}
عروض

"المُموّه": شعرية الهشاشة الإنسانية

إدريس الخضراوي

11 أبريل 2023


صدر للروائي العماني محمود الرّحبي عمل روائي جديد حمل عنوان "المموّه" عن دار المتوسط (2023). هذا العمل الذي يكشف فيه الرّحبي، مستعينًا بالتخييل واللغة، عن الهشاشة الإنسانية من خلال التمويه واستراتيجياته، وعما يبعدنا عن العالم الذي نعيش فيه، يأتي بعد مجموعة من النّصوص التي صدرت للكاتب منها: "خريطة الحالم" (2010)، "درب المسحورة" (2010)، "فراشات الروحاني" (2013)، و"أوراق الغريب" 2017. لا شكّ في أن القارئ العربي يعرف محمود الرحبي كاتب قصّة أكثر منه روائيًا، فقد رسّخ اسمه في حقل القصّة القصيرة بمجموعة من الأعمال القصصية التي لفتت أنظار النقاد إليه سواء بحكم ما تميزت به على صعيد الموضوع القصصي، أو على صعيد عمل الشكل. لذا، فالاستقبال الذي تمتعت به مجاميعه القصصية، هو ما جعله يتوج بجوائز قيمة تقديرًا لإسهامه في تطوير الكتابة القصصية، مثل جائزة السّلطان قابوس (2012)، وجائزة دبي الثقافية (2009)، وجائزة جمعية الكتاب والأدباء، وأن يحظى أيضًا بالتكريم في لندن والقاهرة، وتترجم عينات من قصصه إلى لغات أجنبية.

إذا كانت القصّة القصيرة "الحبّ الأول" لمحمود، بلغة أبي تمام، سلّطت الضوء عليه وكرّسته كاتبًا، فإن ذلك لا يعني أن إسهامه في كتابة الرواية يقلّ عن أعماله الأخرى قيمة سواء من حيث الصنعة الفنية أو العالم الروائي، كما لا يعني هذا الأمر أبدًا القول بأن الرواية عنده غير مؤهلة، مقارنة بالقصة، للتعامل مع الموضوعات الاجتماعية الدقيقة والشخصية المؤثرة، بل، وعلى العكس من ذلك، تَصدرُ أعماله الروائية عن قدرة تكلّمية، كما تُراهنُ على ربط الكتابة بأفق الإبداع والتجديد، وبلورة اقتراحات شعرية مغايرة تنهل من معين كتاب عالميين من طراز ألبير كامي وكافكا وبورخيس هذا الكاتب العالمي الذي يمحضه محمود الرحبي اهتمامًا خاصًّا، ويُكرّسُ له أطروحة دكتوراه يتقصّى فيها "تلقي بورخيس في الثقافة العربية". ومن هذه الزاوية، نعتقد أن تمرّس كاتبنا بالقصّة، وإمساكه بمقتضياتها السردية والأسلوبية، وهي نصّ قصير ومركز قياسًا إلى الرواية، قد أتاح له المهارة الفنية اللازمة كي يَنْحتَ اسمه عن جدارة في عالم الرواية؛ هذا الجنس الأدبي الذي لئن كان يتمرّد على الحدود والضوابط، فإنه يتعين بوصفه محكّ الأدباء كما كتب كرم ملحم كرم عام 1934 مجيبا عن سؤال "ما هو أدب اليوم؟".

جاءت رواية "المموّه" في (54) صفحة من القطع الصغير، وهي نصّ وجيز تتحول معه الرواية إلى سلسلة من اللحظات المتناثرة، واللقطات المتشظية، القابلة لإعادة الكتابة، مما يذكرنا بمجموعة من التجارب الروائية العربية التي تحتلّ مكانة مقدّرة في تاريخ الرواية العربية مثل "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، و"اللجنة" لصنع الله إبراهيم، و"مالك الحزين" لابراهيم أصلان على سبيل المثال، أو بتجارب عالمية لكل من سانت إكزوبيري وألبير كامي، وبورخيس، فضلًا عن الروائي الشهير فرانز كافكا الذي تميزت نصوصه بكونها وجيزة وكثيفة وملتبسة قياسًا إلى الأعمال التي كانت سائدة في عصره، والتي تنتمي إلى ما يسميه الأستاذ سعيد يقطين "الرواية البدينة". ومن المعروف أن "الرواية البدينة" شكّلت في زمن كافكا المعيار الحاسم في تتويج الكاتب، لكنّ هذا الأخير، وعلى العكس من السّائد، كان يفضّل النصّ الوجيز لظروف خاصّة به أضاء عليها بعمق عالم الاجتماع الفرنسي برنار لاهير في دراسته اللماحة: "كافكا: عناصر من أجل نظرية في الإبداع الأدبي".

رغم أن الرواية قليلة الشخصيات، والسّرد فيها يتسلط على عثمان والمموه، إلا أنها تقدّم عالمًا روائيًا مثيرًا للأسئلة، ليس فقط فيما يتصل بعُمان والحياة الاجتماعية التي تعيشها هذه الفئات المضادّة في مجتمع تشكّل فيه النزعة المحافظة نقطة ارتكاز قوية، وإنما أيضًا فيما يتصل بالشخصيات ومساراتها ورؤيتها إلى العالم

عندما نقولُ إن "المموّه" رواية قصيرة، فنحن لا ننظر إليها من مقياس عدد الصفحات، صحيح أن هذا المقياس هو المعتمد بقوة عند أغلب المنظرين، خاصّة في سياق التعريف بالرواية وتمييزها عن القصّة، ومع ذلك فنحن نرمي إلى الإشارة إلى مستوى آخر يميز هذا النصّ، يتمثلُ في كثافة الجملة السردية، ودقة التصوير، والقدرة على الاستبطان والتوغل عميقًا في نفسية الشخصية كشفًا عن الهشاشة التي تعتريها، والحرص على قول أكبر قدر من المعاني بأقل عدد من الكلمات، وهي معادلة من الصعوبة بمكان بحيث لا يقدر على حلّها إلا الممتلك لعدّة السرد، والمتمرس، مثل محمود الرّحبي،  بالكتابة الوجيزة التي قد يَنطبقُ عليها هذا الوصف حتى وإن تجاوزت صفحاتها المائة.

تحكي الرواية قصّة شاب عماني في الرابعة والثلاثين من العمر، لم يكمل دراسته، عاطل عن العمل ومطلّق يعيش مع والدته التي غادر أبناؤها الآخرون بعدما اختاروا أن يستقلوا بحيواتهم الخاصّة. تبدأ أحداث القصّة من اليوم الذي قرّر فيه المموّه الذّهاب إلى المسجد لأداء صلاة الفجر، وكان الجوّ شتويًا والظلام يطبق على نواصي الرؤية، وعندما خرج من المسجد اكتشف أن نعله سرق، فلم يجد من حلّ سوى أن يفعل الأمر نفسه بالاتجاه إلى أنعل الحمامات (الرواية، ص:7)




هذا الشاب الثلاثيني لم تترك له الحياة من خيار سوى العيش في كنف والدته التي لا تحفل بالدنيا كثيرًا، فهي بالنسبة لها ليست سوى محطّة عابرة، والاستفادة من الرّعاية التي يحرص الأبناء على الوفاء بها تجاه والدتهم. لا تفتأ الأم تحثّ ابنها على الالتزام بالصلاة والمواظبة عليها، بما في ذلك صلاة الفجر، أملًا في أن ينعم بالحياة في الدار الآخرة بعدما خسر الدنيا كما تدلّ على ذلك الانكسارات والأعطاب التي اكتوى بنارها.

هذا الشاب الذي لا نعرف اسمه في الرّواية، فهو بلا اسم، وإذا كان من شيء يدلّ عليه فهو صفة المموّه التي يوصف بها، وصاحب اللحية العريضة، يواظب على صلاة الفجر تقديرًا لوالدته، وحتى يطمئنها على مساره أطلق اللحية، لكنّه بات موضع شكّ من أفراد أسرته، فهو، في الحقيقة، لم يفعل ذلك إلا من أجل العمل في حانة. يتغير مسار المموّه بظهور شخصية جديدة في عالم الرواية لا تقلّ عنه لغزية وغرابة وإثارة للحيرة والتساؤل. وهنا يركز الروائي على إبراز هشاشة وانقيادية هذه الشخصية الروائية، وقابليتها للتطويع. يلتقي المموه بصديقه القديم عثمان العازب الذي يعرض عليه عملًا يتقاضى من ورائه ما كان يتقاضاه من عمله السابق كمراقب عمال بمصنع البلاستيك بالرسيل، الذي طرد منه بسبب النّوم الذي لا يقدر على مقاومة سطوته. أما العمل الذي سيتعيّن على المموه القيام به مقابل المال، فهو أن يرافق عثمان إلى الحانات التي يرتادها للتمويه على النظرات المختلفة التي تتجه إليه بحكم قيامه ببيع الحشيش للباحثين عن المتعة في هذه الأماكن. وحتى يستفيد من هذا العرض، يجب على صاحب اللحية العريضة أن يجلس ويستمع إلى صديقه، وأن يطلق اللحية، ويتخلّى عن الهاتف، وألا يطرح الأسئلة. وبما أن الشاب يمتلك لحية طويلة ولا يكف عن مسحها بيديه، فإن مشهده في قلب الحانة، في زمن التشدّد الديني، يجعل الأنظار متجهة نحوه أكثر من عثمان الذي يتفرّغ لخدمة زبنائه الباحثين عن سعادة مفقودة.

تؤكد رواية "المموّه" مكانة محمود الرحبي كواحد من الكتاب الذين يؤمنون بأن الرّواية لا تتجدّد ولا تعيش حياتها اللاحقة إلا من خلال التجريب المبدع

يَنهضُ المموّه بالسرد بضمير المتكلّم في الرواية، حيث يقدّم تفاصيل عن والدته وطريقتها في العيش ونظرتها إلى الحياة، فضلًا عن علاقتها بجيرانها وبعماته، كما يحكي عن صديقه عثمان العازب ذي الجسم الضخم والذي لا يفعل شيئًا سوى الشرب والتدخين والأكل والنوم، وعن جاره عبد الله الذي يتريض ساعتين كلّ يوم. أما الأحداث الأساسية فتدور في أغلبها، في المساء حيث ترتاد الشخصيات فضاءات هامشية في مدن مطرح وضفار ونزوى حيث ينشط توزيع الحشيش، وتتحرّك جماعات لها طقوس خاصّة. من خلال ملفوظه، يقربنا السارد من تلك المتعة المختلفة التي يستشعرها في الحانة، والأنظار مصوبة نحو لحيته العريضة التي تغطي وجهه وتنسدل على صدره. إن ولوجه الحانة يؤدّي إلى انتزاع الزبائن من أسطورة عالمهم الحاضر المعيش، الظاهراتي. لنقل بقدر ما يحتل المموه مكانه داخل الحانة، يغدو عثمان غير مرئي حتى وهو إلى جانبه أو يلج عالم اللامرئي حيث يَصيرُ طليقًا.

رغم أن الرواية قليلة الشخصيات، والسّرد فيها يتسلط على عثمان والمموّه، إلا أنها تقدّم عالمًا روائيًا مثيرًا للأسئلة، ليس فقط فيما يتصل بعُمان والحياة الاجتماعية التي تعيشها هذه الفئات المضادّة في مجتمع تشكّل فيه النزعة المحافظة نقطة ارتكاز قوية، وإنما أيضًا فيما يتصل بالشخصيات ومساراتها ورؤيتها إلى العالم الذي تعيش فيه، واللغات الاجتماعية التي تتكلمها. فصاحب اللحية الطويلة لا اسم له، مما يدلّ بقوة على موقعه الاجتماعي، والمكان الهامشي الذي يشغله، والوضعية الصعبة التي يعيشها كتابع ومنقاد. فهو يؤدّي دوره التمويهي كما يجب، مما يجعل عثمان يشعر بالمتعة وهو "يرى الذهول على محيا الداخلين حين ينظرون إلى لحيتي" (الرواية: ص47).

يأخذ المموّه وضع من يوجد ضمن العالم الذي يتحرّك فيه وخارجه. تتعدّد أبعاده ودلالاته إلى الحدّ الذي يبدو فيه موضوعًا سيميائيًا معقدًا، خاصّة إذا ربطنا بين التمويه واستراتيجيات التمثيل الذاتي وتمثيل الآخر التي يتمّ تحريكها وفقًا لصراع القوى. أما عثمان العازب فهو في حدّ ذاته يشكّل عالمًا غريبًا ولغزيًا، يبدأ من صاحب اللحية سائقه الذي لا يتركه يسوق السيارة إلا في أوقات محددة، وجليسه المختصر في اللحية العريضة. لا ينام عثمان إلا بعد أن يحشو صدره بالحشيش والسّعوط، ولا يفصح عن شخصه. كما أن والده وأخاه أحمد كانا يفعلان الأمر نفسه، وماتا بعد أن غافلهما الموت أثناء النوم. وعندما نتأمل الفضاءات التي ترتادها الشخصيات، خاصة فضاء الحانة والملهى الليلي، تبدو لنا وضعية هذه الأماكن المدينية التي يعيد المؤلّف خلقها في روايته، بسيطة من شدّة كونها غير معرّضة للوصف الدقيق الذي نلفيه في الرواية الواقعية، لكنّها مع ذلك، وبالنظر إلى الزوايا التي يتسلط عليها كلام الشخصية، ومن خلال اللغة الروائية التي يبدع الرحبي في صنعها، والمفردات التي ينتقيها بعناية بشكل يستطيع معه القارئ أن يتنبّه إلى السياقات المسهمة في تكوين شخصيته الثقافية، تتبدّى تلك الفضاءات مرتبطة بالسياسي فيما هي تسلّط الضوء بشكل مثير للسخرية من مجتمعات اليوم التي تستبدل القمع بالمراقبة، وبالتالي عاكسة الكثير من القضايا الوجودية كالموت والضياع والاستلاب والبؤس، خاصّة عندما نربطها بالسياق التاريخي الذي تدور فيه أحداث الرواية، والذي هيمنت فيه تيارات دينية عنيفة ومتشدّدة.

لا شكّ في أن قراءة "المموّه"، هذه الرواية القصيرة التي تأخذ شكلَ الكتابة الشذرية، وتبرز فيها طريقة الرحبي الحديثة في التعامل مع القصّة وتصوير الواقع فيما هي تتمرّد على الشكل التقليدي بما يسود عالمها من ضروب الغرابة والحيرة والسّخرية والتردد، تَكشفُ لنا بقوة ما يتواري خلف عوالم خفية وسرية، كما تحثنا على قراءتها من منظور مقارن، وفي ضوء تجارب أدبية فكرت روائيًا في الموضوع ذاته أعني التمويه أو التخفي مثل رواية "التمويه" للكاتبة الروسية إلزا تريولي، وهي الرواية الأخيرة التي كتبتها باللغة الروسية عام 1928 وصدرت في الطبعة الفرنسية عن دار غاليمار عام 1976. وعلى هذا الأساس، تؤكد رواية "المموّه" مكانة محمود الرحبي كواحد من الكتاب الذين يؤمنون بأن الرّواية لا تتجدّد ولا تعيش حياتها اللاحقة، إلا من خلال التجريب المبدع الذي لا يقتصر على عمل الشكل الذي هو ثمرة الموهبة الخاصّة وحسب، بل يجعل من الشكل الفني الإمكانية الحاسمة لوضع ما لا يمكن عرضه في سياق قابل للعرض، وللتعبير عن ذلك السؤال العميق الذي يرتبط بأشدّ الارتباط ليس فقط بما يتجاوز قدراتنا على الإحساس والمعرفة، وإنما أيضًا بواقع الإنسان العربي ونفسيته المطبوعة بالتأزم وعدم الاستقرار. 

*ناقد من المغرب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.