تستوطن العنصرية في عقولنا، تستحوذ على مكانتها في نفوس البشر كأنها متلازمة لوجودنا. الكراهية التي نحملها للآخر هي انعكاس لما نراه في مرآتنا، هذه صورنا التي نرفضها، نتجنب الخوض بتفاصيلها، فتحرر نفسها بأفعالنا. ربما لم يخطئ الكاتب هيثم حسين حين أخذنا إلى داخل ذواتنا في كتابه الصادر حديثًا "العنصري في غربته"، وكشف عن سلسلة الجرائم التي نقترفها كل يوم. لا تحتاج الجريمة إلى سلاح حاد أكثر من الكلمة، أو النظرة التمييزية، وكذلك الفصل القومي والديني والطبقي واللوني يقوم بذات المهمة، قد تقل صورها في مكان ما، شرط أن يكون محكومًا بقوانين تجاوزت مراحل ما بعد البدائية المدنية، لكنها ظواهر لا تختفي بفعل السلطة، سواء كانت قمعية أو ديمقراطية، ولا تكثر بسبب الفوضى وحسب، لأنها تدخل في حيز التكوين النفسي المتراكم عبر التنشئة والحكاية والمظلومية والسيادة.
قرأ حسين جريمة عفرين/ جنديرس قبل أن تسيل دماء نوروز في 21 من هذا الشهر آذار/مارس 2023، كأنها سطر يعيد نفسه من سلسلة جرائم سابقة وربما لاحقة، تعري واقع العنصرية التي عاشها في مدينته عامودا، وهي ذات التفاصيل التي لا تختلف كثيرًا مفردات العيش فيها عن عفرين، سواء كانت عنصرية عربية أيديولوجية معادية لكل ما هو مختلف عنها، أم عنصرية كردية متقوقعة ضمن مجموعات صغيرة ترفض اختلافات المجموعات الأخرى عنها نسبًا أو لونًا أو تبعية، وامتدادًا لذلك قد لا يتفوق فيها سابقًا حكم النظام السوري عن حكم الفصائل المسلحة في مناطق خارج سيطرة النظام في سورية، في تطرفها لرفض الآخر المختلف قوميًا وثقافيًا.
قرأ هيثم حسين جريمة عفرين/ جنديرس قبل أن تسيل دماء نوروز في 21 آذار/مارس 2023، كأنها سطر يعيد نفسه من سلسلة جرائم سابقة وربما لاحقة |
أراد النظام البعثي في سورية بمرجعيته الأيديولوجية السلطوية تغييب الهويات الأخرى المختلفة عنه أو المخالفة له، ومنها الهوية الكردية لما تشكله من تكتل بشري واضح بمرجعية قومية، ففرض التعريب الإجباري، واعتبر ممارسة اللغة غير العربية في الحياة السورية وكذلك الثقافة والألوان جرائم "وطنية" كما يذكر الكاتب: "كانت حياتنا في سورية، وبخاصة في عامودا، رحلة متجددة من المعاناة والقيود والرقابة، لا يمكننا التصرف بحرية بأي شيء، كنّا كأننا في سجن كبير، كنا نشعر بأننا محاصرون في مختلف تفاصيل حياتنا، لا يمكننا الكتابة أو القراءة بلغتنا، ولم يكن مسموحًا لنا لسنوات أن نتحدث بلغتنا الكردية في المدارس والدوائر الحكومية... (ص 150)".
حرم نظام الأسد (الأب والأبن) كثيرًا من الكرد السوريين من هوية تعرف بجنسيتهم، واعتبرهم "مكتومي الهوية"، واعتقل وقتل كل من حاول مخالفة قوانينه، سواء من الكرد أو العرب أو باقي القوميات على اختلاف مذاهبهم وأيديولوجياتهم، وبعد دخول مرحلة الصراع المسلح الذي أعقبت الثورة السورية عام 2011 واستيلاء مجموعات من المسلحين لاحقًا على حكم ما سمي "مناطق محررة"، تم تجريم وتكفير بل التغاضي عن جرائم قتل المختلف عنهم تحت ذرائع مختلفة وفي مقدمتها "دينية" هذه المرة، وخصوا الكرد تحديدًا بعدائهم. ووفق هذا المسوغ استباح مسلحون دماء أكراد كانوا يحتفلون بعيد نوروز بإيقاد شعلته، قتلوا بعضهم وأصابوا آخرين، وهكذا صار القتل مشرعًا تحت غطاء التبريرين "الوطنية أو الدينية" لكل مختلف مع النظم الحاكمة في سورية، ما يجعل كل مواطن سوري مختلف أو مخالف لهم متهما، وعليه أن يحمل كفنه في يده.
تنامت المشكلة "العنصرية" في سورية بعد الثورة السورية عام 2011 بأشكال عديدة بعد أن كانت مقتصرة على ضدين أساسيين هما: أنصار المنظومة الحاكمة بكل قوانينها، أو معارضوها، وما تبقى من عنصريات "صغيرة" كانت تمارس بصمت تحت غطاء العادات والتقاليد.
إلا أنه بعد أن عوّم النظام العنصرية الطائفية العلوية بمواجهة الثورة التي ادعى أنها "سنية" لإخماد شعار المواطنة المتساوية الذي ساد هتافات السوريين بداية الثورة "واحد- واحد- واحد- الشعب السوري واحد" قابلته بعض فصائل المعارضة بخطاب عنصري مماثل نتج عنه انشقاقات المعارضين، منهم لاعتراضه على الانغماس بالخطاب الطائفي أو العنصري، ومنهم إلى مزيد من اعتناق الفصل العنصري، الذي وصل إلى إعادة تعويم منطق عنصرية المدينة والريف والدين والقومية، وصولًا إلى الفصل التبعي للدول التي ينتمي لها كل فصيل وإنكار حق الوجود لمن هو مختلف عنهم بأي من العناصر السابقة.
هذا المقال ليس دراسة أو قراءة نقدية لسيرة الكاتب السوري هيثم الحسين "العنصري في غربته" ولكن لأن انتشارها والإعلان عنها في صحف عديدة تزامن مع هذه الجريمة البشعة بحق أكراد عزّل، والكاتب كردي القومية واللغة والثقافة والتفكير، بالتساوي مع سوريته ولغته العربية واتساع تعمقه فيها. عدت إلى الكتاب مرة أخرى، فكان بمثابة أداة توضيح لتفاصيل عميقة عن أسباب انتماء كل منا إلى العنصرية في وقت ما من حياته، وأهم ما في سردية هذه السيرة أنها لا تنفي عن الكرد أنفسهم وباء العنصرية، بل تشرح عنصريتهم وتضعها في مواجهة مع نفسها. يصارح الكاتب أبناء "قوميته" عن أنواع وأشكال العنصرية المتوارثة في مجتمعهم الصغير والكبير، من عنصرية اللون إلى عنصرية الحارة والقبيلة والحي والمدينة والريف.
يقول: "في معرض توصيف حالتنا البشرية العنصرية تتخلّل مراحل حياتنا كآفاتٍ موسمية، بعضنا يتحرّر منها وآخرون يظلّون موبوئين بها، يصارعون ألوانهم وأشكالهم وأعراقهم وأهواءهم من دون أن يشعروا بأنهّم سجناء تاريخ مرضيّ مزمن" (ص7). ويشرح حالة رفض الكردي للآخر المختلف عنه من خلال استعراضه لقصة حب بين شابة كردية وشاب أفريقي تكللت بالزواج، وكيف حول بعض الكرد "العنصريّين المسألة إلى قضية حياة أو موت، وإلى مشكلة تاريخيّة تهدّد مصير الكُرد في راهنهم ومستقبلهم، وتسمّم العرق الذي يتباهون به وبنقائه وتمايزه" (ص 27).
يجدر أخذ العبرة من كتاب السيرة التي يضعها حسين بين أيدي قرائه بشكلها "الفج والقاسي" ليثير لديهم الرغبة في إبداء الرأي بهدف المشاركة أو الاعتراف ربما، لأن الإنكار يعني الاستمرار و"رفض العلاج" فإنه يمكن القول: إن القاتل الحقيقي في جريمة عفرين/ جنديرس ليس فقط المنفذ للجريمة، ومعه كل الداعمين له، سواء الذين يحمون هذه الأعمال أو يتسترون عليها، أو أولئك الذين يدافعون بالكلمة والمرجعيات الثقافية الخاصة بهم، بل هو موروثنا المثقل من العنصريات المتعددة، سواء كنا في ضفة الضحية أو المتهم.
بكل الأحوال إن استعراض العنصرية التي نستشعر بها مع الكاتب في بلاد هجرتنا الأوروبية والأميركية وحتى العربية، والتي قدمها لنا في أكثر من مثال "غربي" ينظر لنا على أننا نحن الآخر المتهم بعداوته لهم، أي على الجهة المقابلة، هم الآخر أيضًا، لم تفرق تلك العنصرية بيننا كمهاجرين أو لاجئين رغم الكم الهائل من الفروقات التي نراها نحن "داخل ذواتنا" بيننا، ما يجعل الكتاب مرآة نقية لواقعنا البشري، نرى من خلالها ملامحنا العنصرية التي تفرض علينا السلوك العدواني تجاه الآخر، وتفرض على المقابل لنا سلوكه العدواني الذي نعيبه عليه.
نحن أمام تصاعد مخيف لعنصريات متنوعة ومتداخلة، لا يبدد انعكاساتها على حياتنا اليومية قوانين الدول، بدليل ما نعانيه في مجتمعاتنا الجديدة الأوروبية حاملة شعار حقوق الإنسان، من عنصريات سواء بسبب جنسياتنا أو لوننا أو ديننا أو سلوكنا. لذلك فالقضية، رغم أن علاجها يبدأ من حلقات مجتمعية صغيرة جدًا تبدأ من الفرد الواحد، هي الإقرار فيها والعمل على تصويرها أنها قضية عالمية، ويجب النظر لها كإحدى مخاطر الواقع والمستقبل القريب على البشرية، تمامًا كتغير المناخ والتسلح النووي وحروب التوسع والديكتاتورية، "إن كان الشرّ الكامن في النفس البشرية يذكّي نيران العنصرية، فإنّ الرهان يكون على العقل في معركتنا لمواجهة أنفسنا وشرورنا قبل أن نوسّع دائرة المواجهة لتشمل مَن هم خارج محيطنا ودائرتنا... لا يمكن أن تحاصر هذه العنصرية المتفشّية التي يتمّ تغليفها بأقنعة لا تستر عريها، ولا تخفي ترقيعاتها، ولا يمكن لأيّ قانون أن يكبحها لأنهّا فوق القانون، أو لا يشملها القانون بحكم أنهّا زئبقية لا يمكن قياسها أو القبض عليها وتجسيدها كفعل يستحقّ الإدانة".
*كاتبة سورية.