}
عروض

موسوعة غوستاف دالمان بالعربية: تاريخ فلسطين ومعالمها وفنونها

صقر أبو فخر

10 نوفمبر 2023


يحق للثقافة الفلسطينية أن تزهو وتحتفي بحدث معرفي استثنائي هو صدور موسوعة تاريخية وأنثروبولوجية وثقافية عن فلسطين والقدس قل نظيرها في المكتبة العربية. أما الموسوعة فهي كتاب "العمل والعادات والتقاليد في فلسطين" للمستعرب الألماني واللاهوتي وعالم الآثار والمتخصص باللغات القديمة (الآرامية واليونانية والعربية والعبرية) غوستاف دالمان. وكان دالمان جاء إلى القدس، أول مرة، في سنة 1899 لدراسة المدينة وأحوال سكانها، وعاش فيها حتى سنة 1917 حين غادرها مع دخول الجيش البريطاني إليها بقيادة الجنرال إدموند ألّنبي. لكنه ظل يتردد على المدينة سنوات بعد ذلك التاريخ، ويتابع بحوثه وتجواله في المنطقة، إلى أن تمكن من تأليف هذا الكتاب الرفيع والنادر.
استغرق العمل على تأليف الكتاب نحو أربع عشرة سنة. غير أن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تمكن، خلال نحو ثلاث سنوات، من إصدار هذا الكتاب بالعربية، وبمجلداته العشرة، في مغامرة علمية أحجمت عنها المؤسسات البحثية الفلسطينية والعربية لوعورة ترجمته من الألمانية، ولصعوبة تحقيق فصول مجلداته تحقيقًا علميًا دقيقًا بحسب الأصول. وفي هذا الميدان، قرر المركز العربي للأبحاث أن يتصدى لتلك المهمة الشاقة والشائقة، فانبرى إلى ترجمة هذه الموسوعة، ثم إصدارها بعد خمس وتسعين سنة على صدور المجلد الأول بالألمانية في سنة 1928، وإحدى وثمانين سنة على صدور المجلد الأخير الذي ظهر في سنة 1942 بعد وفاة المؤلف بسنة واحدة (المترجم الأول: محمد أبو زيد؛ المترجمون: عمر الغول، وفيوليت الراهب، ومتري الراهب، وجوزف حرب. التحرير العلمي وضبط المصطلحات وأسماء المواقع: صقر أبو فخر). وكتاب "العمل والعادات والتقاليد في فلسطين" هو في الأصل ثمانية مجلدات في تسعة أجزاء، وقد استحسن المركز العربي للأبحاث أن يضيف إليه مجلدًا عاشرًا وسَمَه المؤلف بعنوان "القدس ومحيطها الطبيعي"، الذي نشره دالمان في سنة 1930 كثمرة عمل متواصل استغرق نحو ثلاثين سنة، ليصبح مجموع مجلدات هذه الموسوعة عشرة.

حياة شعب في كتاب
شغف غوستاف دالمان بحياة سكان القرى الفلسطينية، وبطرائق العيش في النواحي السهلية والجبلية، وعند تخوم الصحارى والبوادي، وراح يجول في شعاب تلك الديار وجوارها، كشرق الأردن، وحوران، وجبل الشيخ، ودمشق، وحلب، وشمال الجليل، ممتطيًا بغلًا، وينام في بيوت الفلاحين وخيام البدو. وتمكن، بالمعلومات الثرية التي دوّنها، من عقد صلة متينة بين الجغرافيا والآثار والإثنولوجيا والحياة اليومية للناس، واستطاع أن يعيد إلى المكان الفلسطيني ذاكرته الموروثة والمتوهجة، وأن يكشف حيوية سكانه وتفصيلات حياتهم، وأن يبرهن أن للمكان ذاكرة وتاريخًا وآثارًا، ولسكان المكان لغة وتقاليد وحكايات وخرافات وأغانيَ وأمثالًا وألبسة وأطعمة ومواسم واحتفالات وأعيادًا وحِرفًا، وهو ما برع دالمان في تسجيله وتصويره بدقة ومهارة.




ثم عكف على دراسة ذلك كله، واستخلاص البدايات والمنشأ القديم لهذه العناصر الحضارية، واستكشاف ينابيع الحياة اليومية الجارية، الأمر الذي برهن بقوة أن الشعب الفلسطيني ما برح موجودًا باستمرار فوق أرضه منذ الأزمان القديمة، وأكّد، بما لا يترك مجالًا للشك، أن من المحال معرفة تاريخ فلسطين استنادًا إلى النصوص الدينية، خصوصًا اليهودية، بل استنادًا إلى التاريخ الحي للناس الذين يحيَون فوق هذا المكان الحي بدوره.
قلّما تيسَّر لفلسطين عالم آثار، أو مستعرب، أو رحالة، أكبّ على دراسة المجتمع الفلسطيني من داخله. فقد دأب الآثاريون واللاهوتيون والرحالة، إلا القليل منهم، على المجيء إلى فلسطين والمشرق العربي لزيارة مواقع محددة مذكورة في الكتب الدينية، ثم يعودون إلى بلادهم لإلقاء محاضرات عامة، أو لكتابة مقالات وصفية عن رحلاتهم. أما غوستاف دالمان فكان طرازًا مختلفًا تمامًا عن اللاهوتيين التوراتيين الأوروبيين، أو المستكشفين الأميركيين، إذ توفر على دراسة المكان الفلسطيني من خلال العيش فيه سنوات وسنوات. وليس من المستغرب أن دالمان، عالم الآثار ومدير المعهد الإنجيلي لآثار الأرض المقدسة، لم يبادر إلى أي حفريات آثارية في فلسطين. ولعله لم يرغب في نبش التربة الفلسطينية للبحث عن اللقى والمطمورات البشرية الثاوية في باطن الأرض، بل انثنى إلى حياة الفلسطينيين فوق الأرض ليستكشف فلسطين وتاريخها وعمرانها وحياة السكان فيها التي ما زالت مستمرة ومتواصلة حتى اليوم بعناصرها التكوينية القديمة والمتجددة في آن.

بين يدي الكتاب 
سيعثر الباحث والدارس والمؤرخ وعلماء الاجتماع والاقتصاد والجغرافيا والأنثروبولوجيا، والمهتمون بفنون الغناء والموسيقى والتصوير، في ثنايا هذا السفر الجليل على تحقيق علمي للمصطلحات وأسماء المواقع والأَعلام بحسب المسميات التاريخية للمكان والأسماء السارية حاليًا. ويتناول الكتاب، في دراسته الحياة الاجتماعية لسكان فلسطين، جميع مظاهر الاستقرار البشري، كسكنى الحجر (منازل الحضر)، وسكنى المَدَر (بيوت الطين في الأرياف)، وسكنى الشعر (خيام البدو)، ويرصد الحياة اليومية لأهل المدينة وتجاراتهم ومعاشهم وحرفهم، ولأهل الأرياف الفلاحين وصنوف عيشهم، ولأهل البوادي ومراعيهم ومواشيهم وسقايتها وضروب تحصيل الماء والكلأ.
ولا يكتمل وصف حياة الناس لدى غوستاف دالمان من دون وصف المكان الذي يعيش هؤلاء الناس فوقه وفي شعابه. ولهذه الغاية شُغل دالمان بتسجيل كل شيء عن فلسطين، كعيون الماء والبرك والحمامات والتلال والجبال والأودية والحصون والقلاع والأبراج والأديرة والمدارس. ولعل من حسن طالع الباحثين العرب أن ترجمة هذا الكتاب الشامل إلى العربية ألجأت المترجم والمحرر العلمي إلى بذل أقصى الجهد في تحقيق كل موضع في هذا الكتاب والتحقق من لفظه ورسمه وموقعه. وبهذا المعنى، سيعرف القارئ أن جبل الطور هو نفسه طورزيتا، أو جبل الزيتون، وأن مدرسة طاليتا قومي (أيتها الصبية قومي) هي نفسها مدرسة شارلوتة، وأن وادي قدرون له مسميات شتى، مثل وادي الربابة، ووادي إبن هنوم، ووادي القلت (القتل)، ووادي سلوان، ووادي ستنامريم، وأن بيت عنيا هي اليوم بلدة العيزرية، وأن وادي التيروبيين هو نفسه وادي الجبّانين وحي الواد، وأن عين روجيل هي نفسها عين القصّارين، أو بير أيوب، أو عين أم الدرج، وأن جبل المشهد (سكوبس) هو نفسه رأس المشارف، أو جبل الصوانة... وهكذا.

المستعرب الألماني واللاهوتي وعالم الآثار والمتخصص باللغات القديمة (الآرامية واليونانية والعربية والعبرية) غوستاف دالمان

صرامة العلم ورحابة الوصف 
صدر المجلد الأول من كتاب "العمل والعادات والتقاليد في فلسطين" في سنة 1928، ثم صدر المجلد الثامن الأخير في سنة 1942، أي بعد وفاة المؤلف بسنة واحدة. وتناولت المجلدات الثمانية كل شيء عن فلسطين: فصول السنة، والتقاويم العربية والقبطية والغريغورية، وما يرافقها من رياح وأمطار وحرث وحصاد وصنع الخبز والغذاء، علاوة على الأغاني والآلات الموسيقية والاحتفالات والأعياد والمواسم الشعبية وجميع ما يتعلق بالحياة اليومية للسكان وعباداتهم وطقوسهم وأفراحهم وأتراحهم. وقد اعتمد المؤلف في صوغ كتابه هذا منهجًا متعدد الطبقات استخدم فيه عناصر شتى كالآثار والأنثروبولوجيا والطبوغرافيا والتاريخ، بما في ذلك التاريخ اللاهوتي والصور. وبهذا المعنى، فإن دالمان تخطى المنهج الوصفي في علم التاريخ إلى رحاب التاريخ الشامل، فاستفاد من علوم وفنون وحوادث كثيرة، كالاقتصاد والأوبئة والهجرات وحركات السكان والعمارة والثقافة، وحتى الترفيه لتحليل مَثَلٍ شعبي أو حادثة تاريخية، أو لشرح ظاهرة ما، أو لإعادة تكوين مرحلة تاريخية معينة، أو إعادة اكتشاف بعض الوقائع وأسبابها ودوافعها. وقد كرس دالمان علمه وجهده لدراسة الأعياد الدينية الفلسطينية والاحتفالات الشعبية، مثل الفصح، والصليب، والميلاد، وأربعاء أيوب، والخضر الأخضر، ومار جريس، وبرهن أن بعضها إنما هو انتقالات فلكية  كعيد الميلاد، أو احتفالات ذات أصل زراعي مطابق للمواسم الدورية كانت الكنيسة قد دمجتها في طقوسها في مراحل قديمة، وحوّلتها إلى أعياد دينية. وحاول دالمان أن يجد وشائج قديمة سابقة لتلك الأعياد، فرجع إلى عهود ما قبل الرومان والإغريق، ثم عاد إلى الفترة المسيحية ثم العربية، الأمر الذي أثبت، بطريقة موازية، أن أسلاف الشعب الفلسطيني عاشوا على أرض فلسطين منذ ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة، أي منذ زمن الكنعانيين فصاعدًا، مع الأخذ في الحسبان التحولات البشرية والعقيدية والثقافية والسياسية المتراكبة والمتواكبة والهجرات القبلية واختلاطها بالسكان. وبهذا المعنى بات كتاب "العمل والعادات والتقاليد في فلسطين" فائق الأهمية في هذا الميدان المعرفي، وما برح يتمتع بفرادته وريادته حتى بعد أقل قليلًا من قرن على صدوره. وهذا هو الدافع الأول والأخير لإصدار هذا الكتاب اليوم (أنظر مقدمة الدكتور عزمي بشارة للمجلد الأول).




تتزاحم في هذا الكتاب مئات الصور عن فلسطين، وتزدحم الصفحات بها. والصورة هي وثيقة بصرية تمتلك القدرة على حفظ الحاضر إلى الأبد. وهذا الحاضر يصبح ماضيًا بعد مرور الزمن. وإذا كانت الصور تعني، في الأساس، إيقاف الزمن عند لحظة ما، فإن كتاب دالمان هذا هو استعادة لتلك اللحظات بجميع تفصيلاتها، فيحس القارىء بأنه يتنفس مع أنفاس الحياة اليومية في فلسطين، وأن فلسطين تكاد تخرج من الصورة حية تمامًا؛ فالناس يتحركون بصخب هنا وهناك، والفلاح وراء محراثه يشقق الأرض، والبائع ينادي على بضائعه، والمياه جارية في سواقيها وجداولها، والهواء يهب حاملًا غبائره، والشمس تزهو بسطوعها الأبدي، والديكة تصيح من أرباض القرى، والنساء غاديات إلى الحقول، أو عابرات بجرارهن إلى الينابيع والبرك وعيون الماء (عزمي بشارة، المقدمة). وقد أشار دالمان في تمهيده لهذا الكتاب إلى ضرورة العودة إلى سريانية الشرق الحية كما هي موجودة اليوم في بلدة معلولا السورية لتوضيح كثير من المصطلحات. ورأى، في الوقت نفسه، أن من الضروري استخدام ما هو فلسطيني لإيضاح كثير من الأمور، بحيث يمكن البدء بشكل عكسي: من فلسطين اليوم نحو الأزمنة القديمة. ولعل صدور هذا الكتاب حاليًا يحفّز المؤرخين والباحثين الفلسطينيين على السير على خطى دالمان في العودة من الحاضر نحو الماضي لمعرفة تاريخ بلادنا بصورة أشمل وأعمق.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.