}
عروض

عن رحلة تغيّر نظرة الإنسان إلى قلبه

عمر كوش

19 ديسمبر 2023


حاز قلب الإنسان على امتداد التاريخ البشري مكانًا مركزيًا في الثقافات والحضارات، واعتقدت شعوب كثيرة، وعلى مرّ العصور، أنه العضو الأهمّ في الجسد، ونظرت إليه بوصفه مصدر الشعور البشري، ومنبع الحياة والكينونة، ومقرًا للنفس والعواطف والأحاسيس والأفكار والذكاء، وأن الإنسان يتصل بخالقه عن طريق القلب، وتسجل على جدرانه خطاياه وفضائله في الحياة.

غير أن نظرة الإنسان إلى قلبه تغيّرت مع تقدم العلم والمعارف البشرية، حيث لم يعد ملكًا متوجًا على بقية أعضاء الجسد، وليس مقرًا للنفس وقوى الحياة، وذلك بعد أن أظهرت الكشوفات العلمية، وخاصة التشريح الطبي، أنه مجرد مضخة دم تابعة للدماغ الذي احتل مكانته، وأن دماغ الإنسان هو مسيّر العواطف والوعي، ومستودعها الأوحد، ويتحكم بوظائف سائر أعضاء جسده، بما فيها وظيفة القلب. لكن مع ذلك، ما يزال القلب يحتفظ بمكانته الرمزيّة في جميع الثقافات على تنوّعها، ويحظى بدوره الهام في الأيقونات الثقافية والفنون والآداب، وخاصة الشعر، بوصفه رمزًا للحب والرومانسية، ودلالة على الصحة والعافية.

لم يركن العلماء إلى التسليم بأن القلب هو مجرد مضخة آلية، وظل التساؤل يدور حول حالات الترابط الموغلة في القدم بين القلب والعواطف، التي أقصاها علم التشريح الطبي، حيث وجدت العلوم الطبية مؤخرًا أن القلب قد يحمل أحاسيس الإنسان، بوصفه جزءًا من اتصال ثنائي الاتجاه يجمعه مع الدماغ، بل إن دراسات جديدة أشارت إلى أن القلب يوجه الدماغ بقدر ما يوجه الدماغ القلب، وأن الاتصال بين القلب والدماغ هو أمرّ بالغ الحيوية لصحة الإنسان.

في عصرنا الحالي، صار الدماغ موطنًا لوعي الإنسان، لكن القلب ما يزال يلعب دورًا مركزيًا في الصور الثقافية لكافة الناس. وقد استلزم الوصول إلى هذا الفهم رحلة طويلة جدًا، تغيرت خلالها معارف الإنسان ونظره إلى القلب. وللتعرّف على تفاصيل وحيثيات تطور فهم القلب منذ فجر الحضارة البشرية وحتى وقتنا الحاضر، يأخذنا الطبيب والكاتب الأميركي، فنسنت إم. فيغيريدو، في كتابه "التاريخ العجيب للقلب" (ترجمة مدى شريقي، صفحة 7، الجبيل، 2023)، إلى رحلة في الثقافة والعلم، بغية الوصول إلى فهم ثقافي وعلمي للصلة بين القلب والدماغ، ويقدم فيها دراسة شاملة حول القلب ورمزيَّته في الحضارات والثقافات الإنسانية، ودورهِ تاريخيًا ودينيًا في صياغة مفاهيمنا حيال الحياة والموت والفن. إضافة إلى عقده مقارنات بينَ التصوّرات القديمة والحديثة، تجاه القلب ودوره، مع تبيان آليات عمل القلب والتعريف بأمراضه، ومناقشة علاجاته في عصرنا الحالي وآفاقها المستقبلية.

يبدأ فيغيريدو رحلته البحثية من الحضارة السومرية في بلاد الرافدين، حيث يرد القلب في ملحمة جلجامش، حين حاول فيها "جلجامش" إعادة إحياء صديقه "إنكيدو" (الذي كان عدوه في البداية ثم تحولا إلى صديقين مقربين) ليكتشف أن قلبه ما عاد ينبض، الأمر الذي عنى أن البشر منذ عام 2600 قبل الميلاد أدركوا أن قلوبهم تنبض، وأن بالإمكان تحسس النبض عبر الجسد. وقد احتل القلب في الثقافة السومرية، كما في العديد من ثقافات المجتمعات القديمة، مكانة بالغة الأهمية، بالنظر إلى أنه اُعتبر عضو الحياة الرئيس في الجسد، وخيّرَ أضحية تقدم لاسترضاء الآلهة. وبالتزامن مع الحضارة السومرية طوّرت حضارات متصاعدة في أماكن أخرى من العالم، كالمصرية والصينية والهندية، أفكارها الخاصة حول أهمية القلب، واتفقت جميعها على أن القلب النابض يعني الحياة، فنظر المصريون القدامى إلى القلب بوصفه مصدر الحياة والكينونة، وتعاملوا معه بكثير من الوفاء في طقوس التحنيط، لذلك اعتقدوا بضرورة بقائه خارج الجسد أثناء سفره إلى العالم السفلي ليخضع لحكم الإله "أوزيرس" (إله الحساب والبعث). وبوصفه مركز كينونتهم، لم يكتف المصريون القدامى باعتبار القلب محركًا للدم فقط، بل اعتقدوا، حسبما ورد في بُرديّة "إيبرس" أنه يحرك الهواء والدموع واللعاب والمخاط والبول والسائل المنوي في أنحاء الجسد عبر منظومة من القنوات، وبالتالي فهو يحفظ الحياة. أما الصينيون القدامى فقد رأوا في القلب ملك الأعضاء جميعًا، حيث يتولى القلب الحاكم مسؤولية حفظ السلام الداخلي والتناغم في جميع أنحاء الجسد، وهو القوة التي تعهد إليها الصحة الجسدية والعقلية والعاطفية والروحية، إضافة إلى أنه مقرّ الوعي والذكاء والمشاعر، فهو من يحمل الـ "تشن"، أي روح الشخص، وميوله وأحاسيسه. وكذلك كانت الحال مع الهنود القدامى الذين اعتقدوا أن القلب هو مقرّ الحياة والوعي، حيث وصف طبّ "الأيورفيدا"، وهو أقدم أنظمة الشفاء الشمولية التي تتعامل مع الجسد ككل، القلب بأنه المحرك الرئيس للـ "براما" أي طاقة الحياة. أما الإغريق القدماء، فقد اعتقدوا أن القلب هو محدد الحياة لدى البشر والآلهة على حدّ سواء.

يقدم فنسنت إم. فيغيريدو في كتابه دراسة شاملة حول القلب ورمزيَّته في الحضارات والثقافات الإنسانية، ودورهِ تاريخيًا ودينيًا في صياغة مفاهيمنا حيال الحياة والموت والفن


بدأت تساؤلات تطرح عن موضع تركز القدرات العقلية أي الوعي والتفكير العقلي داخل الجسد، وذلك مع تقدم الحضارات القديمة وامتلاك ناسها وقتًا أكثر للتأمل، وطاولت تلك التساؤلات موضع النفس والجوهر الحي اللامادي للإنسان، حيث اعتقد بعض القدماء من أنصار فرضية مركزية القلب أنه يأوي النفس، فيما اعتقد بعضهم الآخر من أنصار مركزية الدماغ أن الدماغ هو من يأوي النفس، لكن معظم الثقافات القديمة، بما فيها قدامى السومريين والمصريين والصينيين والهنود والرومان، أخذت بفرضية مركزية القلب. كما اعتقد بعض الفلاسفة بمركزية القلب، من بينهم أرسطو، فيما كان أبقراط أشهر مؤيدي مركزية الدماغ، أما جالينوس فقد اتفق مع أرسطو على مركزية القلب واعتباره مصدر حرارة الجسد، لكنه خالفه في فكرة أن الدماغ يبرد القلب، واعتقد بوجود بنية ثلاثية للنفس، حيث استخدم مصطلحات أفلاطون لتوصيف النفس العقلانية في الدماغ، والنفس الروحانية في القلب، والنفس الشهوانية في الكبد، وعليه فإن الدماغ يوجه المعرفة، في حين أن القلب يوجه العواطف. وتبنت الكنيسة الكاثوليكية، خلال العصور الوسطى، تعاليم أرسطو وجالينوس باعتبارها كلامًا منزلًا، وفرضت حظرًا على الاكتشافات العلمية، الأمر الذي أعاق أي معرفة جديدة عن القلب إلى حين دخول عصر النهضة، وظهور أمثال ليوناردو دافنشي ووليم هارفي وغيرهما.

بالانتقال إلى الأديان، يرى فيغيريدو أن الديانات التوحيدية الإبراهيمية اعتبرت أن القلب هو الذي يربط البشر بالإله، ويتكرر ذكر القلب مرات عديدة في كتبها جميعًا، حيث يرد ذكره مئة وخمس مرات في العهد الجديد المسيحي (50 – 150 ميلادي)، أما في القرآن فيرد ذكره مئة وثمانين مرة. وينظر إلى القلب في التعاليم المسيحية على أنه مقرّ النفس، ومركز جميع العمليات العقلية والبدنية للحياة البشرية، أما في التعاليم الإسلامية فينظر إليه بوصفه مركز الإحساس والتفكير. فالقلوب السليمة تقية وعقلانية، في حين أن القلوب المريضة تفتقر إلى الإنسانية، وفقدت قدرتها على الرؤية والفهم. وفيما عاشت أوروبا عصور ظلمات امتدت نحو ألف عام، كان المفكرون المسلمون في المقابل، يتوسعون في نظريات قدامى الإغريق والرومان، فقاموا بترجمة أعمال أبقراط وجالينوس والأطباء في الإسكندرية، ودرسوها وفندوها، وأدرجوا مفهوم مستشفيات المدارس الطبية، حيث مارس الطب الرجال والنساء على حدّ سواء. وقدموا دراسات هامة في القلب وتشريحه وأمراضه، وبرز من بينهم أبو بكر الرازي وعلي بن العباس المجوسي وابن سينا وأبا الحسن القرشي الدمشقي وابن النفيس وسواهم، ممن قاموا باكتشافات جديدة، وطوروا معرفة الإنسان بالقلب والجسد، استفاد منها العالم، وخاصة أوروبا خلال عصر نهضتها.

مع دخول عصر النهضة، بدأ التشكيك في النظريات القديمة الراسخة عن القلب المأخوذة من أفكار جالينوس وأرسطو وأبقراط، حيث أسهم كل من الرسام والعالم ليوناردو دافنشي وأندرياس فيزاليوس في تعزيز فهم تشريح القلب، عبر رسم خطاطات اعتبرت أول تمثيل دقيق للقلب، ودراسة الأوتار والعضلات والعظام وأعضاء الجسد، ووضعا خطاطات لها. وفي منتصف القرن السادس عشر، قام الطبيب الإنكليزي وليم هارفي بوضع دراسة تشريحية لحركة القلب والدم في الحيوانات، قدم فيها نظرية حول الدورة الدموية المزدوجة، المكونة من دورة رئوية وأخرى جهازية، ويقوم القلب بوظيفة ضخ الدم. ولم يتجرّأ على نشرها في إنكلترا بل نشرها في ألمانيا، خوفًا على سلامته، إذ كان يعتبر التشكيك بتعاليم جالينوس التي تبنتها الكنيسة الكاثوليكية تدنيسًا للمقدسات، يعرض صاحبه للقتل. ومع القرن السابع عشر، أضحت المعرفة التشريحية بالقلب على درجة كبيرة من الدقة، حيث غيّر العلم النظرة إلى القلب، فيما يعد المقرّ الفعلي للعواطف والفهم، ولا موضع النفس، بل توصل العلماء إلى أنه مجرد مضخة ميكانيكية مجردة من أي أهمية عاطفية أو روحية. وبحلول القرن التاسع عشر، ازداد فهم العلماء والأطباء لآليات عمل القلب وجهاز الدوران، وزاد معه التعرف على أمراض القلب وكيفية تشخيصها وعلاجها. وفي القرن العشرين تأكد أن الأفكار والشغف والوعي تتموضع جميعًا في الدماغ، وصار القلب في المقابل قابلًا للزرع بنقله من شخص لآخر، وبالتالي لا يمكن للنفس أن تسكن في القلب. وقد أسهم التقدم العلمي والتكنولوجي في التطور المستمر في فهمنا الجسد والدماغ والقلب، وغيّر وإلى الأبد فهمنا عن قلوبنا.

لا شك في أن العلم أظهر أن الدماغ هو من يتحكم بالجسد البشري، بما فيها وظيفة القلب نفسه، لكن ذلك لن يلغي المكانة الفريدة التي يحتلها القلب في التاريخ الثقافي للبشر، بوصفه القوة النابضة في صميم العواطف الإنسانية من حب وشغف وأحاسيس، وألم وحزن ومعاناة، وسيستمر القلب في تأدية دوره الرمزي في مختلف صورنا الثقافية، ومعبرًا عن الحبّ، بوصفه أغلى ما يملكه البشر، وبالتالي سيظل القلب رمز سعادتنا وصحتنا ومشاعرنا، والأكثر شهرة وانتشارًا في حياتنا اليومية. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.