}
عروض

"أصل الهوى نسمة": العلاقة الإشكالية بين فلسطين ولبنان

سوسن جميل حسن

8 ديسمبر 2023


"خارج المألوف هي، فلا بداية لها ولا نهاية، ولا إطار يحصرها في قالب معين، ويدفعك لفك رمـوزه وأســراره، والبحث عن مكامن الجمال فيه"- هذا ما تقوله الروائية الفلسطينية سلوى البنا في تقديم روايتها "أصل الهوى نسمة"، الصادرة عن دار الفارابي (2023)، ثم تنهي: "هذا العمل، في اختصار، يحاول الإضاءة على إشكالية العلاقة ما بين فلسطين ولبنان، والتي لها نكهة خاصة متفردة فرادة احتضان هذا البلد الجميل لقضية (فلسطين)".
لا يمكن إغفال إشكالية الوجود الفلسطيني في لبنان، وانقسام اللبنانيين بين مؤيد ومعارض لوجودهم، ولا يمكن إنكار حقيقة أن القضية الفلسطينية متجذرة في الحاضر العربي، منذ النكبة إلى اليوم، ولا يمكن للسياسات أن تُرسم بعيدًا عن القضية الفلسطينية، أو بمعزل عنها. جميعنا يعرف هذه الإشكالية التي ترقى لأن تكون مشكلة كبيرة في لبنان التي تقع اليوم تحت تهديد الحرب، على الرغم مما تعاني من انهيارات على مستويات كثيرة.
على هذه الأرضية نسجت سلوى البنا "منمنمتها" هذه، فهي الفلسطينية التي يسري في دمها نسغ فلسطين، البيروتية المليئة بحب بيروت التي أمضت عمرها فيها، هذا ما نلمسه في الرواية، في لغتها التي تنوس بين اللهجة الفلسطينية واللهجة اللبنانية، التي اتخذت منهما لغة الحوار، أو التداعي، لشخصيات الرواية.
نسمة صبية فلسطينية تنحدر من يافا، ابنة شاعر فلسطيني ومناضل "سليم العواد"، "رئيس تحرير مجلة ناطقة باسم جبهة طويلة عريضة، وإلها تاريخها النضالي العريق، يعني كاتب ملتزم ومسؤول". في الموسم الانتخابي الأخير، تعرض عليها رفيقتها "نينا"، أو "نونا"، كاسم للدلع، ابنة الوزير السابق "رفعت الحاج"، الذي ينوي الترشح للانتخابات، إعلانًا لوظيفة لدى "درويش السعد" المرشح عن حزب "الشعب" من منطقة بعلبك، يعدّه والدها خصمًا له، وتطلب منها رفيقة طفولتها أن تتقدم للوظيفة، وهي "تدوين سيرته الذاتية"، وتكون في الوقت نفسه بمرتبة "جاسوسة" تنقل لرفيقتها كل شيء عنه، كي يستخدمه والدها في محاولة إسقاطه في الانتخابات مقابل راتبين، أحدهما من والدها.
تذهب نسمة إلى مكتب درويش السعد، وهناك تكون المفاجأة، وتبدأ عقدة الرواية بالتوتر، فدرويش يعرفها، وهو من أقرب الأصدقاء إلى والدها الذي أضرم في صدره حب فلسطين.
تعيش نسمة حالة من الصراع كلما ازداد قربها من الدرويش، وكشف أمامها ماضيه وهفواته وسقطاته حتى، فتشعر أنها ترتكب خطيئة عظمى، وتدخل في نوبات من تأنيب الضمير والندم، حتى إنها صارت تعاني من كوابيس ليلية، ومع ازدياد التوتر، تكون شرارة الحب قد اتقدت بينهما، خاصة أن درويش لديه شخصية مسيطرة وجذابة، ويأخذ الندم ينهش روحها، بينما نونا تلاحقها بالرسائل تذكرها فيها بالاتفاق بينهما، وتصل إلى درجة تهديدها بفضح أمرها إن لم تلتزم بما طلبت منها، فتقرر مرات عديدة الاعتراف لدرويش بما قبلت القيام به، بعد أن كانت عزمت النية على الانسحاب بصمت، رافضة العمل، لكنها لم تفعل، بل تسير الأمور في ولادة قصة عشق خارج المألوف، وهذا ما أشارت إليه الكاتبة، "لا بداية لها ولا نهاية، ولا حقيقة مطلقة إلّا من خلال هذا الثنائي، الذي يرمز لحلم عاشه كلّ منا ذات عشق، وشكّل وجدانه، ورسم طريقه بوحي منه. بعضنا واصل الحلم، وبعضنا سقط منه في منتصف الطريق، وكثيرون منا توقفوا عنه".
بين مدخل يمهّد للرواية، وأربعة أجزاء كل جزء يتكون من فصول، تحبك الروائية خيوط السرد، كأنها تحبك قطعة "كروشيه" بسنارتها، فخيط الزمن يلتف ويدور، يتقافز بين ماض بمفاصل أساسية، وحاضر يتوزع على زمنين، زمن نسمة ودرويش، وزمن بيروت الحالي، خاصة بما آلت إليه بعد الحرب الأهلية، وما بقي منها من شواهد على ما كان، أو ما أزيل وبقي في الذاكرة، بالإضافة إلى الوجود السوري فيها.




درويش الذي ولد ذات صباح من عام 1960، هو الابن السابع بعد ست بنات لرئيس البلدية في إحدى مدن البقاع، أراد والده أن يدرس الطب ويصبح "حكيمًا"، لكنَّ لدرويش أحلامًا أخرى، واهتمامات في مكان مختلف، يذهب إلى بيروت بعد قطيعة مع والده، وهناك يلتقي بمرتضى، المقاوم الذي استشهد في معركة بطولية ضد الاحتلال في أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في عام 1982، مرتضى الذي كانت والدة درويش قد أوصته بالاهتمام بابنها الذي راح ليدرس الحقوق كان يعمل في مطعم الويمبي، وأمّن له عملًا في المطبخ وهو ابن رئيس البلدية المعروف، استشهد وترك له بندقيته، وعنوانًا يذهب إليه فيلتقي بـ"أبو علي جريس"، المنتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، والذي قضى ابنه ضحية الحرب الأهلية اللبنانية على حاجز المتحف "بسبب اسمه"، وربما لو قرؤوا اسم والده لمثلوا بجثته كما يقول، فهو يتحداهم بـ"عليّ"، وهذا في عرف الطوائف "جريمة لا تغتفر"، "قتلوه حتى يقتلوا الوطن بـ طوني ويزيد وعلي". كان أبو علي فاقدًا بعض أصابع يديه أيضًا. بعدها، راح درويش إلى الجنوب، إلى بنت جبيل. وهناك التقى بالشاعر سليم العواد، حيث "وضع سليم ذلك المفتاح بين يدي وهو يقول: هذه هي الأمانة التي نتشارك في حمايتها منذ الآن"، وليست الأمانة غير حبّ القضية والدفاع عنها.
نسمة ابنة الشاعر الفلسطيني المقاوم جاءت أيضًا بعد "نصف دستة" من الذكور، تربطها بجدتها "انشراح"، ابنة يافا لأب فلسطيني وأم لبنانية من صيدا، علاقة جميلة ومتينة تعود إلى الطفولة قبل أن تموت الجدة، تكرّس رمزية نسمة، فهي منذ ولادتها أطلقت عليها اسم "نسمة يافا"، وصدّقت الصغيرة الاسم الذي جلب إليها التندر والضحك من رفيقاتها الطفلات في المدرسة، وفشلت المعلمة في إقناعها بأنها نسمة ابنة سليم العواد، ما يشير إلى رسوخ الانتماء لدى الفلسطيني. كانت انشراح ملجأها كلما انتابتها حالة نفسية، أو تراكمت لديها الأسئلة، ولقد سقتها بحكاياتها الذاكرة الفلسطينية، فالجدّة انشراح هنا هي وجدان فلسطين وتاريخها الذي يتناقله الفلسطينيون شفاهية كي لا يضيع. كبرت نسمة، تنشقت مع عطر الياسمين عبق برتقال يافا، ونسائم بحرها، وذكريات جدتها التي لم ينطفئ مشهد منها. رغم تقادم السنين، كانت تقول لها: "شوفي يا ستي نسمة. كل بحور العالم وشواطيها، ولا إشي قدام شط بحر يافا". تروي لها الحدوتات، ومنها "حدوتة" عن سندريلا الفلسطينية: التي تروي فيها قصة البطل الشجاع الذي خاض البحار السبعة وصولًا إلى بلاد "الهونولولو" لتحرير حبيبته المخطوفة من قراصنة البحار. "اطّلعي بوجي منيح ركزي بعيني، رح تشوفي في بوبو العين. دار جدك الحاج ربيع، وإذا اطّلعتي منيح رح تشوفي إنو بحر يافا غير كل البحور".
يتدفق السرد بتلقائية الحياة، كما لو أن سلوى البنا هي من يروي "الحدوتة" الفلسطينية اللبنانية، أو كأن هذه الحدوتة تأكيد لتلازم الانتماء إلى فلسطين ولبنان، وتلازم المصير، فنراه تارة بلسان سارد نادرًا ما يظهر فيه الراوي عليمًا، بل يترك لسلوك شخصياته ومونولوجاتها الداخلية أن تتكفل بالمهمة، وتارة بلسان الشخصية ذاتها، وأخرى بتقنية تحتاجها لعبة الرواية، وهي أن الوظيفة التي جاءت نسمة لتقوم بها هي تدوين السيرة الذاتية لدرويش السعد، إذ يملي عليها سيرته مع ذاكرة بيروت والنضال في سبيل القضية الفلسطينية، فيأخذ السرد لغة الحكي، أو الإملاء على لسان الدرويش، ولقد اعتمدت الكاتبة على إدارة الحوار والمونولوج باللغة المحكية، مما أضفى على الرواية مستوى عاليًا من الحميمية، وبتركها للزمن الروائي حرية التدفق بما يلزم في لحظة الروي، فهي تنقلنا بين أزمنة متعددة ومتباينة، لنرافق الأحداث، ونفهم الوجود الفلسطيني في لبنان، علاقته بالحرب الأهلية، انقسام الشارع اللبناني، إلى اليوم، بين مؤيد لوجودهم وبقائهم في لبنان، ورافض لهذا الوجود.

بيروت في الرواية
وإذا توقفنا عند "بيروت" التي كتب كثير من الدراسات عن حضورها في الرواية العربية، كما انشغلت فيها الرواية العربية، وبعض الروايات الأجنبية أكثر من أي مدينة عربية أخرى ربما، فإن سلوى البنّا قدمت صورة شفافة عنها خاصة منذ بداية الحرب الأهلية ومن بعده الاجتياح الإسرائيلي، ثم بيروت في فترة الانتخابات التشريعية الأخيرة 2022، وبعد إلغاء حظر كورونا.




فدرويش عندما غادر بيت والده متحديًا رغبته، وجاء إلى بيروت، ليجدها في بداية ثمانينيات القرن الماضي "عشاق لفظهم حضن الحبيبة، لضيق ذات اليد، وثورجيين صغار، خرجوا على طاعة الكبار، ليجدوا أنفسهم على هامش حضن الـوطـن. وسلسلة طويلة من الشعراء والفنانين ممن أطلقوا العنان لخيالهم يرسم الوطن لوحة تجريدية أو قصيدة نثرية لم يسبقهم عليها أحد". وهو الذي انتقل من نادل في مطعم الويمبي في الحمرا إلى مقاوم في الحركة الوطنية، شكّل مسيرةً عمرها سنوات قليلة، لكنها كافية لتعيد تشكيل وعي ذلك الفتى اليافع، الذي وصلها مسكونا بالأحلام الكبيرة "أستيقظُ ذات صباح. وأجدني في حضن بلد يشتعل بالموت والدمار، وبدلًا من أن تنحره يد عفريت واحد، تلقفته سكاكين عشرات العفاريت، إن لـم يكن المئات. فخلعت الــوزرة وأحـرقـت الكتاب، وألقيت ّ بكلّ أحلامي طعمًا للنار".
شارع الحمرا الذي شهد مجد بيروت في زمن مضى تكاد تضيع ملامحه يـومـًا بعد يــوم. مسرح البيكاديللي لا تزال واجهته، برغم كل ما تراكم عليها من غبار الإهمال، يحمل ذاكرة زمن الفن العريق: "فيروز، الرحابنة، أنطوان كرباج، شوشو، فيلمون وهبي، وغيرهم"، مطعم الويمبي "الذي بات علامة فارقة في يوميات المقاومة الوطنية في بيروت، ضد غزاتها الصهاينة في تلك العملية التي كسرت غطرسة عسكر صهيون، وأيقظتهم من نشوة الانتصار" اختفى المطعم أيضًا.
بالإضافة إلى اللاجئين السوريين الذين "دفعهم الغزو الأجنبي لوطنهم إلى غزو بيروت طلبًا للنجاة إن صح التعبير"، كما جاء في السرد، وتصف واقعهم البائس، بين متسول وبائع للعلكة وما شابه، أو لمراهقات يتعرضن للاستغلال.
أمّا وسط بيروت، والحملة الانتخابية، فتتأمل فيها نسمة وجــوه المرشحين، تـحـاول أن تـقـرأ فـي ملامحها خـارطـة مستقبل لـبـنـان، وتشير إلى انقسام الشارع اللبناني بين مؤيد للمحور الإيراني متمثلًا بالقضية الفلسطينية، وبين من ينادي بلبنان "حرًّا من الاحتلالات، خاصة الاحتلال الإيراني البغيض"، وبينما تتأمل وجه درويش السعد في صورة الدعاية الانتخابية، يأتي واحد من مؤيدي فريق الصقور، كما تسميهم، يمسح الوجه بالألوان، ويكتب على الصورة "لا للاحتلال الإيراني".
هل اختلط حب فلسطين لديه بحب "نسمة"؟ حتى نسمة ساءلت نفسها إن كان يخلط بينها وبين فلسطين، بل ما يؤكد هذه الرمزية هو هتاف الحشود وهو يخطب في حملته الانتخابية، ويدعوهم ليحيّوا نسمة، فيردّوا "تحيا فلسطين". بينما صرخت نونا: لا للغرباء، وصرخ آخرون معها: لا لتوطين الغرباء.
بعد الانتهاء من قراءة الرواية، لا بد أن نستعيد المقدمة التي كتبتها سلوى البنّا، عندما تقول: "فلا الدرويش بطل عادي، ولا النسمة بطلة عادية، ولا الحب الذي يوحدهما يشبه الحب الذي نعرفه في الروايات. كذلك الأحداث التي تتوالى في فواصل وحلقات هي غير ما اعتدنا عليه في الرواية كسرد متسلسل للأحداث".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.