}
عروض

"الشرّ والوجود...": نجيب محفوظ عبّر عن واقعية خاصة به

بشير البكر

1 فبراير 2023




يبقى نجيب محفوظ عالمًا مفتوحًا على شتى أنواع الدراسات، لأنه من طينة الكتاب الذين تركوا منجزًا روائيًا غنيًا وعميقًا، لم يتمكن النقد من مجاراته أو اللحاق به. ومن هنا يأتي كتاب الناقد الفلسطيني فيصل دراج "الشر والوجود... فلسفة نجيب محفوظ الروائية" الصادر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية، ليقدم إضافة نوعية، وقراءة جديدة مختلفة عن كل المحاولات السابقة التي تصدّت لأعمال هذه القامة الأدبية العالية، والمعجزة الروائية التي من الصعب أن تتكرر.

محفوظ في نظر دراج "روائي بديع الأطوار"، ويعدّد بعض مظاهر وصفات وأحوال الفرادة التي تشكل شخصية وعالم هذا الكاتب الاستثنائي: شغف بالتاريخ ودرس الفلسفة، مع أنه بارع في مادة العلوم، واعتبر العلم أكثر أهمية من الأدب. واحترف الكتابة الروائية بينما رأى فيه عارفوه لاعب كرة قدم واسع الخطوة. قرأ يوليسيس جيمس جويس بالإنكليزية، وأعمال أناتول فرانس بالفرنسية. وانتظر طويلًا ثورة مصرية وابتعد عنها. وصالح بين الرواية والفلسفة، وجرب علم تعاليم عالم النفس التحليلي سيغموند فرويد القائل بصراع الوعي واللاوعي، إذ اللامرئي يفعل في المرئي ويأخذ به إلى دروب غامضة، وأعادت فلسفته الروائية تعريف الإنسان المغترب، الذي تمكر به طريق اعتقد أنها تقوده إلى الأمان. مكر الوجود وهشاشة الإنسان- مقولتان لم يتخل عنهما نجيب محفوظ، تعبيرًا عن "بصيرة عميقة"، تحدق بالأزمنة المتغيرة ولا تعبث بها الأزمنة.

أحد مفاتيح عالم محفوظ الوطنية المصرية المتجددة، فالروائي المتعدد اعتبر المرحلة الفرعونية المضيئة الوحيدة في التاريخ المصري، وهذا ما عبّر عنه في روايته الأولى "عبث الأقدار" عام 1939، ولكنه كان يفصح عن منظور قومي يشد عزم المصريين في بلد يعيش تحت الانتداب البريطاني يحكمه ملك غير مصري. وسجل بعض وجوهه في مكانين من القاهرة القديمة: خان الخليلي وزقاق المدق. ويعتبر دراج أن هناك واقعية محفوظية، غير أنها تنتسب إلى الواقعية ولا تنتسب إليها في آن، تتوسطها مفارقات الوجود التي لا يسطر عليها أحد. ولذا لم يمارس شكلًا واقعيًا مألوفًا، إنما عبّر عن واقعية خاصة به، تقرأ الزمن في الواقع وتعلن عن عنفه الرهيب، وتبني فردية متميزة لا تكون نمطًا، واستبعد اليقين واحتفى بالشك واللاأدرية. وأنتج خلال خمسين عامًا من الكتابة الروائية أشكالًا روائية متواترة، بدءًا بالرواية التاريخية والواقعية، مرورًا بالأمثولة ورواية الفرد المغترب، أو الرواية الرمزية، وصولًا إلى شكل خالص، كما هو الحال في "أولاد حارتنا" التي هي سيرة ذاتية وتاريخ يتجاوز الأفراد، وعبر فيها محفوظ عن صدمته بممارسات انقلاب عام 1952، ويمكن اعتبارها الرواية الأكثر هجائية وإدهاشًا. لم ينتقد ممارسات النظام بالكلام المباشر، قاومه بالشكل الروائي الذي يخادع الرقابة السلطوية، وفي "المرايا" رسم التعدد المختلف في الفضاء الإنساني، بينما تأخذ الأحلام في "أصداء السيرة الذاتية"، قوام الماء واللهب والغيوم الراحلة. أما "ملحمة الحرافيش" فهي رواية ملحمية، شكل لم تعرفه الرواية العربية من قبل، أعطى درسًا في تنوع الأرواح والوجوه والمصائر، وأظهر أن المدينة الفاضلة الدنيوية احتمال ضعيف.

ويأخذ دراج مثال الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) ظاهريًا، امتدادًا لنهج محفوظ الواقعي، دون أن تكون كذلك، فهي العمل الأكثر طموحًا في مساره آنذاك. وحاور فيها الرواية الكونية في أكثر أشكالها ارتقاء، ولن يجد قارئ الرواية الاحترافي صعوبة في أن يقارنها بعمل دوستويفسكي الأخير "الإخوة كرامازوف"، الذي تتوسطه عائلة، وأب مستبد، وإخوة، وضياع. ولا مشقة في مقارنتها برائعة توماس مان "آل بودن بروك" القائمة على عائلة مزدهرة، مختلفة الإخوة والأخوات، عاجلها التداعي والأفول.

وللدخول في عالم محفوظ يحدد دراج نقطة البدء من السلطة، فالكاتب استهل حياته الروائية برواية "عبث الأقدار" عن مصر الفرعونية ليقف عند مسألتين هامتين: مجد قديم واستبداد قديم. عاد إلى الزمن الفرعوني ليسقطه على استعصاء الحاضر، و"نزعة فرعونية" صعدت في ثلاثينيات القرن العشرين التي ألمح إليها في روايته "القاهرة الجديدة" عام 1946. وساءل الحاضر، موهمًا بأنه يسائل فرعونًا قديمًا توزع على السماء والأرض، وواجه الفرعون بسؤال قريب من الاتهام "من الذي ينبغي أن يبذل حياته لصاحبه، الشعب أم الفرعون؟"، ليؤكد أن عظمة الفراعنة من عظمة المصريين، وأن الحاكم العقيم يكتفي بنفسه وينكر شعبه. وأنكر الروائي، وهو يمجد الفراعنة، السلطة المتوارثة "المسوغة بمشيئة إلهية تنكر حق الشعب في اختيار حاكمه"، وتحول السلطة إلى ملكية خاصة متحررة من القيود، وربط بين الاحتكار المستبد للسلطة وبداهة القتل، كما لو أنها تتأسس على القتل، وتستمر به. وأسقط نظام الفرعون المستبد على حاضر يفتقد إلى المجد والعدل والحرية، وانتقل في رواية "القاهرة الجديدة" إلى راهن أقرب للكابوس، وتوقف أمام سلطة تابعة، تؤيد مسافة تعزلها عن المجتمع. ذلك أن السلطة الفرعونية لجأت إلى القتل الفعلي، وارتكبت السلطة الجديدة التابعة للانتداب البريطاني القتل الرمزي.

نجيب محفوظ في المقهى الذي كان يرتاده يوميًا بالقاهرة، يوم إعلان فوزه بجائزة نوبل (Getty Images, 14/2/1988)


وفي روايته "يوم قُتل الزعيم" عام 1985 قدم محفوظ مرافعة هي الأكثر عنفًا واحتقارًا للسلطة، عندما ابتعد عن زمن الفراعنة ووصف فرعونًا حديثًا، الزعيم الذي هزم شعبه وتبجح بالانتصار، ويسود في زمنه الاستبداد والفساد الذي تمارسه عصبة من اللصوص تسخر منها العاهرات، فهن أكثر رحمة وأنقى روحًا. ويستند دراج إلى كتاب جمال الغيطاني "المجالس المحفوظية"، الذي هو على لسان محفوظ، في تفسير بعض الوقائع في رواياته مثل "الشيطان يعظ"- 1979، ويستخلص أن الحاكم فتوة من نوع خاص، له عنف الفتوات وليس شهامتهم. وفي "أولاد حارتنا" يتجلى الفتوة جنسًا متفردًا من البشر والفتوة "هي السلطة، النظام، هي الدفاع، هي الهجوم، وهي الكرامة، هي الذل، هي السعادة، هي العذاب". وينهي المؤلف الحكاية رقم 51 قائلا: "تعلمني الخبرة مع الأيام أن حارتنا تقدس طائفتين الفتوات والبلهاء". وأراد أن يقول القوة بلهاء والزعيم نصب ذاته على عصابة من لصوص. وذهب أبعد عندما تناول المثقف المنبهر بالسلطة في "حضرة المحترم"- 1975، فهي تلتهم وتذيب وتشعل وتفرق وتنسي وتصدم وتنأي وتحرض وتأمر بالخشوع. ونفذ إلى قرار الانبهار بالمنصب العالي، متوسلًا لغة صوفية عن الإله والمريد.

ويرى دراج أن محفوظ سرد في روايته الفرعونية الأولى استبدادًا عموديًا، يمثله الفرعون المتأله. واقتفى في زمن الحداثة الموؤدة خرابًا أفقيًا، وهذا ينسحب على الغالبية العظمى من أعماله وخصوصًا ما بعد ثمانينيات القرن الماضي.

ومن بين أهم الركائز في الواقعية المحفوظية المفارقة، التي احتفى بها محفوظ بسبب ثقافته الفلسفية الواسعة، كون "الفلسفة مهد المفارقة التي يستطيع المرء تعريفها بالجمال المنطقي"، على حد تعريف الكاتب الألماني فريدريش شليغيل، وباعتبار أنها لا تنفصل عن تطور الوعي الحديث الذي قوامه وعي الفرد لأهدافه، ولأنها تعبر عن تصوره الذاتي للوجود اتخذ منها فلسفة وتقنية، يبني عليها الفعل الروائي في أطواره المختلفة، وتضع في العمل الأدبي تضادًا يمدّه بالحركة ويمنع عنه الاكتمال، ويدرج فيه صيرورة مفتوحة تنفي الثابت وتنكر التقليدي وتستعيض عنهما بتطور يرفض الانغلاق، ويجعل من الفعل الإبداعي بناء وهدمًا معًا. وعلى حد تعريف فرويد "لا تنطوي المفارقة على أية تقنية إلا التمثيل بالضد". وفي كل عمل من أعماله تتجلى في أبعاد مختلفة، ففي الرواية الأولى ظهرت بمواجهة الضد، والثانية السخرية من السلطة، والعمل الثالث احتضن نظر الروائي إلى العالم والكتابة الروائية. واستعاض الروائي في "بين القصرين" عن الشقيقين المختلفين في الملامح والأقدار بشقيقتين صارختي التباين. ودفع بالتضاد بين مآليهما إلى حدوده الأخيرة. وتكشف المفارقة المتعددة الأشكال في نص محفوظ الروائي عن معرفته الدقيقة بدلالاتها، وعمق معرفته بالفلسفة الحديثة، وهو الذي درس الفلسفة في جامعة القاهرة. ولكنها في كل حال ليست بعيدة عن النقد السياسي ومساءلة القائم والتنديد به، اعتمادًا على تصور القناع والتستر المخادع.

ويعود دراج إلى عدة مراجع ليدلل على أن محفوظ أدرج التشاؤم في تصوره للعالم، ولعل هذا ما أقنع الروائي بدلالة الصدفة التي تزيح الإنسان من موقع إلى آخر، وتضعه في مواجهة ما لا يتوقع، بعد أن توهم أنه لا يخطئ السبيل. وجاء مفهوم الصدفة من ثقافة روائية واسعة ومن منظور فلسفي يقرأ العالم في تناقضاته. وعايش مفارقات الوجود وكتب عنها في آن. اعتبر الشر إعلانا عن فساد الطبيعة يتجلى في الإنسان بأشكال متفاوتة متنوعة، ولم يعتبر مواجهة الشر بالشر مجديًا، لأن شر الإنسان قديم كقدم الطبيعة.

والخلاصة هنا أن دراج يرى بأن محفوظ أنجز مشروعًا روائيًا، قصّر عنه الروائيون العرب جميعا، اختبر الحقيقة الروائية، بأشكال روائية جيدة يتكامل فيها الإبداع والمقاومة. لم يتطلع محفوظ إلى رضى السلطة، واطمأن إلى ما يرضي رسالته. وواجه محفوظ النظام البوليسي، المهجوس بالقامات المنحنية، بشكل روائي بوليسي، مقتربًا من الإنكليزي غراهام غرين. وساوى بين المقاومة الروائية والمكر الروائي من أجل مخادعة السلطة، كأن تذهب الرواية إلى القديم وتقصد الحاضر. وهنا تتبادل الأزمنة الأقنعة ويتبادل الحكام المهزومون الوجوه، فتكون بعض الأزمنة أقنعة لأزمة أخرى، وعلى حد قول الفرنسي غونكور "التاريخ رواية وقعت، والرواية تاريخ قابل للوقوع". وقد يكون النظام العابث قناعًا لغيره، أتى أو سيأتي، بقدر ما يكون أسلوب كاتب قناعًا لغويًا يحجب قوله المباشر، ويقف محفوظ في "يوم قُتل الزعيم" أمام مجتمع من سديم، كل إنسان خارج نفسه، واقنعته وجوه منسوجة من التستر والخوف، ويصبح القناع في زمن الخراب جماعيًا.

يشكل كتاب دراج إضافة مهمة إلى الرصيد النقدي الكبير لمنجز محفوظ الروائي، باعتماده منهجًا جديدًا لم يسبقه إليه أحد من النقاد يقوم على توظيف واسع للنظريات والأساليب النقدية لقراءة محفوظ وتفكيك أعماله على نحو تفصيلي، ما يجعل من هذا الكتاب فريدًا ونادرًا في هذا الوقت الذي يطغى فيه النقد السريع، ويتراجع النقد الرصين القائم على المعرفة والثقافة العميقة والجهد، وهو ما يستحق دراسة موسعة تتجاوز العرض، فهو كتاب يتضمن في داخله مجموعة من الكتب، فهو يفرد على سبيل المثال فصلًا مطولًا للثلاثية، بوصفها "العمل الأكثر تميزًا في تاريخ الرواية العربية"، وهي مرآة لمنهج محفوظي في الكتابة ومعالجة روائية لثورة عام 1919، وعودة إلى قاهرة الثلاثينيات والأربعينيات التي ينتمي إليها أكثر من انتمائه لذاته، وهي ليست سردًا لأحوال القاهرة القديمة بقدر ما هي استرجاع ذاتي لما عاشه فيها كما لو كان يسرد تجربته الذاتية بمنظور راكمته الحياة لا يرتاح إلى النهائي والأخير، وباعتبار أن الزمن في الرواية مفتوح البداية والنهاية، يدرس دراج "الزمن والشر وعتمة الوجود والعالم الإنساني بين الزمن والموت". ذلك أن الكاتب اشتق الشخصيات من تجاربها في المكان، وعطف عليها الأقدار متعددة الاحتمالات. وأكد أن تسعين بالمائة من الشخصيات واقعية، أزاحها التعامل الفني عن حالاتها الأولى. وأراد من كتابة هذا العمل الذي استغرق أربع سنوات أن يخلص روائيًا إلى مكان أحبه، وأن يكشف عن إمكانياته الفنية، ويترجم فلسفته في الحياة والتاريخ. ورسم محفوظ في ثلاثيته أحمد عبد الجواد "سي السيد" الشخصية الأشهر في أعماله، والأغرب في الرواية العربية، والفاتنة لنقاد الأدب، بوصفه صورة عن "الفراغ المستبد"، المحتشد بفراغ مهين بيولوجي الأبعاد، يتكامل فيها الغريزي والحسبان الفقير والموروث الأبوي المستمر.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.