}
عروض

عن الجانب الثقافي في "غزة الانتدابية"

يوسف الشايب

29 نوفمبر 2023
أباهر السقا 

ثمة حضور لافت لتوثيق الجانب الثقافي والفني في غزة في كتاب الأستاذ المشارك في دائرة العلوم الاحتماعية والسلوكية في جامعة بير زيت الفلسطينية، د. أباهر السقا، الموسوم بـ "غزة: التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني"، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في كل من رام الله وبيروت.

فتحت عنوان "البنى الثقافية" كشف السقا أنه ومنذ بداية الفترة العثمانية، نشأت في مدينة غزة عدّة مؤسسات ثقافية امتدادًا وفروعًا لمؤسسات، كفرع المنتدى الأدبي الذي أسّس عام 1909، وضم في عضويته: مصطفى عارف الحسيني، ورشدي الشوا، وعاصم بسيسو، لافتًا إلى أنه بالاطلاع على بعض الممارسات الثقافية للأعيان المدنيّين في غزة قبيل قدوم البريطانيّين، يتضح أن المدينة كانت مساحة لبعض النشاطات المرتبطة بتناقل أشكال التعبير العالمية، ففي عام 1912، عرضت مسرحية "هاملت"، ومثّل "دور الملك" فؤاد فرح، وشاركه في الأدوار الأخرى كل من: شكري ترزي وعاصم بسيسو، وألقى فيها فهمي الحسيني ورشاد الشوا خطبًا حماسية.

وفي الحقبة البريطانية كانت تقام في مدينة غزة مجموعة من الفعاليات الثقافية الدائمة، من بينها: تظاهرة إحياء سوق عكاظ العربي في ساحة كلية غزة، للتباري في الشعر، ومسابقات المناظرات الشعرية، وإلقاء الشعر بمختلف أنواعه، وصار بعضها يقدم لاحقًا في سينما السامر، كذلك نشطت جمعية للتمثيل عام 1913، وجرى تمثيل رواية، وهو الاسم الذي كان دارجًا في وصف الأعمال المسرحية أو السينمائية، وقتذاك، على مسرح روضة المعارف في القدس بعنوان "شهيد الأمة العربية".

وفي الحديث عن "السينما" أشار الكتاب إلى أن مدينة غزة كانت من أوائل المدن الفلسطينية التي انتشرت فيها دور السينما، فبعد مدن القدس ويافا وحيفا، كانت غزة هي المدينة الرابعة التي بدأ انتشار دور السينما فيها، ولعلّ هذه المعلومة برأيي قد تحتاج إلى وقفة بل وقفات، خاصة أن التدقيق في الوثائق الأرشيفية المتخصصة قد يدفع باتجاه أسبقية مدن أخرى كنابلس على سبيل المثال لا الحصر، لا سيما أنه ومنذ مطلع القرن العشرين، وما قبل عام 1920، كانت هناك عروض سينمائية فيها، حسب العديد من الوثائق، في حين رخصت دور السينما المتخصصة في ثلاثينيات القرن الماضي، كسينما غازي على سبيل المثال في المدينة التي تقع في شمال الضفة الغربية.

ويشير السقا إلى أن المحاولة الأولى للعروض السينمائية في غزة بدأت عبر مشروع لسينما هوائية غير ناطقة تقدم للحصول على ترخيص لها من بلدية غزة الأخوان إسحاق وداود إيشتين عام 1927، وكانا في الغالب من الطائفة اليهودية، دون أن يفصل بخصوص حضور هذه الطائفة في غزة على مدار التاريخ، وإن كان أشار إلى أنه من غير الواضح ما إذا كانا من مدينة غزة أو من منطقة أخرى، واستمر العقد لثلاثة أشهر.

وعرضت "سفينكس" (أبو الهول)، وهو الاسم الذي اختاره الأخوان إيشتين، على ما يستدل عليه من السياق، في وسط مدينة غزة، حسب الكتاب، مجموعة من الأفلام الصامتة، وتحديدًا بجانب مدرسة الزهراء في حاكورة الجاعوني.

أما المحاولة الثانية لإقامة سينما فقد كانت على أيدي فائق بسيسو وجعفر فلفل اللذين أنشآ سينما في حوش، عند مدخل حي الشجاعية بالقرب من محطة القطار، بالشراكة مع تقني يهودي، وسموها السينما الخضراء، لكنها لم تعمّر طويلًا، ولم يذكر المؤلف هنا تفاصيل أكثر من ذلك.

وفي ذات السياق أشار السقا إلى أنه وبدءًا من عام 1939 أنشأ الحاج رشاد الشوا سينما السامر، التي بدأت كدار عرض صيفية، ثم تطورت إلى سينما ثابتة عام 1945، لافتًا إلى أن مدينة غزة، كان فيها منذ خمسينيات وحتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي سبعة دور سينما، مشيرًا إلى أنه ربما يكون العدد الأكبر لدور سينما في مدينة فلسطينية، وهنا أيضًا يقع المؤلف في لُبس آخر متجاهلًا أن عدد دور السينما الأكبر كان تاريخيًا في مدينة يافا الفلسطينية ما قبل نكبة عام 1948.

سينما النصر في غزة (غيتي)


وفي إطار حديثه عن السينما في فلسطين عامة، شدد السقا على أن السينما الأولى كانت في القدس بداية العشرينيات، وللتدقيق فإن السينما الأولى كانت حسب المراجع الأجنبية في القدس ولكن عام 1908 وحملت اسم "أوراكل"، وكان ثمة إعلانات عن عروضها في الصحف الفلسطينية والعربية الصادرة قبل النكبة في الحقبتين العثمانية والبريطانية قبل العشرينيات من القرن الماضي، ثم "تبعتها يافا وحيفا، ثم غزة في 1944"، متجاهلًا دور العرض في نابلس وطولكرم واللد والرملة وطبرية وغيرها، "ثم رام الله في 1946، وسينما العاصي في نابلس، في السنة نفسها"، وهنا خطأ تأريخي آخر بحيث أن سينما العاصي تأسست عام 1952.

واستمرت، حسب الكتاب، دور السينما في غزة تعمل حتى تعرضها لهجمات في أواخر سبعينيات القرن الماضي من مجموعات صُنّفت حينئذ بأنها مجموعات قريبة من "المجمع الإسلامي"، في إثر حملة طاولت رموز الحريّات العامة في المدينة، فاعتدي على مراكز عدة، بينها: بنك الدم، وجمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، وحانات ومحلات بيع المشروبات الكحولية، ودور السينما، ومنها: سينما السامر، وسينما الجلاء، وسينما عامر، وسينما النصر، وسينما الشاطئ، إضافة إلى دور سينما أخرى في عدّة أنحاء في قطاع غزة، وهو ما ترافق، وفق السقا، مع منع الناس من إقامة الأعراس ومن الرقص فيها.

وتحت عنوان "اللهو والرقص" تحدث الكتاب عن إقامة حفلات غنائية يتخللها وجود راقصات محترفات في غزة، خاصة في الأعراس، أو في الحفلات الخاصة، وكان يطلق عليهن اسم "جنكية"، كما هي الحال في المدن الكبيرة في المشرق، وكن يعرفن بـ"الغجريات" نسبة للغجر القادمين من بعض دول البلقان، أو منغوليا، أو الهند، وكان معظمهم، وفق السقا، يسكن في "منطقة جباليا البلد، على تخوم مدينة غزة، وكذلك على تخوم حي الجديدة في الشجاعية".

وفي عام 1911 يذكر أحد الرحالة البريطانيين أن أعراس غزة كانت تقام أمام المنازل، بحفل للنساء وحفل للرجال، وكانت الراقصات يرقصن تارة عند الرجال، وتارة عند النساء، وكان هناك رقص بالسيوف فوق الخيل، مشيرًا إلى أن الراقصات كن يرتدين ملابس مغرية ويرافقهن عازفون، فيما تظهر سجلات بلدية غزة أنه في عام 1922 حضرت إلى المدينة فرقة للرقص من بيروت، وأعطيت مبلغًا من المال لتسفيرها، بعدما رفضت الشرطة السماح للفرقة بالرقص في المدينة.

ولفت السقا إلى أن هذا النوع من الفنون شهد صعودًا إبان المرحلة المصرية في قطاع غزة، كما كانت الحال في مدن أخرى بالوطن العربي، فقد "سمح المشروع الاجتماعي العربي القومي بانتعاش الحريات العامة وأشكال التعبير عنها من خلال الفن، ثم تراجع هذا الحضور مع تصاعد الخطب الدينية الأخلاقية في أواخر الثمانينيات"، مؤكدًا أنه لا توجد أنماط موسيقية خاصة بمدينة غزة تختلف عمّا نجده في مدن فلسطينية أخرى، بل مشرقية أخرى.

وفي الجزء المتعلق بالمقامات والمواسم، تطرق الكتاب إلى "موسم المنطار" المرتبط بـ"مزار المنطار" ذي الروايات المختلفة حوله، بحيث يعتقد البعض أن تسميته مشتقة من "نظر" أي أطل أو حرس، فيما يعتقد البعض الآخر أن به قبر أبو العزم شمشون الجبار، وأن المكان يقطنه أولياء صالحون، وفي رواية شعبية أخرى يتناقلها الأهالي، فإن وليًا صالحًا كان في الموقع، ومن شدة حسن أعماله طار كفنه، وباتت العامة تقول "المُن طار" نسبة إلى الولي الصالح واسمه "المن".

وعبر السنين أقيم في مكان أشبه بالحاكورة موسم شهير شبيه بموسمي النبي موسى والنبي صالح، وكان فضاء تعقد فيه المبارزات وسباق الخيل، ويقال عنه إنه لا إسلامي ولا مسيحي، بمعنى أنه عابر للطوائف على غرار احتفالات الخضر، وهو موسم يتزامن مع انتهاء أيام الصيام عند المسيحيين ومع انتهاء موسم الحصاد، وبالتالي فهو لكل الناس، بحيث كانت تؤمه قبائل البدو أيضًا، كما ذكر مواسم أخرى في غزة، بينها: موسم الدارون، وموسم الخمسان، وغيرهما.

ومن بين ما تناوله كتاب "غزة: التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني"، ما يتعلق بـ"الملابس"، مشيرًا إلى التغير الحاصل على أشكال اللباس في المدينة خلال الحقبة البريطانية، بحيث بدأ اللباس الغربي يدخل المنطقة عن طريق نخب عثمانية، كالسلطان محمود الثاني الذي لبس طربوشًا ولباسًا غربيًا، لافتًا إلى تراجع حضور اللباس التقليدي للرجال والنساء، لمصلحة ألبسة غربية، إذ تاريخيًا، كان الأعيان والمشايخ و"علية القوم" يلبسون العمامة والكوفية والعقال، وكان لكل مجموعة اجتماعية نوع معين من العقال والكوفية.

جدير بالذكر أن الكتاب يتوزع على خمسة أقسام، يضم كلّ منها فصولًا عدّة، أولها بعنوان "قراءة سوسيوتاريخية لمدينة غزة"، فيما حمل الثاني عنوان "غزة بين التخطيط الاستعماري والتخطيط الأهلي"، والثالث بعنوان "البنى التعليمية والثقافية"، بينما كان الرابع بعنوان "الحياة اليومية"، فيما تناول القسم الخامس والأخير "الحراك السياسي الاجتماعي في الفترة الانتدابية".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.