العلاقة بين الشعر والجنون علاقة تاريخية في الثقافة العربية والثقافة الإنسانية عمومًا، من زاوية أن الجنون هو السلوك المخالف للسائد والمألوف، وأن الشعر كذلك حين يقدم الشاعر امتيازًا لتجربته ولغته عمّن سواه وعما سواه، وحين يكون الشعر سلوكًا للطرق الجديدة التي لم يجربها سواه من الناس، ومن الشعراء، كذلك في الرؤيا وفي التشكيل، ولذلك الشاعر مجنون في انتقاء المفردات والصور والتراكيب الخاصة به على المحورين الرأسي والأفقي، وهو ما يشكل أسلوبه وخصوصية تجربته. فما الذي يجعل فيوليت أبو الجلد ترافق المجانين إلى عقولهم إلا الشعر:
لأكتب عليّ أن أوزّع الماضي على المساكين،
أن أرافق المجانين إلى عقولهم، وأعود بغنائم فادحة،
عليّ أن أخسر رئتي... أن أختنق بصوتي،
بينما الأغنية التي مات عازفها منذ يومين
تمتدّ إلى الحقول القريبة لتملأ هذا الجوار
بالحبّ الذي أطفأته وأنا... أكتب.
فالشعر ينبني على الخسارة، ولكي تكسب فيوليت الشعر تخسر ماضيها وعقلها ورئتها وصوتها وحبها، وتستخدم لذلك هذه المفردات: أوزع، أختنق، أخسر، أطفأته... كل ذلك في سبيل أن تكتب الشعر، وهو مكسبها الوحيد، وهو ما يساوي غنائم فادحة ومرافقة للمجانين إلى عقولهم حين لا يقبل إلا المجنون أن يخسر كل هذا ليكسب الشعر ولتكسب فيوليت القصيدة. فالجنون علاقة خاصة بالعالم، والشعر علاقة خاصة باللغة عند فيوليت، تقول:
المرأة التي انحنتْ توشوش الماء عن سرّها
وقعتْ في اللغة.
هذا الوقوع في اللغة عند فيوليت يتخذ شكلًا خاصًا، شكل الجنون والمختلف في التعامل مع اللغة، وصنع روابط خاصة بين الحضور والغياب، وبين الدال والمدلول، تقول:
أصعد إلى خلوته، خلية البال
أنا الرؤيا،
ساقني الحب إلى عليائه في رقادي
وفي رقاده صحوت.
المساس بالخلود
أنّ لي ملمس الصلاة في عزلته،
أن له شكل الجرح في ندوب الشعر،
وأن هذا الوجع الصوفي لن يخطئ القلب.
يتوجه هذا النص إلى غائب تعبر عنه بضمائر الغياب، وهو/ هذا الغائب عالٍ في خلوته التي تصعد إليها الشاعرة/ الرؤيا في نومها ونومه لتتخذ شكل الحلم. ينتهي هذا المقطع الأول من النص، ويبدو المقطع الثاني منفصلًا عنه، ولكنه المساس بالخلود، ويكون شكله في السطر التالي الذي يبدأ بأن، ويبدو كأنه الإجابة عن السؤال الذي يتشكل لدى القارئ من قراءة المقطع الأول. ولذلك ما يبدو منفصلًا نحويًا يتصل دلاليًا باستحضار المعنى الغائب: السؤال الغائب وإجابته الحاضرة. وتتخذ الإجابة هذه الصورة المجازية: هي لها ملمس الصلاة، وهو له شكل الجرح، وسواء أكان هذا الآخر هو الحبيب، أم ملهم الشعر، أم الشعر نفسه، إلا أنه ثابت وحاضر وملموس، وسيكون موجودًا في كل قصائد الديوان إزاء الشاعرة التي تحول هذا الوجود: الوجع الصوفي كل مرة إلى قصيدة. أما الشاعرة فهي ملمس الصلاة في العزلة، وهي هذا الوجود الهائم الذي تعبره الأشياء، ويمر من خلاله البشر، وتخترقه التجارب. تقول في مواضع أخرى: أنا المرأة الوهم، أنا جرح الكون، أنا نزيف الأنهر، أنا أغنية على شفاه رعاة الغيم، أنا صرخة في حنجرة خرساء، أنا مزاج في شاعرة، أنا المرأة الوادي..
كما تستخدم الشاعرة لغة إيروتيكية تقارب الجسد وتلمسه من دون أن تنتهك قدسيته، فهي ليست لغة مبتذلة ولا مباشرة، وهي ترى كما قرأت في حواراتها أنها تعبر ببساطة وبصدق وحرية عن نفسها، وجسدها هو ذاتها:
نحن سكان أجسادنا،
لا نفتح الباب إلا للعاشق الشره،
لنكون وليمته،
لنصير ضيوفنا فيه.
وفي موضع آخر:
على مهلك وأنت ترتشف ريق لسانها
وصمته الأبدي بعدك.
على مهلك وأنت تصغي لانحناءات شهوتها،
وأنت تعدّ على أصابعك
حتى السابع من سماواتها،
وأنت تتوالى في عمر ضحكتها.
على مهلك وأنت ترتمي في العتمة أو في الضوء،
أو على جمر تعده لها على مهلك.
ولعل الجنون في هذا السياق أن تكون المرأة متصالحة مع نفسها ومع جسدها، وتعبر عنه بلغة تراوغ بالمجاز، ولكنها صادقة وحقيقية، باستخدام لغة مغايرة ومختلفة، ولكنها غير مخادعة لنفسها وللآخرين، لأن الشعر حرية وثورة وتجاوز للسائد والمألوف عمومًا، وهو هنا يخص تجربة المرأة، وتعبير المرأة/ الشاعرة عنها، وهو ما تسميه جوليا كريستيفا: " تشابك بين الجسد والحلم والبنية اللغوية وبين الرغبة"، وذلك ما يمكن تتبعه في تجربة الشاعرة منذ ديوانها الأول: "أوان النص... أوان الجسد" وحتى الآن، فالرغبة تشتبك بالحلم وباللغة لتغدو نصًا إيروتيكيًا عميقًا وشفافًا في الوقت نفسه.
والشاعرة فيوليت أبو الجلد تحاور العالم من خلال قصيدتها، ومن خلال مقطوعات تبدو كأنها تحاور ذاتها من خلالها، فهي المرأة/ الشاعرة/ العاشقة/ الشاهدة على زمانها بكل مكوناته، من حرب وحب وصراع وقتلى وغرقى ومجانين فتقول:
هل يبالي خصركِ بما يدور حوله من حروب،
هل تدرك قلائدك كيف يُمكن لخنجر أن يلمع أعلى صدرك،
هل تعرف أساوركِ أنها إذا فقدتْ رنينها ستسيل منها الكتابة
هل يُمكن لامرأة أن تبتلع مع ريقها الغرقى والقتلى والطغاة،
ثم تهذي بالحب!
ثم تدمع لأن رجلًا عبر فوق اتقادها بضجر!
فالشاعرة لا تستطيع أن تتجاهل العالم وما يدور فيه بهذه الأسئلة الاستنكارية، ولكنها لا تستطيع أن تكون طرفًا في الخراب والقبح، كما لا تستطيع محاربته في الوقت نفسه، ولكنها تستطيع مواجهته بالحب وبالكتابة، حين يكون الشعر كما ترى وسيلة جمالية للوقوف في وجه القبح والخراب والكراهية، وحين تجيب في حواراتها عن جدوى الكتابة، وتجيب كذلك في نصوصها ودواوينها:
أكتب كي يُخلصني الخطأة وأخلص القديسين
كي أموت كل صرخة وأبعث كل أغنية
أكتب لأني أغار من الوديان،
لأني أخاف الجبال،
لأني لست الصخرة ولا الطائر ولا الصدى.
فالكتابة خلاص وبعث ومحاولة للوقوف أمام الطبيعة الأم ومجاراتها، وإعادتها إلى اللغة، وإعادة الإنسان إليها ليتخلص من وحشيته وماديته.
تقول في موضع آخر من النص نفسه:
أكتب لأني لا أفهم ما يجري،
لأن ما يجري لا يفهمني
لأني حائرة وقلقة وخائفة،
لأني صغيرة على كل هذا الخذلان
وكبيرة بما يكفي لأشيخ فوق نصي وأذوي.
فالكتابة هي أيضًا محاولة لفهم العالم، ولفهم الذات، ومداواة جراح العالم وجراح الذات، وهو ممارسة الجنون عبر اللغة لمواجهة جنون العالم، فبالحب وبالشعر وبالرقص وبالإيمان بالذات والاعتراف برغباتها وخطاياها تتقي الشاعرة الجنون، أو أنها ترتكبه عبر الكتابة واللغة، وصولًا أو رغبة في الوصول إلى الخلاص الفردي والجماعي.
ويمكن ملاحظة الرموز والإحالات الأدبية والدينية والتراثية في نصوص فيوليت أبو الجلد التي تصب في هذا الإطار، من مثل سالومي ويهوذا والمسيح والمتصوفة... وهي رموز تشير إلى هذه المواجهة بين الشر والخير، وبين الجمال والقبح، والتي لا تجري المصالحة بين هذين الحدين في العالم إلا بالشعر وبالحب، ومن خلال جنون اللغة وثورتها على كل ما يجري. تقول الشاعرة:
أنا قُبلة يهوذا على خدّ الندم
لفحني الحب
صار النسيم إلهًا
سقطت من يدي فضة،
لكنهم ساروا على اللغة،
حولوا الماء إلى خمر قبل أوان الخطيئة
من سلالة الأنبياء قيل،
صدّقوا وما صدّقنا
من التراب وإلى التراب يعودون،
صدّقنا وما صدّقوا.
وتقول في نص آخر:
أريد رأس الفتى على طبق من فضة
رقصت، وهذا آخر ما دوّخت خصري لأجله،
هذا آخر ما وشمت على قدميّ
خطوة بعد خطوة لنيله
أريد رأس من أحب
على طبق من نار ومن دخان،
أريده على عتبة الموت قبل النسيان وقبلي.
فالشاعرة تحاور الرموز على اختلافها وتنوع دلالاتها، لتطوعها للحب وللشعر، ولتجعل من شرور العالم أداة لصنع الحب والخير والجمال، فتشفع قبلة يهوذا بالندم، وتربط قطع رأس يوحنا المعمدان بالحب، فتحول هذا الماضي الذي يوازي الحاضر وتسقطه عليه بشكل أو بآخر لتحوله من القتل والخيانة والغدر إلى الجمال والخلاص بالحب وبالشعر.
وأخيرًا، فإن الشاعرة اللبنانية فيوليت أبو الجلد في هذا الديوان "أرافق المجانين إلى عقولهم" (2016)، وفي دواوينها الأخرى، تكتب قصيدة نثر خاصة بها، ويمكن ملاحظة خصوصية لغتها وصورها الفنية المدهشة التي تعبر عن ذاتها كامرأة، وعن علاقتها بهذه الذات، وبالعالم، وكل ما يجري حولها، بمرافقة المجانين إلى عقولهم.
*شاعرة وأكاديمية ـ الأردن.