}
عروض

"واحات ثقافية" ليمنى العيد: استعادة الذاكرة الأدبية

ليندا نصار

17 فبراير 2023



تمكّنت الدكتورة الناقدة يمنى العيد من نقش الثقافة العربية بما هو نوعي ومميز، وقد واصلت عملها في الأدب والثقافة راصدة التحوّلات التي أدت إلى تطوّر الأدب العربي الحديث في لبنان والدول العربية، محاورة الثقافة الغربية، ممارسة نقدًا خاصًّا بها، باحثة في أعماق النصوص. وهي التي شدّدت على الجانب الإنساني في الأدب بالإضافة إلى بنيته الفنية.
بين أيدينا كتاب يختلف عن إنجازات الناقدة يمنى العيد، لما فيه من مزج بين السيرة الذاتية والغيرية في آن. فقد اشتغلت عليه الكاتبة بمهاراتها وتقنياتها اللافتة، فجاء تعبيرًا عن مرحلة عاينتها وحياة عاشتها مع الأدباء والمبدعين، مضيفة إليه حساسيتها الجمالية بوعي إنساني ومعرفيّ، وقد احتفت بأصدقائها الأدباء خصوصًا أولئك الذين طبعوا أثرًا لا يمحى في ذاتها وأرادت له أن ينتقل إلى ذاكرة القارئ.
ضمّنت يمنى العيد كتابها مقاطع موجزة من حوارات أو أحاديث دارت بينها وبين أدباء ومثقفين، عن الأدب والحياة والمنفى والنضال والمعاناة وعلاقة الأدب بالحياة. كما ناقشت موضوع الكتابة وعيشها وحياة الكاتب... بتعدد المنظورات وبحسب التجارب التي عاشها هؤلاء جميعهم.
في كلمة حول كتاب "واحات ثقافية" الصادر حديثًا عن دار الفارابي بيروت، قالت يمنى العيد لـ "ضفة ثالثة":
"ما يميّز (واحات ثقافية) أنّه لا يكتب عن أشخاص ومراحل ومناسبات فقط، بل يجمع بين تاريخ الثقافة والحالة الثقافية كما أنّه يؤرّخ لها".
وتؤرّخ الكاتبة للمناسبات ولخصوصيات العلاقات بين الأدباء، فتضيء على جانب الصداقة وجانب الاحتفاليات، فهذا الكتاب احتفال بالمكان الذي صار فيه الحدث.
وعن حضور بعض الشخصيات تحدثنا يمنى العيد عن أول جائزة للمجلس الأعلى للثقافة التي نالها عبد الرحمن منيف المميز بوجود الطيب صالح كشاهد، بالإضافة إلى المتخيّل الذي أضافته إلى توثيق المناسبات والاشتغال على العلاقة بين الحميميات والأدب والأشخاص أي على العلاقات الإنسانيّة.
وتعتبر العيد أنّ هذا الكتاب قد توسّل أسلوب السرد والرسائل والحوار، كما يتداخل فيه المرئي والمسموع والمرجعي. كما تسميه: "ولادة الحياة على حافة الموت وولادة الكلام على حافة الذكريات".
ويسير الكتاب انطلاقًا من عنوان يليق بتجربة الشخصية التي اختارتها، ثم تحية أو شهادة يليها هامش، ومن ثمّ ذكر المؤلفات والكتب التي حققها هذا الكاتب.
ضمّنت يمنى العيد كتابها مقاطع موجزة من حوارات أو أحاديث دارت بينها وبين أدباء ومثقفين، عن الأدب والحياة والمنفى والنضال والمعاناة

وتهدي صاحبة "أرق الروح" كتابها هذا إلى من رحلوا تاركين عطر نتاجهم الثقافي في القلب والروح. فبالنسبة إليها، يعدّ تدوين الذكريات فرصة لإعادة الحياة مرة ثانية وترى أنه مع كل قارئ جديد ثمة انبعاث لحياتنا. فالكتابة بالنسبة إلى يمنى العيد مواجهة للموت من خلال تخليد ما يكتبه الأدباء والنقاد، تقاوم الزمن وتمس شغف القلب ويقظة الذهن.
وتسترجع العيد بداياتها في أواسط القرن الماضي حيث كان من الصعب أن تأتي المرأة إلى الكتابة، وكانت الذكورة حالة مسيطرة على المجتمع، وكانت النظرة إلى المرأة دونية على أنها التابعة للرجل. بالرغم من ذلك استطاعت الانتقال إلى المجال الثقافي وتمكّنت من اختراق تلك المرحلة، وهي لم تتوان عن ذكر بعض الأدباء المناصرين للمرأة المبدعة والذين قدموا إليها المساعدة والعون في بداية الطريق. فهذه الذاكرة التي ألحّت على مؤلّفة هذا الكتاب أبت أن تحتفظ بهذا الكمّ من الحكايات، وأرادت أن تنتقل معها عبر هذا الزمان لتنقل الأثر فيبقى خالدًا في ذاكرة المكتبة العربية.
تكتب العيد في النص الأول من كتابها بعنوان "أنثى تتحدّى" عن ذاكرة عام 1978 إثر ترشيحها من قبل اتحاد الكتاب اللبنانيين للمشاركة في ندوة نقدية في القيروان في تونس، وتبرز دور هذا الاتحاد في تلك المرحلة، في بداية نشاطها الأدبي، كما توثّق لمشاعر الرهبة وتحدّيات السفر بمفردها، أو كونها قررت احتمال مسؤولية تمثيل اتحاد الكتاب اللبنانيين. بالنسبة إليها كانت هذه لحظة انتصار للأنوثة في زمن لا يعيد إليها أهمية لاعتبارات سبق أن أتينا على ذكرها. وقد اعتمدت يمنى العيد الوصف الدقيق للمعالم والأمكنة وثقافة وتقاليد البلدان التي مرّت بها أو زارتها خلال رحلاتها الثقافية أو في منزلها حيث كانت وعائلتها تستقبل المناضلين الذين يساندون بيروت الصامدة بنضال أهلها ومثقفيها.


لم تكتفِ العيد بالاحتفاظ بالذكريات بل حين تقرأ كتابها تشعر كأنّك داخل الحدث وذلك من خلال قدرتها على المزج بين الواقع والمتخيّل. كما أنها راحت تتذكر النضالات على عدة أصعدة في المناسبات الأدبية التي دعيت إليها أيضًا في أكثر من بلد عربي.
أما عن لقائها الأول فكان بالأديب الناقد إحسان عباس المدعو بصفته فلسطينيًا والذي كان يومذاك أستاذًا للأدب في الجامعة الأميركية في بيروت. فتصوّر لنا يمنى العيد تفاصيل السفر والتدقيق في المطار بالمثقف اللبناني الآتي من بلاد الحرب والثورة اليسارية ومشاعر الوحدة والخوف والتعب. كان ذلك لقاء إثبات حريتها واستقلاليتها وكبريائها الأنثويّ. وتشتغل الحواس عندها على إشراك الذاكرة المتخيلة في هذه السيرة. وتوضح سمات هذا المثقف، وتحيطنا بالوجه الآخر له كعفويته ومرحه ولطافته. أما عن الوجه الأدبي فاللافت في تجربة إحسان عباس بالنسبة إليها هو بحثه عن خصائص الشعرية في النصوص ودراساته القيّمة في الشعر المعاصر. وقد كان رائدًا في تعليم الأجيال الجديدة، كما دافع عن الشعر الحديث والإبداع فيه واكتشاف إمكاناته التي لا تخضع للمواصفات العقلية وهو الذي اعتبر أنّ دور الشعر مختلف عن الوعظ والإرشاد.
في "مفردة واحدة هي الوطن" يتوقّع القارئ أن يكون درويش هو المشار إليه في هذا النصّ. فقد كانت الكاتبة ترى فيه صورة شاب تعادل صورة فلسطين المحرومين، فتصف زيارته لها ودعوتها له إلى قريتها في صيدا وكأنّ من يتحلق حول الشاعر يتحلق حول فلسطين.
تصرّ الكاتبة هنا على علاقتها بالكتاب والأدباء كونها أنثى تمكنت من كسر المألوف واختراق الوسط الذكوري، وقد كان درويش ممن شجعوها. فتذكر الندوات والدعوات واختلاف الآراء والمنظورات بينها وبين الكتاب، فالياس خوري مثلًا كان يعتبر النقد تأويلًا بينما تؤكد العيد على العلاقة بين الأدبي والمرجعي. وفي تلك الندوة لاتحاد الكتاب اللبنانيين قال درويش: "تابعي ما تبحثين عنه"، وقد وجد في العيد صدى الفكر المادي الماركسي الذي تنتمي إليه.

تبادلت العيد الآراء حول الصراع بين حياة الكتابة والحياة التي يعيشها الكاتب، فبرأيها الكاتب يكتب فيموت وهو يبدع حياة بديلة لا عن موته بل عن هذا الحرمان من الحياة

في "الرواية الحياة"، يطالعنا غالب هلسا كالطير الذي يبحث في المدن عن الحرية والدفء الذي سلبه إياه النفي والسجون... بسبب أفكاره الشيوعية. وقد انتصر للحرية ودافع عن القيم والعدالة في وجه عبد الناصر الذي سجنه. ودافع هلسا عن حقوق المرأة وقدّرها بوصفها أنثى فاعلة لها حقوق في مجتمع تحكمه النظرة الذكورية.
السؤال الإشكالي الذي طرحته على غالب هلسا هو عن التوفيق بين حبه للحياة باعتبارها زمنًا ماديًّا يأخذ الوقت، وبين انصراف الكاتب الكلي إلى الكتابة، ليردّ بأنه ثمة تناقضًا بين الكتابة والحياة. يعيش الكاتب اللحظة ليكتب عنها وفي لحظة الكتابة تكون الحياة مؤجلة، يعيش فيترك الكتابة وراءه ويبدو ذلك فاجعًا. الكتابة أو الحياة المطروحة على الورق سؤال مطروح على الحياة نفسها. ولا كتابة من دون عيش الحياة.
تبادلت يمنى العيد الآراء حول الصراع بين حياة الكتابة والحياة التي يعيشها الكاتب، فبرأيها الكاتب يكتب فيموت وهو يبدع حياة بديلة لا عن موته بل عن هذا الحرمان من الحياة. كذلك يؤرخ الكتاب للمناسبات، ودخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت، وخروج الفلسطينيين منها، ورحيل غالب عن بيروت بالذكريات.
وتستعرض ما يقوله غالب هلسا على أنّ كل امرأة بالنسبة إليه هي صورة أمه، وتعكس علاقة ما بها في الطفولة. ثمّ تضيف أنّ المكان يبدو امتدادًا للأنوثة وللمرأة وللأم وللمعشوقة.
تحت عنوان "الصوت البهي"، تستعيد الذاكرة حضور عبد الرحمن منيف حيث كانت عضوًا في لجنة التحكيم الأولى لجائزة الرواية العربية من المجلس الأعلى للثقافة في الأوبرا القاهرة. وعن هويته وانتمائه قال منيف: "هويتي أن أكون روائيًّا يحكي ما عشنا ونعيش، ويفسح للناس العاديين مكانًا هو لهم في هذه الحياة". وتستذكر الكاتبة "مدن الملح" و"أرض السواد"، وكأنه يعطي الشخصيات والناس فرصة لأن يقولوا أحلامهم وهمومهم.
في نصّها المعنون بـ"مؤسسة ثقافية" تستعيد العيد سهيل إدريس باعتباره أكثر من أديب. إنه مؤسسة ثقافية في تاريخ ثقافتنا العربية، وهو علامة بارزة في أدبنا تستعيده بـ"الحي اللاتيني"، وهو الذي تميّز بالتوفيق بين تجربته الحياتية المتحررة وما رافقها من معاناة، وبين دراسته الأكاديمية. وتحضر في هذه الذاكرة مجلة "الآداب" التي كانت من أجل أدب عربي قومي وثورة ثقافية تحرر المجتمع من أمراضه وتقاليده البالية. وقد حمل سهيل إدريس هذا المشروع من باريس بعد تعرفه على ثقافة الغرب بمن فيهم سارتر والوجودية. وكان ملتزمًا بقضايا الواقع العربي والهوية العربية ولكنه غير منغلق، فقد كان ينشر للمبدعين ويحتضن الأقلام وينشر الإصدارات في دار الآداب.
وتستعيد رضوى عاشور في نص "احتفال ووداع"، هي التي حضرت إلى مسرح جامعة عين شمس في مصر وكانت تعلم أنّها في رحلتها الأخيرة لتعبر من هذه الحياة بعد علاجها في الغرب. ورضوى المناضلة التي لم تكن لتغادر ميدان التحرير لولا العلاج وهي الرافضة أي نشاط ثقافي أو أدبي يقام تحت سلطة النظام. كانت تقول إنها تخاف لا من موتها بل من الموت بأقنعته المتعددة والتي منها الوأد، وأد الأنثى التي تنتمي إليها بصفتها امرأة عربية ومواطنة من العالم الثالث. تخاف رضوى حد الكتابة عن نفسها وعن آخرين تشعر أنها مثلهم وأنهم مثلها.
واختلف الأدباء في منظورهم حول الرؤية الشعرية والريادة للشعر الحديث، فترى يمنى العيد أنّ البياتي ذا التجربة والنظرة الشعرية الخاصة، أعلن تغير رؤيته. فبرأيه القصيدة لا تقتصر حداثتها على التفعيلة بل يجب أن تكون معنية بمعاناة الإنسان في وطنه مثلما حدث معه من معاناة زمن اعتقاله ونفيه بسبب معارضته لنور السعيد في بغداد. وعندما قال البياتي لقد تغيرت رؤيتي، كانت تهيئة لأن تكون الثقافة ضرورة وطنية أولى وعلى المثقفين أن يتحاوروا بدلًا من أن يتخاصموا لصيانة إنسانية الإنسان. وقد فتح البياتي تاريخه الشعري على التاريخ الإنساني، وظل يقول الشعر بالرغم من المعتقلات.
هناك شخصيات أخرى استعادتها يمنى العيد في هذا الكتاب أيضًا منها كاتب ياسين ويعقوب الشدراوي ومهدي عامل وسعد الله ونوس وعصام محفوظ وسلطان العويس ومحمد دكروب وإدوار الخراط وإبراهيم أصلان وحسين مروة وغيرهم...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.