نفسه، كما في قصة فيروز الفلسطينية العربية، وسيما اليهودية، كما عاش في حيّ الألمانية عرب وألمان ويهود إلى جوار بعضهم، وكان هنالك مستأجرون يهود يسكنون بيوتًا مملوكة لعرب، كما في قصة دافيد وشفيق. أما في شارع الفرس المحاذي لحي الألمانية، فقد عاشت الجالية البهائية التي كان زعيمها إسماعيل أفندي، وكان يتمشى في جادة الكرمل بحي الألمانية، بينما عاشت الأرستقراطية الفلسطينية العربية في حي عبّاس على مقربة من الجالية البهائيّة، ففي بداية الشارع، يقف حتى يومنا هذا الدير والمدرسة اللذان أنشأتهما الراهبات الفرنسيّات، لكن "بعد قيام إسرائيل" بُنيت في حي عبّاس بنايات سكنية سكنها يهود فقط، مع أن الحي كان معروفًا، ولأعوام عديدة، كونه حيًّا عربيًا يهوديًّا. وإلى الأعلى من حي وادي الصليب كانت هناك بيوت، بعضها قائم حتى اليوم، لأرستقراطيين فلسطينيين، على مقربة من مبنى البلدية الذي يقع حتى يومنا هذا مقابل منطقة البرج في الحي الذي أنشئ تحت عنوان "هدار هكرمل".
ونكتشف في كتاب غنايم، أيضًا، تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، مثل: علاقات الجيران، والولادة، والزواج، وأماكن العمل، فنجد مثلًا، وفق توما، أن عيادة الطبيب اليهودي الذي كان يعيش في حيّ بات "غاليم" اليهودي كانت موجودة في حي "العتيقة" المجاور، وكان معظم سكانه من العرب الفلسطينيين.
ويرى توما أن كتاب غنايم "يعيدنا بالزمن إلى الوراء، ويحاول بناء ماضي مدينة حيفا من خلال كلمات من عايش تلك الحقبة، فمعظم الذين قابلتهم الباحثة في الكتاب هم من العرب، وعليه، فإن معظم قصص الكتاب تناولت تاريخهم في المدينة، التي هُجّر منها خلال حرب عام 1948 حوالي 60 ألفًا من سكّانها الفلسطينيين العرب، ولم يتبق منهم إلا 3500، أصبح معظمهم لاجئين في مدينتهم، وتركزت غالبيتهم في حي وادي النسناس، وسكن بعضهم في حي عبّاس، كما انضم لهم لاجئون من مختلف القرى العربية".




ويجد القارئ في الكتاب أوصافًا حيّة للمعارك التي وقعت في شوارع حيفا، منها إطلاق النار من قناصي العصابات الصهيونية، والقصف، كما في حكاية عفاف فرح، على سبيل المثال، بحيث يعيش من يقلب الصفحات تفاصيل القصص الواردة فيه وحيوات هذه العائلات التي اضطرت إلى الهجرة مع القليل مما كانت تملك، معتقدة أنها ستعود إلى بيتها في غضون أسابيع قليلة، كما يعيش القراء كذلك مصير العائدين القلائل إلى بيوتهم التي وجدوها منهوبة، أو مسكونة بغزاة غرباء، كما في حكاية فريال كركبي، أو إلى أرض مصادرة، كحال إلياس شحادة، المزارع الذي صودرت أرضه التي كان يملكها لإقامة محطة باصات "إيغد"، وهي شركة الحافلات الإسرائيلية الأكبر إلى يومنا هذا، وغيرها من القصص التي كتبت بطريقة تجعلها قريبة من القارئ الذي كأنه يقرأ رواية، وإن كانت الحكايات تستمد قوتها من صدقيتها وشفافيتها، فالكتاب يمثل شهادة على الوجود العربي الكبير في حيفا ما قبل النكبة، فهو وجود ملأ المدينة، وسوقها، وتجارتها، والحياة الثقافية والسياسية فيها.
وبدأت سياسة محو أثر الوجود العربي في حيفا منذ الأعوام الأولى لإعلان إقامة دولة إسرائيل، وهو ما انعكس في تغيير الأسماء العربية للشوارع، والهدم الممنهج للأحياء العربية، كحي وادي الصليب، وحي العتيقة، فيما بقيت في حيفا بقايا قليلة جدًّا من المعمار العربي، وهي الحقائق التي دعمتها غنايم بالشهادات التي جمعتها، وأضفت على الحقائق أبعادًا إنسانيّة قيّمة. رغم ذلك بقيت حيفا حتى بعد عقود من النكبة مركزًا ثقافيًّا وسياسيًّا لمن يسكنها من الفلسطينيين، فقد أقامت فيها شخصيات فلسطينية بارزة، كالروائي والكاتب إميل حبيبي، والشاعر محمود درويش، والشاعر سميح القاسم، والمحامي حنّا نقارة، والسياسي توفيق طوبي، وغيرهم ممّن كان لهم الأثر الكبير في سيرورة وصيرورة المجتمع الفلسطيني العربي في البلاد.
و"حيفا في الذاكرة الشفوية" ليس كتابًا تقليديًا عن تاريخ مدينة حيفا، ولا يبتغي تحليل تطوّر الأحداث التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي مرّت على المدينة، بقدر ما هو كتاب مذكرات يروي سرديات ذاتية باتت بمجموعها سرديات جماعية وجمعية لبعض العائلات الفلسطينية الحيفاوية التي تعيش في أحياء المدينة الخمسة، المشار إليها أعلاه، وهي سرديات من خلال تعقبها، كما وردت على ألسنة الرواة، وما مرّ عليهم وشهدوه من أحداث، يمكننا بناء حكاية المدينة، وتحولاتها، ومآلاتها. الكتاب يفسح المجال لسكان حيفا الفلسطينيين كي يرووا سرديّاتهم بصوتهم الخاص والأصيل، وتاريخ عائلاتهم، والنكبة التي عاشوها، كما تفاصيل حيواتهم اليومية.
ويمكن وصف السرديات هذه بالفريدة من نوعها، فهي تروي الحياة اليومية لأصحابها منذ نهاية الفترة العثمانية إلى يومنا هذا، كما سردها وتذكرها أصحابها، لقناعة غنايم أنه من المهم إحضار واستحضار سرديّاتهم كاملة كما هي، إضافة إلى أهمية حضورهم بصريًا من خلال صورهم وبورتريهاتهم، ما يشكل شهادة مكتوبة ومصورة عنهم وعن حيواتهم في الفترة التي عاشوها في حيفا، بحيث شكلت الصور نصوصًا بصرية موازية، علاوة على الخرائط والصور الجوية.
وتطرقت غنايم للدور المهم للصحف والمجلات التي صدرت في حيفا، فترة ما أسمته بالانتداب البريطاني، وأهمّها: صحيفة "الكرمل"، التي أسسها نجيب نصّار عام 1908، وتوقفت عن الصدور خلال الحرب العالمية الأولى، ثم عادت للصدور مرة أخرة في عام 1920، واستمرت حتى عام 1942، إذ أصدرت سلطات الانتداب البريطاني أمرًا بإيقاف صدورها، نظرًا لدورها الكبير في كشف النوايا والمطامع الصهيونية، وتوعية الشعب العربي وتحذيره من المخططات الاستعمارية الصهيونية، مع الإشارة إلى أن ساذج نصّار، زوجة نجيب نصّار، تولت تحرير الصحيفة وإدارتها في أعوامها الأخيرة... وهناك أيضًا صحيفة "النفير" التي تأسست في الإسكندرية مطلع القرن العشرين، ثم انتقلت إلى القدس عام 1908، ثم إلى حيفا لصاحبها إيليا زكّا عام 1913، وكانت نصف أسبوعية، وتوقف إصدارها مع بدء الحرب العالمية الأولى، وأصدرت من جديد بعد الحرب حتى عام 1945.




وصدرت في حيفا صحيفة "الطبل" الأسبوعية التي أسسها إبراهيم محمد كريم عام 1921، وصحيفة "السلام"، وهي عربية يهودية صدرت في القدس، ثم في حيفا، قبل عودتها إلى القدس مجدّدًا، وكان صاحبها اليهودي نسيم ملول، وكذلك مجلة "الزهرة"، التي كانت تصدر مرتين شهريًا، وأسسها جميل البحري عام 1921، ومجلة "النفائس الأدبية"، وأسسها خليل بيدس عام 1908 وصدرت لفترة في حيفا، ثم انتقلت إلى القدس، فبيروت، وصحيفة "جراب الكردي"، وكان محررها الأول متري الحلاج، وأدارها باسيلا الجدع، وخليل نصر، عند صدورها عام 1908، وصدرت لأعوام في حيفا. وهنالك أيضًا "العصا"، و"الصاعقة"، و"المحبة"، وصدرت لفترة قصيرة فقط.
وظهرت، كما ورد في الكتاب، صحف ومجلات أخرى في حيفا، مثل: المهماز، وحيفا، والأردن (جراب الكردي سابقًا)، واليرموك، والزهور، وآخر ساعة، والبشرى، وكشاف الصحراء، والنهضة، والرابطة، وسمير، كما صدرت باللغة الإنكليزية في حيفا، صحيفتا: "تايمز أوف بالستاين"، و"ذي بالستاين دايلي ميل".
كما أشارت غنايم باقتضاب إلى أنه كانت في حيفا، في عهد الانتداب البريطاني، مسارح ودور سينما ونوادٍ ثقافية ورياضية، ومقاهٍ، وغيرها.
في الفصل الأول المعنون بـ"حي حيفا العتيقة: محطة الكرمل"، يتتبع القارئ حكاية جانيت مطر (أم ذيب)، والفنان جورج ناصر إسكندر، وجان ماري نجم، وعائلة علي القاضي، ويوميات من حياته، وحياة فياض حسن مصلح (بطاح)، وفكتوريا يوسف زيناتي، بينما نقرأ في الفصل الثاني "الكولونيّة التمبلرية الألمانية: حي الألمانيّة"، حكايات حول بيت لورانس أوليفانت، ومقهى بروس، وبيت جورج زوس، ولقطات من حياة "السيدة لوسي" في حيفا قبل عام 1948، ونهب الأرض من الجد الأكبر إلياس حبيب شحادة خداعًا، والبيت في وادي السيّاح (كفار سمير)، وقضيّة البيت 24، وبيت البساتين 23، والبيت 57، وبيت عائلة المزراوي، وقصة المستأجر دافيد، وبين البساتين 10 (هغنيم).
وفي "حي عبّاس" الفصل الثالث للكتاب، نقرأ إحدى عشرة سردية في حي عباس، وعن بيت السياسي والأديب إميل حبيبي، وبيت الصحافي علي إبراهيم عاشور، وبيت عباس 36، وتحوّله إلى مسرحية للفنانة رائدة طه، وفيلم وثائقي من إنتاج "الجزيرة الوثائقية" للمخرجة مروة جبارة الطيبي، ونضال رافع، وعن الجد نور الدين العباسي، وذكريات الدكتور عنان مع عمه الشاعر عصام عباسي، ودرج عصام العباسي، وعباس 31: بين سهيل حسن شكري، وعباس 45: بيت المؤرخ إميل توما، وحياة وذكريات ميخائيل توما من شارع عباس، وذكريات غيره.
وفي الفصل الرابع حول حي "وادي النسناس"، نقرأ سرديات لأهل الحي كقصة تهجير وعودة فيروز، وليلة سقوط حيفا، وشقيقتها فكتوريا التي كانت تعمل قابلة لدى الملك حسين في مدينة الحسين الطبية في عمّان، وأشرفت على ميلاد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بن الحسين، وغيرها من الحكايات الشيقة المرتبطة بمسيرتها في المدينة التي سكنت كل منهما الأخرى، قبل مرافقة اليهودية سيكا أبراهام يكير، ومن ثم علاقتها بفيروز، قبل الحديث عن بيت رجا صهيون، ونزوح العائلة عن حيفا، و"بيت الشعب" الذي هو بيت المحامي حنّا نقارة (محامي الأرض)، وحديث طويل عنه عبر سرد لنائلة حنا نقارة، وقصة اسم الخوري، والجمعية التعاونية "قوت الكادحين"، ومطعم "قوت الكادحين"، وأوجيني خليف ووالديها ونشاطها السياسي والاجتماعي، وحادثة مقتل جد جان زهر، وبيت قيسارية، وحكاية رفيق كركبي، وصالون الشعر رفيفي للسيدات في وادي النسناس، وغيرها من الحكايات التي لا يمكن أن تغادر قرّاءها بسهولة.
وفي الفصل الخامس والأخير "حيّ وادي الصليب" تحدثت غنايم عن مشوارها في الحي، علاوة على رصده في ثلاث سرديّات تناولت بيت عبد الرحمن الحاج، وبيت مفتي حيفا الشيخ محمد مراد، وبيت رشيد الحاج إبراهيم.
الكتاب يروي تاريخ مدينة حيفا عبر سرديّات الناس (الميكرو ـ ستوريا)، ويسلط الضوء على قصتها من زوايا مختلفة، وهو تاريخها من مخزون ذاكرة أهلها، وكذلك تحوّلات المدينة من خلال سرديّات أهلها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.