}
عروض

"الشيطان الذي بداخلنا": تبعات الافتقار إلى هدف في الحياة

عمر كوش

2 أبريل 2023


لا تخرج رواية "الشيطان الذي بداخلنا"، للأديب التركي صباح الدين علي (1907 - 1948)، التي نشرت في عام 1940، عما دأب عليه في روايتيه، "كويجاكلي يوسف" الصادرة في 1937، و"مادونا ذات معطف الفراء" الصادرة في 1942، من حيث أسلوبه القائم على السرد الحديث، الممتع والمتدرج، وعلى رؤية نقدية واقعية، متعددة الأبعاد، الأمر الذي يمنحها راهنية، وحضورًا مميزًا، يتجاوز الزمن الذي كتبت فيه، خاصة من جهة موضوعاتها والنماذج الإنسانية التي يتناولها، حيث يقدم صباح الدين علي في هذه الرواية شخصيات من الواقع التركي، محملًا كل شخصية منها رسالة ذات بعد اجتماعي وسياسي معين.

عُرف صباح الدين علي في رواياته بتركيزه على النقد الاجتماعي، من خلال تناوله هموم الإنسان وأحواله المعيشية، ووجه خلالها سهام نقده اللاذع إلى النخب الثقافية والاجتماعية والسياسية، التي كانت سائدة في تركيا خلال فترة أربعينيات القرن العشرين المنصرم. وعانى طوال حياته من أجهزة الرقابة التركية، وسلطات القمع، خلال حقبة أتاتورك، وتم سجنه في عام 1932 مدة عام، بدعوى أنه كتب قصيدة ساخرة عن أتاتورك. وفي عام 1948 خرج من السجن بعد ثلاثة أشهر قضاها فيه، وبات يعيش أوضاعًا صعبة، بعد أن فقد عمله وتمّ حرمانه من المنابر التي كان يكتب فيه، فحاول استخراج جواز سفر كي يتمكن من السفر خارج البلاد، لكن السلطات لم تمنحه ذلك، وبات من غير الممكن أن يسافر خارج تركيا بالطرق القانونية، فقرر الهرب إلى بلغاريا، لكن من ساعده في محاولة الهرب قام بقتله. وعلى الرغم من أن القاتل اعترف بجريمته، وحكم عليه بالسجن أربع سنوات، إلا أنه بات طليقًا بعد بضعة أسابيع من سجنه، الأمر الذي ألقى بظلال من الشك على أن جريمة قتله كانت مدبرة.

تنهض "الشيطان الذي بداخلنا" (ترجمة أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، دار مرايا، الكويت، 2022) على قصة حبّ عادية، بين شاب يدعى عمر، وفتاة تدعى ماجدة، وتدور أحداثها في مدينة إسطنبول خلال أربعينيات القرن الماضي، حيث تسرد صراعًا مشحونًا بالتوترات، يدور بين مجموعة شخصيات، تنتمي إلى الوسطين، الأدبي والصحافي، وتجمع بينهم علاقات متوترة ومشوهة في مجتمع قلق ومأزوم. وقد لاقت الرواية أصداء نقدية كبيرة في أوساط المثقفين القوميين الأتراك، وهاجمه العديد منهم، كما هاجم غاضبون منهم الصحيفتين اللتين كان يكتب فيهما في ذلك الوقت، وعاثوا فيهما خرابًا. إضافة إلى استبعاده من وظيفته كمدرس للغة الألمانية.

تبدأ الرواية من حديث عمر مع صديقه نهاد على متن عبارة، كانت تقلّهما من حي "قاضي كوي" على الطرف الآسيوي في مدينة إسطنبول إلى الجسر الرابط بين "إيمينونو" و"كراكوي" في طرفها الأوروبي. وخلال الرحلة يقع في حبً ماجدة من النظرة الأولى، التي كانت بصحبة امرأة عجوز وبدينة كانت تقف بجانب الفتاة. إنها الخالة أمينة إحدى قريباته من بعيد، التي أخبرته بأن ماجدة، حفيدة جد أمه الأكبر، وتدرس في "الكونسرفتوار" (معهد الموسيقى).



عاشت ماجدة، التي تقاسم عمر بطولة الرواية، طفولتها في بيت نبلاء بمدينة "باليك كسير"، وكانت تبدو وقورة، وأداؤها يوحي بأنها متسلطة، كما كانت تعتني بدروسها لوحدها. وحين عرفت أمينة هانم بموهبة ماجدة، أقنعت والديها بأن تأخذها معها إلى اسطنبول، كي تدرس الموسيقى في المعهد وتسكن في بيتها، فيما تولى والد ماجدة إرسال مبلغ من المال كل شهر مقابل ذلك، وكان هذا المبلغ كافيًا لإسكات غالب باي، زوج أمينة هانم.

يمتلك المكان في هذه الرواية ذاكرة مستعادة لحواري وأزقة إسطنبول، فضلًا عن حاناتها ومطاعمها ومقاهيها، إذ تأخذ المقاهي، قبل غيرها من الأمكنة، تشكيل ملامح شخصيات تجلس حول طاولاتها، كي تنفث دخان السجائر وهموم الحياة، وتتقاسم النقاش بحرارة مع طاولات مجاورة، ويتداول فيها الجالسون نموذجًا "لخليط بين الكلمات النخبوية، مثل: إدراك، تفكير، معيار، نظام، وعي وغيرها من الكلمات النخبوية، وبين كلمات مثل: أراهن على... والترويج لفكرة، والدلال السياسي". كان ذلك في أربعينيات تركيا المنقضية، حيث كان الزمن المجزأ يحايث بتثاؤب تلك الأمكنة، التي كانت تجمع بين صحافيين وشعراء وكتاب وحالمين بتغيير العالم وقلبه رأسًا على عقب.

عُرف صباح الدين علي في رواياته بتركيزه على النقد الاجتماعي، من خلال تناوله هموم الإنسان وأحواله المعيشية، ووجه خلالها سهام نقده اللاذع إلى النخب الثقافية والاجتماعية والسياسية، التي كانت سائدة في تركيا

يبوح عمر لصديقه نهاد بأنه غير راض عن عيشته، بوصفه عالة على الآخرين، لكن الشيطان الذي بداخله هو من يدفعه إلى ذلك، بل ويجعله على الدوام يفعل أشياء عكس ما يريده تمامًا، الأمر الذي يثير سخرية الكاتب الكبير عصمت شريف، ذلك أن كلام عمر عن الشيطان ليس شيئًا خارقًا، لأن الجميع لديهم هذا الشيطان، لكن عمر لم يتمكن من السيطرة على الشيطان الذي بداخله بعد ارتباطه بماجدة، فيما كانت ماجدة تقترب منه بحذر، وشكّل عمر لها الفرع الوحيد الذي يمكنها الاحتفاظ به. ومع ذلك، لم يتخلّ عمر عن أصدقائه أو مهنته التي لا معنى لها أو ملذاته، ولم يتمكن من مغادرة محيطه الخارجي، الذي ينشط الشيطان في داخله.

بالمقابل، استسلمت ماجدة للأوامر، وجاءت تنازلاتها وفق منطق الحصول على كل شيء أو لا شيء الباهظ الثمن، لذا كلفتها قراراتها كثيرًا، ولم تتعلق بالحد الذي وضعته ثمن ذلك، حيث أفضى تخليها عن عائلتها إلى تمسكها بأقاربها، وتخليها عن أقاربها إلى ارتباطها بعمر، ثم تخليها عن عمر إلى بدري. وهنا يريد الروائي أن يذكرنا بأن لا أحد بريء من الخطيئة إن لم يُختبر، وأنه كلما زادت الفرص تضاعفت البدائل، ويصبح من الصعب السيطرة على الشيطان بداخلنا.

يظهر الحدث الروائي أن ماجدة كانت راغبة في أداء واجب العبودية على أحسن شكل، اعتمادًا على معادلة توازن بين الإمكان والقيمة في جانب من جوانب الحياة، حيث يمكن للإنسان الحصول على وظيفة، وعلى زوج، وحياة يرغب بها، لكن السؤال هو ماذا بعد؟ فالتحدي الأكبر في الحياة هو اختيار ما لدى الإنسان، وهل يتم توظيف ما لديه للممتلكات أم الرغبات؟ تتوقف الإجابة التي يقدمها الروائي على مدى القدرة في السيطرة على الشيطان بداخلنا، لذلك خسر عمر ماجدة.

تحتفي الرواية بشخصيتين أخريين، إلى جانب عمر وماجدة، هما حافظ أفندي، ملجأ عمر، وبدري مأوى ماجدة وصديق عمر، حيث يظهر حافظ أفندي في الرواية بوصفه رجلًا يوثق به، ويمارس عمله في دائرة البريد التي يعمل عمر فيها دون حاجة إليه، لكن كثرة الضمير لديه أحيت الشيطان الذي بداخله، وتصرّف بما لا يناسبه، فسرق مبلغًا كبيرًا من المال من الصندوق المسؤول عنه، كي ينقذ صهره من مشكلة واجهها، وفي إثر ذلك تنهار حياته كاملة. أما بدري مدرس الموسيقى، فهو يكن مشاعر خاصة لماجدة منذ أن كانت تلميذته، لكنه يعي حجم الأسى الذي ستلحقه أي علاقة معها بحياته الاجتماعية، وبحياة ماجدة، وحين تتقاطع طرق بدري وماجدة في منتصف الرواية، لا يترك مجالًا للشيطان الذي بداخله، فهو صديق مقرب من عمر ومعارفه، لذا يسلّم بفقدانه ماجدة فترة طويلة، وهذا يناسب ما دأب عليه من التمادي في إيثار الآخرين، الذي جعله يفقد ما كان يرغب به. ولعل الروائي أراد إيصال رسالة من خلال بدري، مفادها أن هناك حاجة على الدوام إلى عقل إنساني عظيم في الحياة.

يبدع صباح الدين علي في رسم شخصية المثقف التركي الانتهازي، التي تتغلغل في الأوساط الثقافية، وتمتد في مؤسساتها ومحافلها، لكن روايته تفضح تصرفاتها، وتكشف أقنعتها، لتنتهي الرواية بانتهاء حكاية حب عمر وماجدة، حيث تضع عمر وثلة أصدقائه من الكتاب والشعراء والصحافيين في موقف بائس، تنقلوا فيه من مطعم إلى آخر، ودارت بينهم أحاديث حول الأدب والأدباء المزيفين، وأكثروا من الشراب. وفيما كانت ماجدة ذاهبة إلى مرحاض أحد المطاعم، تفاجأت بأن الكاتب عصمت الشريف يحاول التحرش بها، ولم يفعل زوجها عمر شيئًا حين شاهد ما قام به عصمت الشريف، وتذرع لها بأن الرجل ليس في وعيه، وأنه مدين له بعشر أو خمس عشرة ليرة، وبالتالي لا يمكنه أن يفعل شيئًا حياله، وبانتهاء ليلة ماجنة ينتهي حب عمر وأصدقاؤه لكسب المال بخيبة أمل، ذلك أن أي شيء يحصل عليه المرء بدون تعب ينتهي بإحباط، وربما يعود سبب ذلك إلى الإنسان حين لا يكون لديه أي هدف يعمل بجد من أجل تحقيقه، فإن الأسهل له الاستسلام إلى الشيطان. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.