}
عروض

كتاب لباحث عراقي في تفنيد فرضيات نسب المتنبي

علي لفتة سعيد

6 أكتوبر 2023


يتبنى الباحث والناقد العراقي أحمد الشطري، من خلال مناقشة وتحليل الروايات التاريخية لحياة وسيرة أبي الطيب المتنبي، فرضيةً جديدةً حول نسبه وحياته وشخصيته، عبر كتابٍ صدر له أخيرًا، مناقشًا ومفنّدًا عددًا من الفرضيات التي تحدّثت عن أصوله وانتماءاته العقائدية والفكرية، سواء كان حول قرمطيته، أو انحيازه القومي، أو تشيّعه، ليؤكد تحرّره من الميولات المذهبية والقومية، وانحيازه التام لطموحاته الشخصية، وسعيه إلى التفرّد وتسيّد ساحة الشعر، مستندًا إلى قدرته الإبداعية المتميزة.
فرضية الشطري هذه جاءت نتيجة للقراءات العديدة لما صدر عن المتنبي، سواء ما كان من نقودٍ لشعره، أم تحقيقاتٍ لنسبه، أو تحليل ما انطوت عليه قصائده من صورٍ تعكس شخصيته وفكره، وفقًا لرؤية الباحث، بدءًا من طفولته وأحداث حياته ومماته. ووفقًا لذلك، فقد ناقش وفنّد كثيرًا ممّا ارتبط بما ذكرته الكتب التاريخية والتحقيقية، أو الرسائل والأطروحات الجامعية، فكان كتابه الذي يحمل عنوان "أبو الطيب المتنبّي: إشكالية النسب والسيرة" هو صورة لما توصّل إليه.
وُلد أحمد الشطري عام 1961 في قضاء الشطرة شمال محافظة ذي قار، وهو حاصل على ماجستير لغة عربية، وعضو الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق، صدرت له خمس مجاميع شعرية، هي "مدونة الصمت"، و"مسلة المدن المهاجرة"، و"راءات في جذور الماء"، و"إني آنستُ نورًا"، و"مواويل الفتى السومري". كما صدرت له رواية واحدة هي "شمس تبريز". صدر له في النقد "غواية الشعر ـ دراسة أنطولوجية في الشعر الشطري"، و"خيمة من عبق ـ دراسة موازنة"، وله تحت الطبع في النقد "دراسات أسلوبية تطبيقية في الشعر المعاصر"، و"إيقاع الصورة الشعرية" فضلًا عن مخطوطات عديدة في الشعر والنقد.

كتاب المتنبّي
يبدو أنّ كلّ مبدعٍ مشهورٍ وله مكانة إبداعية يتعرّض إلى كثير من متغيّرات الحقائق، وتبديل الوقائع، فإذا كنّا نحن في الزمن الحاضر، زمن انتشار المعلومة والتقنيات، نقرأ الأخبار بطرقٍ متعدّدةٍ، مثلما نقرأ المتغيّرات التي تصل الى حد الاتّهامات، أو التي يمكن ربطها بمحاولات التسقيط، فكيف بذاك الزمن (303هـ ـ 354هـ) (915م ـ 965م) الذي كان فيه المتنبي شاعرًا ومغامرًا وقويًا يتحدّث عن نفسه مثلما يمدح ويهجو الملوك والخلفاء؟
ولهذا وقف الباحث الشطري أمام الاختلافات العديدة عن المتنبي ونشأته ونسبه وسيرته، من خلال تحليل شخصيته، وفقًا للمرويّات وتحليل نتاجه الشعري. وقد رأى الباحث أن سمة المبالغة التي اتّسم بها المتنبّي شخصًا وشعرًا هي ما جعلت منه في نظر الجميع عبر العصور يبدو شخصيةً إشكاليةً تدور حوله الحكايات، حتى أصبح الاسم الشعري الذي لا يعلى عليه، أو هو كذلك، وأصبحت كثير من أبياته الشعرية مصدرًا رئيسيًا من مصادر الحكم والأمثال التي تتردّد على أفواه الناس، بما انطوت عليه من جماليةٍ بلاغيةٍ وقوّة سبكٍ من جهةٍ، وعمقٍ في المعنى وحسن العبارة من جهةٍ أخرى، وهو ما جعله حاضرًا عبر كلّ العصور الذي تلت عصره.




وأمام ما اكتنف حياته وشخصيته من إشكالياتٍ شرّق الباحثون وغرّبوا فيها حتى تعدّدت الأقوال والتحقيقات وضاع الصدق في الحقيقة التي تنوّعت واختلفت وتوزّعت. وعلى ذلك فإن الباحث الشطري يرسم في كتابه صورةً جديدةً لسيرة حياة ونسب المتنبّي، محاولًا كشف الغموض، أو إيجاد مقاربةٍ منطقيةٍ للاختلافات العديدة من قبل المدوّنين، والتي جعلتهم ينسبونه إلى أنسابٍ مختلفة، ويأخذون سيرته إلى مناحٍ عديدةٍ ومتشعّبة. فقد نسب مرّة إلى أنه ابن سقّاءٍ مغمور، ومرّةً إلى النسب العلوي، ثم إلى أنه ابن الإمام المهدي. ويرى الباحث أن المتنبّي نفسه ربما ساهم بشكلٍ وبآخر في إحاطة نسبه وشخصيته بالغموض، سواء بادّعاءاته، أم بشعره وفخره المبالغ فيه. فمن المعروف أن المتنبّي يبالغ في كلّ شيء، حتى وصف بالغرور والنرجسية. ولهذا فإن الباحث، ومن خلال تحقيقه للنصوص التاريخية ومناقشتها سندًا ومتنًا وتحليلًا ومحاورةً قصائده، أراد إثبات أنّ معظم تلك الادّعاءات لا تمت إلى الواقع بصلة، وتوصّل إلى أن أصحّ نسب له هو أنه أحمد بن الحسين بن الحسن المتنبي الجعفي، وأنه قد رضع من حليب امرأةٍ من نساء آل عبيد الله العلوي بعد وفاة أمّه، وهو ما دعا آل عبيد الله العلوي للعناية به وتقريبه. وأنه ذهب إلى الشام وادّعى هناك العلوية، أو المهدوية، لأنّ الحركات الغالبة في ذلك الوقت هي الدعوات المهدوية، مفنّدًا من اتهمه بادّعاء النبوة، وعدّه واهمًا، لأن تلك الدعوة غير قابلةٍ للتصديق، خاصة في تلك البلاد. ويشير الى أن المتنبّي أذكى من أن يدّعي شيئًا يعرف أنه محكومٌ عليه بالفشل. مثلما ينفي الباحث أن يكون المتنبّي قرمطيًا كما ادّعى بعض المستشرقين وتبعهم في ذلك طه حسين، ويرى بأن ما روي من التزامات المتنبّي الأخلاقية لم تكن عن وازعٍ ديني، وإنما هي عن بواعث ذاتية، كما أنه كان بعيدًا عن الهواجس المذهبية، أو القومية، بل إنه شخصيةٌ لا يهمّها سوى تحقيق طموحه في الإمرة والغنى.
قد يقدم الكتاب صورةً جديدةً لسيرة حياة ونسب المتنبّي، ليزيد في الخلافات حول هذا الموضوع، لكنه جهدٍ أدبي بحثي غير منحازٍ إلى عظمة المتنبي ذاته، بل يؤكّد بعد أن يفنّد كلّ الفرضيات أن المتنبي لم يكن معنيًا بكلّ ما نسب إليه، بما فيها الانتماء المذهبي، مثلما يرفض الباحث في كتابه فرضية الانحياز القومي للمتنبّي، ويخلص إلى أنه كان متحرّرًا من كلّ المحدّدات القومية والمذهبية، وكان انتماؤه الأهم إلى طموحه وأحلامه في الإمارة، أو المكانة المتفردة.
لكن السؤال الذي يبقى مطروحًا: لماذا كلّ هذه الإشكاليات عن حياة ونسب المتنبّي؟ هل لأنه كان قويّ الشخصية ومبرزًا في شاعريته؛ ليتعرّض إلى الهجوم من أجل إسقاطه، وقتل طموحه، ومشاغبة تقرّبه من الملوك؟ أو من أجل تغريب حياته بعد أن وصل إلى ما وصل إليه في زمانه في حياته ليكتب عنه المعادون كثيرًا من الحكايات التي تصل إلى حدّ التشويه؟ وربما هنالك أسبابٌ أخرى أيضًا، منها أن شعره كان مثار جدلٍ.

وقد جاء كتاب الشطري في فصله الأوّل محاورًا الروايات التاريخية التي تتعلّق بنسب المتنبي وشخصيته ومسيرة حياته بطريقة المحقّق، فيبدأ وفق نظرةٍ تحليليةٍ لأسانيدها ومتونها. وفي الفصل الثاني، وضع أمامه مجموعة من أهم الكتب التي تحدّثت عن هذا الموضوع، والتي افترضت هي الأخرى ما يمكن أن يكون الحقيقة بحسب وجهة مؤلّفيها ومدوّنيها. أما الفصل الثالث فرسم الباحث فيه صورةً لحياة المتنبي ونسبه وأفكاره، وفق وجهة نظره هو ككاتبٍ ومحقّقٍ، وبالاستناد إلى الصحيح من الروايات، وإلى رؤيةٍ تحليليةٍ لقصائده التي اجتهد في تحليلها وتحقيقها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.