}
عروض

"محنة التغيير": عن ضرورة إحياء التعلم ومناقشة المسلمات

فدوى العبود

10 ديسمبر 2023


هل نحن مستعدون لما هو جديد تمامًا؟ ما هو شكل المستقبل الذي نتوق إليه؟ وهل يمكن للإنسان أن يبدّل واقعه السياسي إن لم يغيّر نفسه؟
وكيف يروي ظمأ السؤال جواب فلاسفةِ ومفكِّري علم النفس الاجتماعي، منذ جمهورية أفلاطون حتى صاحب المقولة الخالدة "الظلم مؤذن بخراب العمران"، حيث شهوة النُخب الحاكمة للترف والطغيان ـ والتي تتناسى وهي ترفل في النعيم آلام شعوبها ـ تدفعها لتستقوي عليهم بالقوة المسلحة.
أما بالنسبة لـتوماس هوبز، وعبارته الشهيرة (الكل في حرب ضدّ الكل) فالملكيّة المطلقة لردع نزعات الشر هي الجواب؛ ما يجعل دعوة روسو وفكرته حول حق تقرير المصير أمام هذا الفهم للطبيعة البشرية كنداء في البريّة.
يولّدُ سؤال التغيير دوائر لا متناهية، تحوم في فلك ثنائية الفرد والجماهير، الحرية والفرديّة، التقليد والتعصب. فيبدو مُلحًّا في عصر الثورة الاتصالية الهائلة التي تعيد إلى الواجهة غزو هؤلاء الذين لقّبهم أومبرتو إيكو بالبلهاء، وكان في ذهنه من دون شك إعدام الحشود لسقراط، والأصوات الهادرة في حلبات الثيران، فهذه الجموع التي تصرخ متوعدة تحت سقف التكنولوجيا لا تختلف عن تلك التي هتفت بجنون لِهلوسَات هتلر وموسوليني. ومهما كان رأينا فهؤلاء ولا شكّ أدركوا آليات السيطرة على الجموع التي وصفها غوستاف لوبون في "سيكولوجية الجماهير" (1895) بكيانات من دون عقل تحركها الغريزة والعاطفة. وهنا تظهر حدود التّماس الخطيرة بين الفرد والمجتمع، وكما "تخضع روح الفرد لتحريضات المنوّم المغناطيسي، فإن روح الجماهير تخضع لتحريضات أحد المحركين أو القادة الذي يعرف كيف يفرض إرادته"، وهؤلاء بنظر لوبون علماء نفس من دون شك.
هذه الأسئلة، وغيرها، تجعل استحقاق تلك الجموع لحريتها موضع نقاش!
وكان على الكاتب الأميركي إريك هوفر أن يتحرى جدارته في كتاب "محنة التغيير" (إريك هوفر، ترجمة شيرين علوش، الدار الليبرالية، برلين، 2022)،  بحيث يشرِّح مأزق الجماهير التي ينتمي إليها.




يتألف الكتاب من 16 عنوانًا يناقش من خلالها قضايا (التغيير الجذريّ ـ التقليد والتعصب ـ المثقف والجماهير، والعمل والإدارة)، لفهم صعوبات التغيير، وطبيعة العلاقة بين الفرد والجماعة والمثقف والحرية والجماهير وتطلعاتها.
وكل هذه الأسئلة تبدأ من فهم الطبيعة البشرية، التي، ومن خلال تعقيدها المذهل، تجعل أكثر التخمينات جموحًا حولها مشروعة، ألم يكتب دي مونتين يومًا عن الفرق الشاسع بين المرء ونفسه، والذي يفوق المسافة التي تفصله عن الآخرين!
فهذه الطبيعة المزدوجة التي رأى فيها مفكرون مثلبة، تبدو هنا مثاليةً رغم عدم اكتمالها، ما يفسر سعي الإنسان الدائم إلى التحرر من الإكراه والعوز والخوف والموت، وهذا: سرّ التفرّد البشريّ.
إن خطأ مفكرين كثر ماثل في إدخال عوامل لا إنسانية على هذه الطبيعة؛ كالشؤون الإلهيــّة والروح الكونيّة؛ أو القضاء على المتغيّر البشري من خلال غرس الانضباط الحديدي والإيمان الأعمى، وإذابــــةِ الفرد في مجموعة مُدمجة ليصبح الرجال آلات ذاتيّة التشغيل. وفي هذا التوق للحريّة، تأتي السلطة المطلقة للسيطرة على الإنسان، ليخلص هوفر إلى أن "القوة المطلقة لا تنتج مجتمعًا، بل معرض وحوش".
يناقش مؤلف "المؤمن الصادق" الثورات الشعبية في الدول الشيوعية، وصحوة آسيا، ويتطرق لقصور مسلّمات النظرية الاقتصادية؛ فالشعوب لا تنفجر بسبب الجوع، بل لأجل "الكبرياء" وحين تبدو الثقة بالنفس والاحترام بعيدي المنال، يصبح الفرد الناشئ كيانًا شديد الانفجار، فيحاول استخلاص "الشعور بالثقة والقيمة من خلال تبنّي حقيقة مطلقة".
لقد نظر غوستاف لوبون للجماهير ككتل لا منطقية وانفعالية، بينما رأى هوفر لديها رغبة عميقة في تغيير أنفسها. وبخلاف لوبون الخائف من الحركات الجماهيرية ـ والذي قدم مفاتيح لترويِضها؛ فإن هوفر يَعي بعمق أننا، وحين لا نسمح بتحقيق الذات، تأتي البدائل اللاّعقلانية، حيث "الإيمان هو البديل عن الثقة بالنفس، الكبرياء هو البديل عن احترام الذات، والاندماج في مجموعة بديل للتوازن الفردي".
ثمة بدائل أيضًا، ومنها العمل، لكن فكرة العمل كمصير وإدمان مرفوضة، فهي تعود لجذور دينيّة تجعل الإدمان على العمل مرتبطًا بالخلاص، وردّ فعل ضد فقدان التوازن، "فإدمان الغرب على العمل ليس مرادفًا لحب العمل"؛ والعلاقة بين العامل الغربي وعمله هجوم مستمر وانتصار وهمي عند انتهاء المهمة. ويصبح العمل وسيلة ليثبت الفرد جدارته، وعليه أن يتحمل مسؤولية ما يصنعه في حياته الخاصة، وأن يثبِّت حضوره بجهوده، فهو في "عبودية أبدية لنفسه".
يعتقد هوفر أن الأشخاص الموهوبين هم الأكثر قدرة على التغيير، لأنهم يستطيعون العمل في ظروف انعدام الحرية. فالعديد من الإنجازات في الأدب والفن والموسيقى لم تتحقق حسب رأيه في جوٍّ من الحرية المطلقة، بل يصبح "الاستياء أصل العملية الإبداعيّة". وبهذا، فالمواهب نادرة، وقلة من الناس يشعرون بقيمتهم من خلال مواهبهم وقدراتهم، وبخلافهم يثبت الأغلبية جدارتهم ببقائهم مشغولين.
التغيير يقتضي أيضًا طرح السؤال حول الأفكار المثالية وشعارات حب الإنسانية وخدمة البشرية، وغيرها، بل لعل الشرط الأول للتغيير هو الانسجام مع الذات كشرط للانسجام مع الآخر. وعواقب عدم القدرة على احترام الذات يؤدي لتبني عنصر بديل.
يسترد إريك هوفر الطبيعة البشرية من براثن مسلّمات نظريات كثيرة حولها؛ ووفق هذا الفهم فإن فكرة داروين حول البقاء للأقوى، وقانون التطور الذي يقضي على الضعفاء يصبح موضع نقاش؛ فالطبيعة البشرية ليست طبيعية، ولا بسيطة، وهي تظهر على نحو مدهش في الضعيف الذي اخترع التعصب والتفاني اللاّمحدود ومجهّزًا بهذه البدائل "لا ينجو الضعيف فحسب، بل يربك القدير". وفي الانفصال عن الطبيعة، كان الضعيف هو من اتخذ الخطوات الأولى، وبموجب ذلك يصبح الإبداع وسوء التكيف مترادفان.
وانطلاقًا من هذا، تصبح لاعقلانية الطبيعة البشرية كرد على سلب إنسانيتها وتحققها مصدر قوة إن لزم الأمر؛ فكما أن الإيمان والجرأة والتضحية بالنفس تنبع من دوافع مشكوك فيها؛ فالأوهام والأساطير مطلوبة لتفجير الطاقات، ويميز إريك هوفر بين إحياء العلوم في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، وبين إحياء التعلم لاحقّا؛ فالإيمان الحقيقي بالله حسب رأيه هو "الاستقلال الفكري"، والعقل الغربي لم يكن ليتطوّر لولا صورة الله فيه، إنه بالنسبة لغاليليو وكبلر رياضي، فالرياضيات هي أسلوب الله. وهذا المفهوم حفّز الرجال لولادة العلم الحديث، وقد يبدو هذا غريبًا. لكن أولاء العلماء شعروا بالاتصال بالله مع كل اكتشاف قاموا به؛ حتى دافنشي أنهي تشريحه للجثث بصلاة.



ويرى هوفر أن صنع الآلات في الحضارة الغربية بمثابة خلق ثان، "إنها الطريقة التي يتنفس فيها الإنسان وإرادته وفكره في مادة"، لذلك من الضروري للتغيير إحياء التعلم ومناقشة المسلمات، وكلما قلت الخبرة لدى الشعوب زاد حماسها، فالعامل الخبير يختلف عن المفتقد للخبرة والمهارة، فيعوضهما بالشغف والاندفاع. وعلى العكس "فحيث تتوافر المهارة اللازمة لتحريك الجبال لا داعي للإيمان ليحركها"؛ وفي حال فقد الإنسان ثقته بنفسه واحترامه لها، يصبح من السهل عليه الوقوع في الأفكار المطلقة.
وإن السؤال عما إذا كان المثقف يستطيع أن يقود التغيير يلقى الإجابة ذاتها عبر التاريخ، لأن الأخير لا يمتلك الحرية التي تمكنه من أن يؤدي دورًا فاعلًا فيه. إنه يتسم بما أسماه غاندي ذات يوم "قسوة القلب"؛ لانشغاله بالبحث عن مكانة ودور، فإنجازه ونجاحه لا يقومان على تقارب حقيقي مع الجماهير، بل ينبعان من ميله للتبجيل، وحاجته لجمهور واسع هي الحاجة للعبادة؛ وبخلاف ذلك فالمبدع الحقيقي لا يميل للاستيلاء والسلطة، أما المثقف الزائف فعادة ما يتحكم بزمام الأمور ونتيجة عجزه الإبداعي؛ لديه كراهية قاتلة للذكاء الفكري والحرية الفردية.
يبحث هوفر عن الشبه بين المشردين والرواد الأوائل، فكلا الطرفين دفعهما التوق للتغيير لترك الجذور. وفي محاولة منه للبحث عن نقاط تلاق بين التشرد والمغامرة والريادة يكتب هوفر "ضغط المسؤولية وحرارة المعركة تصقلان الشخصية".
يقع هوفر في فخ النظرة الأبوية والوصاية حين يتحدث عن علاقة أميركا بالشعوب الأخرى، عادًا أن دول آسيا وأفريقيا لم تتميز باللباقة الكافية لشكر الأخيرة على ما تتبرع به لهذه الشعوب، لكنه يدافع بقوة عن جدارة هؤلاء الفقراء والمنبوذين الذين يتوقون في تصوره إلى دمج حياتهم الرتيبة الضائعة في شيء عظيم وكامل. لقناعته أنه "إذا اتيحت الفرصة، فالأعمال العظيمة تصدر عمن نعتقدهم عديمي القيمة"، وهذا الإيمان يتأسس في حالة هوفر على الخبرة، كابن لهذه الجماهير. فالتغيير، وخصوصًا الجماهيري، لا يأتي من نوبات الجديّة المدمرة التي تجلب في أعقابها الخوف والقسوة والخضوع؛ فالإنسان سيبقى غير ناضج وغير مكتمل على الدوام، والثمن الذي يجب دفعه للحرية هو اليقظة الدائمة، فوحده "من يظفر بالحرية المتجددة يومًا بعد يوم يستحقّها".

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.