}
عروض

"عزيزتي بيروت هنا مونتريال": الشعر واستحضار الذاكرة

ليندا نصار

27 ديسمبر 2023


ينتمي الفنان إلى عالم يبتدعه لنفسه وهو ما يسميه بالعزلة. ولكن ما هي المعاني التي تتخذها هذه العزلة وهل تعني بالضرورة الابتعاد عن العالم وسط خلوة خاصة مع انشغالات فكرية، يسائل الكتابة ويبحث الفنان بعدها عن منفذ له من خلال الإبداع؟ وما معنى أن ينقطع الكاتب عن الكتابة أحيانًا ثمّ يستدعي مدينة بأكملها ليصنع عالمًا يعمل على معرفته واكتشافه؟ أوليست هذه اللحظات أو هذا الانقطاع عن العالم نوعًا من التأمّل باللغة والأشياء، حيث يقبض على اللحظة الشعرية التي لا تأتي إلا في أوانها وتزيد من الإشراقة الإبداعية؟

وسط هذه التساؤلات وفي ديوانها الأحدث "عزيزتي بيروت... هنا مونتريال" الصادر عن العائدون للنشر والتوزيع بلوحة غلاف للفنان حسن جوني، والذي يحتوي على كلمة للشاعر اللبناني عباس بيضون، وكلمة أخرى للكاتب الفلسطيني أنطوان شلحت، تفصل الشاعرة دارين حوماني بين عالمين أو زمانين مرتبطين بمكانين لنعثر على مفاتيح هذا الديوان: عالم السعادة المرتبط بالطفولة الصافية وعالم الحزن الموحش المقبل. ألم يربط نيتشه السعادة بالنسيان إذ أنّ الطفل يكون سعيدًا لأنّ الوعي بذاكرة الماضي لم يتشكّل عنده بعد ولأن لا شيء يحزن عليه كونه يعيش مراحل اكتشاف كلّ جديد؟

أريد أن أصنع ثقوبًا في مياه البحيرة/ وصل بين العالمين/ يوم كنت سعيدة/ بلا عتمة وبلا ذكريات/ وصل بين طفولتي وما هو قادم/ قفزة فوق المساحة المتوحشة من العالم/ الغرف المقفلة التي تتوسطها أشباح/ هذا هو العالم.

لماذا نكتب عما يقلقنا/ البعد المأساوي لهذا العالم/ حياتنا الباحثة عن التحرر/ كأننا نختفي خلف كلمات قليلة/ لا يريد أن يقرأها أو يفهمها أحد.

ما الذي أفلحنا في صنعه/ كأن لا شيء/ سوى العزلة التي بنيناها ورممناها...

وتستمرّ الثنائيات مع الشاعرة وها هي تستنبط ثنائية البياض والسواد الكليين من الدين فكيف تمارس عزلتها بحرية؟

الغرق في العزلة حين نقررها فنعترف بثقوبها التي لا نقوى عليها في ثنائية البياض الكلي ووراءه السواد الكلي/ اللذين يمنحني إياهما الدين.

الذاكرة واستحضار الغائب من خلال الكتابة

في هذا الديوان يبدو العنوان إطارًا تنتمي إليه الأحداث فمن بيروت- الوطن إلى مونتريال- الغربة، تبدأ الشاعرة في قصيدة "عزيزتي بيروت" لتستحضر مدينة في ذاكرتها كفعل اعتراف ومن ثمّ قد تمنح تبريرًا لبلد دفعها إلى الهجرة، بلد يغصّ بالأزمات، بلد طرد أبناءه غصبًا عنه بمن في ذلك مثقفوه، فجعلها تواجه وحدتها وتتجنب ذكرياتها، وكم هي قاسية تلك الذكريات التي تفقد الشاعرة أمانها العاطفي وتضعها في خانة من الحنين. والجرأة تكمن هنا في القدرة على البوح بتلقائية بعد أن يكون الإنسان قد استنزف قواه وغلبه الاستسلام للكتابة: النفس والحياة.

أعرف تمامًا أنه علي أن أعبر بيروت وأمضي بعيدًا... كل شيء يدفعني خارجًا لأقتفي وطنًا آخر

من الأفضل/ أن لا نصحب معنا موتنا إلى النهر/ أن لا نخلط بين بلادنا وهنا/ وبمهارة أن نقنع أنفسنا بالحياة...

والشاعرة لم ترحل وحيدة، بل حملت معها صورًا تعود إلى الزمن الماضي القريب والبعيد في آن، في ذاكرة تأبى النسيان، وتمارس سطوتها على الشعراء لتبدع نصوصًا جميلة في التعبير عن ثنائيات مشاعر الفرح والحزن التي تبنى على أساسهما الحياة، ومع ذلك يلازمها شعور الوحدة:

أحاول أن أكتب/ ومع ذلك/ لا أزال أشعر بالوحدة...

يمارس المكان سطوته على ذاكرة الإنسان المرهون بتعلّقه بأدق تفاصيل ماضيه فيرتبط هنا الزمان بالمكان تلقائيًّا. ويصوّر غاستون باشلار علاقة الإنسان بالمكان مميزًا بين المكان الحقيقي أو الواقع والمكان المتخيل، فالشاعرة تمكّنت من تصوير مكان جديد متخيّل لها مستمدّ من الأمكنة التي سكنتها في الماضي.

وعن الزمان يكتب سركون بولص: بمحض إرادتي أو رغمًا عني فأنا لا أتوقّف عن الذهاب إلى الماضي والعودة منه/ الهاجس الأقوى عن الشعر والحياة.

ليس غريبًا على هذه الشاعرة أن تتأمّل وهي في شتى أنواع عزلتها وقد انتزعت الكلمات من رحم الحياة لتقول أناها بكل حرية، وتصنع مواجهاتها مع الكتابة في نوع من التمكن والإمساك بالحرية. وهل غير الشاعر من يستطيع أن يلتقط الحرية كمن يقبض على طائرة ورقية يشاكسها وتشاغبه لتخرج القصيدة إلى الفلا؟

إذًا تستدعي دارين حوماني الزمن في محاولة منها لاستحضار بيروت الغائبة الحاضرة في آن، بشخصياتها وفضاءاتها الزمانية والمكانية، وهي ليست بيروت التي أحكم الطغاة قبضتهم عليها بل هي بيروت بجماليتها وبمخيلة الشعراء الذين مروا عليها وألقوا سلامهم وظلت كفهم ممتزجة بوحيها، هكذا تركت صاحبة "الياطر الحزين" الدمار والواقع الذي يحكم قبضته على المرأة أو الانفجار أو شتى أنواع الأزمات التي أحدقت بهذه المدينة وأفرغت شوارعها من مثقفيها لتصبح شاردة وحيدة بلا حرّاس... وراحت حوماني تبحث في قدرة الشعر على التعبير عن المناطق الواعية والغامضة لدى الإنسان فحفرت في العمق لتنتج قصائد صافية من مونتريال إلى بيروت.


الشعر مسكن الشاعر وبديل الوطن الضائع

تكتب صاحبة "ملاءات رقيقة في غرفة واحدة" يومياتها المكثفة والتي تحمل سيرة حياة تبني من خلالها عالمَا خاصًّا تعيد خلقه بأسلوبها عبر إقامة علاقات مترابطة بين عناصره ليأتي المشترك بين بيروت ومونتريال، هذه الذات التي تتمثل في فضاءين مكانيين مختلفين وزمانين مختلفين يشتركان بنقطة الذاكرة التي تستدعي العالم بتفاصيله الرتيبة:

نهاري يبدأ من فتحة في الغرفة المربعة/ وينقضي فيها/ إلى حدود الاختناق/ من حياة أكررها مضافًا إليها الكثير من الأسى/ وأنا أندم/ وأنا أحزن/ وأنا أحبك/ وأظل أحلم بالوصول/ قبل أن ينقضي الوقت...

وتطرح حوماني سؤالًا يحمل نوعًا من اللااستقرار الذي يؤثر في شتى نواحي الحياة: "هل سأجد منزلي ذات يوم". فعن أيّ منزل تتحدث؟ وهل هو منزل أو وطن؟ لعلها تنتظر لحظة لم تحدث بعد، وكأنها عالقة في المسافة الفاصلة بين الانتظار والعبور إلى الحرية وبلوغ الأمان الذاتي في الوطن المشتهى.



المرأة والحب

ثمة تمزّق ينبع من الداخل في ظلّ سلطة تحكّميّة تضع المرأة أصل الحياة تحت الرقابة المجتمعيّة لترسم لها طريق الذهاب والعودة، ولتجعل من جسدها عاجزًا عن الحرية، وهذا ما قد يحدث أزمات نفسية تقودها إلى مصائر معقّدة أحيانًا. لعلّ الشاعرة امرأة بنساء كثيرات صنعن هذا العالم وسط تكتّم عظيم. تشير حوماني إلى صورة امرأة يجتاحها المجتمع بنظرته التقليدية ويصنّفها في خانة من الضعف:

تكوين الحياة/ امرأة شاردة/ على جسدها وشم مخلوقات فوقية/ تقودنا إلى هجرات داخل النفس/ وتؤكد لنا/ أن جسدها يتسع لأكثر من سماء/ أكثر من حقيقة... يكفي أننا هنا لأن الحياة امرأة بمعان كثيرة.

في مكان آخر الحب يغيّر العالم وهو فعل استرخاء أبديّ، إنه الحب الحقيقي الذي لا يلغي آلام المدن ومع ذلك قد يجبر الإنسان على أن يعيش خارج هذه الدائرة الحميمة:

يحدث أن تكون في مدينة غير قابلة للحب/ فقط لإحداث الألم/ إغواء كثير من العزلة

الحب استراحة من هذا العالم/ الأجزاء التي نحبها لا تصدأ...

الطبيعة حضور ببعدها الفلسفي

تحضر معاني الطبيعة في القصائد، وهي مستوحاة من بيئتها الجنوبية، هذه المشاهد التي لم تبارحها بل انتقلت معها في المطلق إلى بلد آخر وهو مونتريال. فللسفر بعد فلسفي بمعناه الميتافيزيقي... وهو غربة الروح، فعل الاغتراب هذا بوصفه حالة تظل تهيمن على فضاءات الكتابة الشعرية إلى أن يبحث الشاعر عن مستقرّ بعد انتظار وحيث اللاعودة، وتبقى العودة ذات ربيع حلم الشعراء المسافرين. ونتذكر هنا فرناندو بيسوا بشخصية ألفارو دي كامبوس الذي قضى عمره في الترحال أو وديع سعادة وهو يصوّر بيته المشتهى في شبطين حيث العودة صارت ضربًا من ضروب الأحلام.

يعتبر موريس بلانشو أنّ الذات تطرح الأسئلة من خلال الكتابة، بما معناه الاسئلة القلقة للإلمام بالقضايا الكبرى ومعرفة العالم ومعرفة الجذور والأصل، وهكذا تتحرك الشاعرة دارين حوماني في إطار الأفق الفلسفي فتحضر معها الأسئلة الوجودية التي تقلق الإنسان الباحث التائه في دنيا الوجود، أسئلة الحياة والموت بوصفه إخمادًا للألم والحزن وسيطرة على تركيبة الإنسان بهشاشته وقوته، هذا الإنسان ببساطته وتعقيداته، وتوثّقها من خلال الكتابة التي تتفاعل معها:

"هكذا نصبح رقمًا جاء بالخطأ إلى هذا الوجود

(...) ماهية الوجود شجرة فارغة من الداخل

(...) لا رهان على المستقبل/ العاطفة الجارفة التي تقنعنا بأهمية الحياة/ هي العقبة الوحيدة أمام الموت".

ها هي الشاعرة تسير إلى الأمام في درب الشعر وتتلفت إلى وحيها الماضي، تنظر إلى الوراء لتوثق سيرة امرأة معجونة من شوق وحنين بعيدًا عن وطن بات يفترس أبناءه بدلًا من أن يقدّم لهم الأمان والحماية.

تجتاز الشاعرة حدودًا لا يمكن لأي شخص أن يعبرها أو أن يتخطاها فهي تلامس مناطق حساسة تخوضها بأشد نوع من التحدي بلغة مليئة بالصدق واللاعنف، توصل رسالتها كنقمة على التقاليد البالية ورجال الدين وليس على الإله الذي تحاكيه وتشاغبه وتبحث عن علاقة خاصة به وتلومه وتتركه ثم تعود إليه.

إننا أمام شعر متّزن بين الانفعال والسكون، ووسط السكون انفعال ووسط الانفعال سكون، كأننا أمام امرأة تعرض للحياة بتفاصيلها، بقيودها، وبالطرق التي أساءت إليها، وكأنها تعطيها فرصة تسمعها لتعود إلى ترميم ما تحطم فيها بالشعر.

ترسم الشاعرة في هذا الديوان مسارًا جديدًا لتقول فيه كل ما لم تقله بعد، لتعتب وتلوم من لم تتوجّه إليهم بعد بكلمة مباشرة، تقدّم بيروت، تعطيها حق الصدارة على مونتريال بفعل النداء في العنوان، تشكو، تبوح، تحطم العقائد، تصف الخراب، وترى في شِعرها لوحات محملة بالمعاني الغنية والثورة على الأيديولوجيات البائدة التي تتحكم بالمصائر، تبدي الشاعرة تمردًا وثورة عليها فيأخذ الحيز الدلالي مكانته وتختار مفردات من صميم الواقع لتوحي بما هي عليه انفعالاتها وأحاسيسها وأفكارها.

وأخيرًا نرى نموذجًا لشعراء كما فرناندو بيسوا الهارب من الواقع الممل المقلق والذي يعيش حالة من اللاطمأنينة لعلّها الدافع نحو الكتابة. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.